سلسلة النقد والتحقيق

اشارة

نام كتاب: سلسلة النقد والتحقيق نويسنده: حسيني ميلاني، علي موضوع: عقائد

زبان: عربي تعداد جلد: 3

ناشر: الحقائق مكان چاپ: قم

الحق المبين المجلد 1

كلمة المركز … ص: 5

الحمد للَّه ربّ العالمين والصّلاة والسّلام علي محمّد وآله الطاهرين.

وبعد، فقد قرّر المركز تشكيل لجنةٍ تقوم- بإشراف وتوجيه من سيّدنا الفقيه المحقّق آية اللَّه السيد علي الميلاني- دام ظلّه- بنقد بعض البحوث المنتشرة من المعاصرين وتحقيق بعض الكتب التراثيّة الصغيرة في الحجم والكبيرة في الفائدة، في مختلف العلوم والمسائل الاسلاميّة، وإخراجها في سلسلة تحت عنوان (سلسلة النقد والتحقيق) خدمةً للعلم والدين، وإحقاقاً للحق المبين، وإحياءً لآثار العلماء المحقّقين وتوفيراً للمصادر النافعة للباحثين، سائلين المولي الكريم المفضال أن يتقبّل منّا هذا العمل وسائر الأعمال.

مركز الحقائق الإسلامية

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 7

كلمة لجنة النقد والتحقيق … ص: 7

اشارة

الحمد للَّه ربّ العالمين والصلاة والسلام علي خير خلقه محمّد وآله الطاهرين.

وبعد، فإنّ وصاية أمير المؤمنين عليه السلام لرسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم ممّا وردت فيه الأحاديث المتكثّرة في كتب الفرق الإسلاميّة، وشهدت به الآثار المنقولة عن الصحابة والتابعين، والأشعار المرويّة عنهم وعن سائرالعلماء والشعراء إلي يومنا هذا.

وقد عُنِيَ جماعة من علماء المسلمين بجمع الأدلّة والشواهد علي ذلك وتأليف كتب مفردةٍ فيه.

ولعلّ من خيرة الكتب في الباب هو كتاب (العقد الثمين في إثبات وصاية أمير المؤمنين) تأليف الحافظ القاضي محمد بن علي الشّوكاني الصنعاني المتوفّي سنة 1250، فقد أورد عدّة من الأحاديث في سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 8

الموضوع عن جمعٍ من صحابة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، وانتقد ما روي عن بعضهم من إنكار الوصاية بالنقد العلمي الرصين.

سبب تأليف الكتاب … ص: 8

لقد ذكر الحافظ الشوكاني في مقدّمة الكتاب السّبب في تأليفه له فقال: «سألني بعض آل الرسول صلّي اللَّه عليه وآله الجامعين بين فضيلتي العلم والشرف من سكّان المدينة المعمورة بالعلوم، مدينة زبيد، عن إنكار عائشة ام المؤمنين زوجة النبي صلّي اللَّه عليه وآله لصدور الوصيّة من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، لمّآ ذكروا عندها أنّ أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام كان وصيّاً لرسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله. وهذا ثابت من قولها في الصحيحين والنسائي من طريق الأسود ابن يزيد بلفظ: «متي أوصي إليه؟..»

ثم قدَّم قبل الورود في البحث مطالب مفيدة جدّاً، وأشار إلي قواعد علميّة نافعة للباحثين، وتعرّض لبعض حالات عائشة زوجة النبي (صلّي اللَّه عليه وآله) وما نقل عنها في المسائل المختلفة.

ثم جعل الكتاب في مبحثين:

الأول: في إثبات مطلق الوصيّة منه صلّي اللَّه عليه وآله.

والثاني: في إثبات مقيّدها، أي كونها

إلي علي عليه السّلام.

فأورد في المبحث الثاني طائفةً من الأحاديث عن أشهر كتب أهل سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 9

السنّة في الحديث، رواها الأئمة الأعلام بأسانيدهم إلي الصحابة عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، فيها الدلالة الواضحة علي وصيّته لأمير المؤمنين عليه السلام.

ولايخفي أنه لم يكن بصدد الاستقصاء لجميع الأحاديث الواردة في الباب، وإلّا فإنها أكثر وأكثر، بل لقد أشتهر بين الصّحابة والتابعين فمن بعدهم «الوصيّ» لقباً لعليٍ عليه السّلام، ويشهد بذلك نفس الأحاديث في الصحيحين في إنكار عائشة الوصيّة إليه … هذا، مضافاً الي الأشعار المرويّة في الكتب المعتمدة عن الصحابة وغيرهم المشتملة علي هذااللقب للإمام عليه السلام، وحتي اللغويون يذكرون ذلك في كتبهم اللغويّة في مادة «وصي».

طبعات الكتاب … ص: 9

وقد طُبِعَ هذا الكتاب لأوّل مرة في صنعاء اليمن عام 1411 من النسخة المخطوطة الموجودة في الجامع الكبير، نشر دار التراث.

ثم طبع مرّةً اخري، سنة 1413 هجريّة، حقّقه وخرّج أحاديثه، أبو هارون عيسي بن يحيي بن معافي شريف، نشر مكتبة الصحابة في جدّة ومكتبة التابعين بالقاهرة.

وطبع ثالثةً، سنة 1419 هجرية، بتحقيق عدنان السيد علي الحسيني، نشر مركز الغدير للدراسات الإسلامية. قم- إيران.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 10

وطبع رابعةً، سنة 1425 هجرية، بتحقيق فاضل الفراتي، نشر مكتبة هيئة الأمين بالكويت.

محاولات لتضعيف الكتاب … ص: 10

هذا، وقد حاول بعض الناس الطعن في هذا الكتاب بشتّي الوجوه، فكان أوّلها إنكار أن يكون من تأليف الحافظ القاضي الشوكاني.

لكنّ الكتاب مطبوع في اليمن عن نسخةٍ موجودة في الجامع الكبير، وقد نسب إلي مولّفه في كتاب (هديّة العارفين في أسماء المؤلّفين وآثار المصنّفين) وفي (ذيل كشف الظنون في أسماء الكتب والفنون) ونسبه إليه بكلّ صراحةٍ ووضوح: مؤرّخ اليمن محمد بن محمد بن يحيي بن زبارة الحسيني الصنعاني المتوفّي سنة 1381 صاحب كتاب (نيل الوطر من تراجم رجال اليمن في القرن الثالث عشر).

ثم قالوا: إنّ الشوكاني قد ألّف هذا الكتاب في أوّل أمره، فلمّا عرف السنّة ووضّحها علي منهج السّلف عدل عمّا ذكر فيه وانتهي إليه.

لكنّ القاضي الشوكاني قد ألّف هذا الكتاب- كما عن نسخته الأصليّة- بسنة 1205، أي ألّفه وعمره 32 سنة.

فهناك انبروا للطّعن في أسانيد الأحاديث التي استدلّ بها في المبحث الثاني، استناداً- في الأغلب- إلي آراء أبي الفرج ابن الجوزي في سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 11

(كتاب الموضوعات) ومَنْ حذا حذوه.

كلّ ذلك- كما صرّحوا- لئلّا يغترّ الشيعة الاثنا عشرية بهذا الكتاب ولئلّا يتّخذوه ذريعةً للطّعن في عائشة ومَنْ أنكر الوصاية لأمير المؤمنين.

لكنّ تلك

المحاولات لا تجدي أصحابها نفعاً، لأنّ أهل العلم يستمعون الأقوال وينظرون إليها نظرةَ الباحث المحقّق، فما وجدوه حقّاً أخذوا به، غير مبالين بمثل تلك المحاولات، لا سيّما وصاحب الكتاب من كبار العلماء في الحديث والفقه وسائر العلوم.

ترجمة المؤلِّف … ص: 11

وهو الحافظ الفقيه المحدّث محمد بن علي بن محمد بن عبداللَّه الشوكاني ثم الصنعاني.

ولد بقرية شوكان من خولان العالية، في ذي القعدة الحرام سنة 1173، وكان فقيهاً مجتهداً، من كبار علماء اليمن، من أهل صنعاء، وكان يري حرمة التقليد، له 114 مؤلّفاً في مختلف العلوم، من أشهرها:

* نيل الأوطار (في الفقه).

* فتح القدير (تفسير للقرآن الكريم).

* الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة.

* إرشاد الفحول (في علم الاصول).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 12

* إتحاف الأكابر بأسناد الدفاتر. وهو ثبت مرويّاته عن شيوخه.

* البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السّابع (تراجم العلماء).

* درّ السحابة في فضائل القرابة والصحابة.

وتولّي القضاء بمدينة صنعاء.

وتوفّي بها في جمادي الآخرة، سنة 1250.

وتوجد ترجمته مفصّلة بقلمه في البدر الطالع 2/ 214- 225.

عملنا في الكتاب … ص: 12

وقد رأينا من الواجب علينا نشر هذا الكتاب في طبعةٍ محقّقةٍ، ذكرنا فيها مصادر الأحاديث، وعملنا علي تصحيح أسانيدها علي ضوء كتب أهل السنّة المعتمدة، وبالاستناد إلي كلمات كبار علمائهم في الجرح والتعديل، خدمةً للدّين الحنيف، والباحثين المحقّقين بإنصاف، وقد ألحقنا ذلك بمتن الكتاب حسب تسلسل الأحاديث المذكورة في المبحث الثاني منه.

وقد سمّينا هذا العمل ب (الحق المبين في تخريج أحاديث العقد الثمين).

هذا، ومن الواجب علينا أنْ نذكّر بأنا قد استفدنا كثيراً في تحقيق الكتاب وتخريج أحاديثه من مؤلَّفات سيدنا الاستاذ الفقيه المحقق آية اللَّه الميلاني وإرشاداته وتوجيهاته.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 13

واللَّه نسأل أن يحشرنا في زمرةالعاملين بالسنّة النبويّة الثابتة ويتقبّل أعمالنا بقبول حسن، إنّه رؤوف رحيم.

لجنة التحقيق بمركز الحقائق الاسلامية

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 15

العقد الثمين في اثبات وصاية أميراالمومنين … ص: 15

مقدمة المؤلّف … ص: 15

أحمدك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت علي نفسك، وأُصلّي وأُسلّم علي رسولك وآله الأكرمين.

وبعد:

فإنه سألني بعض آل الرسول صلّي اللَّه عليه وآله الجامعين بين فضيلة العلم والشرف من سكان المدينة المعمورة بالعلوم، مدينة زبيد «1» عن إنكار عائشة أم المؤمنين زوجة النبي صلّي اللَّه عليه وآله لصدور الوصيّة من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله لما ذكروا عندها أنّ أمير المؤمنين علياً عليه السلام كان وصياً لرسول اللَّه صلّي اللَّه عليه __________________________________________________

(1) زبيد بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة التحتانية بعدها ياء مثناة تحتانية ثم دال مهملة: مدينة مشهورة علي طريق الحديدة وتعز باليمن، تبعد عن الحديدة جنوباً بقدر مائة كيلو متراً أو أكثر بقليل، وهي كانت مشهورة من قبل بمدينة العلم والعلماء.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 16

وآله وهذا ثابت من قولها في الصحيحين، والنسائي من طريق الأسود بن يزيد بلفظ: متي أوصي إليه؟ وقد كنت مسندته

إلي صدري فدعا بالطست، فلقد انخنث في حجري وما شعرت أنّه مات، فمتي أوصي إليه؟. وفي روايةٍ عنها أنّها أنكرت الوصية مطلقاً ولم تقيد بكونها إلي علي عليه السلام فقالت: ومتي أوصي، وقد مات بين سحري ونحري «1» ولنقدم قبل الشروع في الجواب مقدمة ينتفعُ بها السائل.

فنقول: ينبغي أنْ يعلم أولًا: إنّ قول الصحابي ليس بحجة، وأن المثبت أولي من النافي «2»، وأنّ مَنْ علم حجة علي مَنْ لم يعلم، وأنّ الموقوف لا يعارض المرفوع علي فرض حجيته.

وهذه الأمور قد قررت في الأصول. ونيطت بأدلة تقصر عن نقضها أيدي الفحول. وان تبالغت في الطول.

ويعلم ثانياً: أنّ أمَّ المومنين كانت تسارع إلي ردّ ما خالف اجتهادها، وتبالغ في الإنكار علي راويه، كما يقع مثل ذلك لكثير من المجتهدين.

__________________________________________________

(1) الحديث أخرجه البخاري (فتح الباري 5/ 356) وأخرجه أيضاً البخاري (فتح الباري 8/ 148)، ومسلم 3/ 1257، والترمذي في الشمائل، والنسائي 1/ 32 و 6/ 241 وأحمد 1/ 399، 270 و 274.

(2) أي مقدم عليه.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 17

وتتمسك تارة بعموم لا يعارض ذلك المروي، كتغليطها لعمر لما روي مخاطبته صلّي اللَّه عليه وآله لأهل قليب بدر، وقوله عند ذلك: يا رسول اللَّه، إنما تخاطب أمواتاً، فقال له: «ما أنتم بأسمع منهم» فردّت هذه الرواية عائشة بعد موت عمر، وتمسكت بقوله تعالي: «وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ» «1»

. وهذا التمسك غير صالح لرد هذه الرواية من مثل هذا الصحابي، وغاية ما فيه بعد تسليم صدقه علي أهل القليب أنه عام وحديث إسماعهم خاص، والخاص مقدم علي العام، وتخصيص عمومات القرآن بما صح من آحاد السنة هو مذهب الجمهور «2».

وتارة تتمسك بما تحفظه، كقولها لما بلغها رواية

عمر عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله بلفظ: «إنّ الميت ليعذب ببكاء أهله» فقالت:

يرحم اللَّه عمر، ما حدّث رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله أنّ الميت ليعذب ببكاء أهله ولكن قال: «إنّ اللَّه ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه». ثم قالت: حسبكم القرآن: «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْري أخرجه الشيخان والنسائي. وفي روايةٍ أنه ذكر لها أنّ ابن عمر يقول: إنّ الميت ليعذب ببكاء أهله عليه، فقالت: يغفر اللَّه لأبي عبدالرحمن، أما إنه لم __________________________________________________

(1) سورة فاطر: الآية 22 «وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ» وما نافية والباء صلة.

(2) قصة أصحاب القليب وقوله صلّي اللَّه عليه وآله: «وما أنت بأسمع منهم» في صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 301).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 18

يكذب ولكنه نسي أو خطأ، إنما مرَّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله علي يهودية يُبكي عليها. فقال: «إنها ليبكي عليها وإنها لتعذب في قبرها».

أخرجها الشيخان ومالك والترمذي والنسائي «1»، وقد ثبت هذا الصحيح في صحيح البخاري وغيره من طريق المغيرة بلفظ: «مَنْ ينح عليه يعذب بما نيح عليه» «2».

فهذا الحديث قد ثبت عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله من طريق ثلاثة من الصحابة، ثم إنّ عائشة ردّتْ ذلك متمسكة بما تحفظه وبعموم القرآن.

وأنت تعلم أنّ الزيادة مقبولة بالإجماع إنْ وقعت غير منافية، والزيادة هنا في رواية عمر وابنه والمغيرة؛ لأنها متناولة بعمومها للميت من المسلمين، ولم تجعل عائشة روايتها مخصصة للعموم، أو مقيدة

__________________________________________________

(1) الحديث أخرجه البخاري (فتح الباري 3/ 151- 152) في قصة طويلة وفيها إنكارعائشة علي عمر بعد أن مات أو تغليظها له بقولها: رحم اللَّه عمر، واللَّه ما حدث رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله «إن اللَّه

ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه.

(2) الحديث أخرجه البخاري (فتح الباري 3/ 160) فقال: باب ما يكره من النياحة علي الميت، وقال عمر دعهن يبكين علي أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة- والنقع- التراب علي الرأس- واللقلقة الصوت. وساقه بسنده إلي المغيرة قال: سمعت النبي صلّي اللَّه عليه وآله يقول: «إن كذباً عليّ ليس ككذب علي أحد، من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار».

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 19

للإطلاق حتي يكون قولها مقبولًا من وجه، بل صرحت بخطأ الراوي أو نسيانه، وجزمت بأن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله لم يقل ذلك. وأما تمسكها بقول اللَّه تعالي: «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْري فهو لا يعارض الحديث؛ لأنه عام والحديث خاص.

ولهذه الواقعات نظائر بينها وبين جماعة من الصحابة كأبي سعيد، وابن عباس وغيرهما ومن جملتها الواقعة المسؤول عنها أعني إنكارها الوصية منه صلّي اللَّه عليه وآله إلي علي عليه السلام وقد وافقها في عدم وقوع مطلقها منه صلّي اللَّه عليه وآله غير مقيّد بكونها إلي علي عليه السلام ابن أبي أوفي، فأخرج عنه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، من طريق طلحة بن مصرف قال: سألت ابن أبي أوفي هل أوصي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله؟ قال: لا، قلت: فكيف كُتِبَ علي الناس الوصية وأمر بها، ولم يوصِ. قال: أوصي بكتاب اللَّه تعالي «1».

وأنت تعلم أنّ قوله: أوصي بكتاب اللَّه تعالي لا يتم معه قوله: لا في أول الحديث؛ لأنّ صدق اسم الوصية لا يعتبر فيه أن يكون بأمور متعددة حتي يمتنع صدقه علي الأمر الواحد لا لغةً ولا شرعاً ولا عرفاً؛ للقطع بأنّ مَنْ أوصي بأمر واحد يقال له: موصي لغةً وشرعاً وعرفاً،

فلابدّ من __________________________________________________

(1) الحديث أخرجه البخاري (فتح الباري 5/ 356، 8/ 148، 9/ 67)، ومسلم 3/ 1256.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 20

تأويل قوله: لا، وإلّا لم يصح قوله: أوصي بكتاب اللَّه تعالي، وقد تأوّله بعضهم بأنّه أراد أنه لم يوص بالثلث كما فعله غيره، وهو تأويل حسن، لسلامة كلامه معه من التناقض «1».

إذا عرفت هذه المقدمة. فالجواب علي أصل السؤال ينحصر في بحثين:

البحث الأول: في إثبات مطلق الوصية منه صلّي اللَّه عليه وآله.

والبحث الثاني: في إثبات مقيّدها، أعني كونها إلي علي عليه السلام.

__________________________________________________

(1) أنظر: فتح الباري: 5/ 360.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 23

المبحث الأول: في إثبات مطلق الوصية منه صلّي اللَّه عليه وآله … ص: 23

المبحث الأول: في إثبات مطلق الوصية منه صلّي اللَّه عليه وآله أما البحث الأول:

فأخرج مسلم من حديث ابن عباس أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله أوصي بثلاث: أن يجيزوا الوفد بنحو ما كان يجيزهم. الحديث (1).

وفي حديث أنس عند النسائي وأحمد، وابن سعد واللفظ له:

كانت غاية وصية رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله حين حضره الموت:

«الصلاة وما ملكت أيمانكم» «1». وله شاهد من حديث علي عند أبي داود وابن ماجة زاد: «أدّوا الزكاة بعد الصلاة».

__________________________________________________

(1)

الحديث أخرجه أحمد 3/ 117، والنسائي في الكبري 4/ 258 في كتاب الوفاة، وابن ماجة 2/ 900- 901. وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه: إسناده حسن. أ. ه. وأخرجه أيضاً ابن سعد 2/ 253، وابن حبان 8/ 205، والحاكم 3/ 57، والخطيب البغدادي 4/ 239- 240 في كتابه تاريخ بغداد كل هؤلاء من طريق سليمان التيمي.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 24

وأخرجه أحمد «1» وأخرج سيف بن عمر في الفتوح من طريق ابن أبي مليكة، عن عائشة أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله حذّر من الفتن في مرض

موته، وأمر بلزوم الجماعة والطاعة.

وأخرج الواقدي من مرسل العلاء بن عبدالرحمن أنه صلّي اللَّه عليه وآله أوصي فاطمة: «قولي إذا متّ إنا للَّه وإنا إليه راجعون».

وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث عبدالرحمن بن عوف قالوا: يا رسول اللَّه أوصنا- يعني في مرض موته- قال: «أوصيكم بالسابقين الأولين من المهاجرين وأبنائهم من بعدهم» «2». وقال:

لا يروي عن عبدالرحمن إلّابهذا الإسناد، تفرّد به عتيق بن يعقوب وفيه __________________________________________________

(1) حديث علي عليه السلام لفظه: «كان آخر كلام النبي صلّي اللَّه عليه وآله: «الصلاة وماملكت أيمانكم» الذي اعتبره المصنف شاهداً.

(2) الحديث أخرجه البزار 3/ 292. فقال: ثنا بشر ابن خالد العسكري ثنا جعفر بن عون عن حميد بن القاسم بن حميد بن عبدالرحمن بن عوف عن أبيه عن جده عن عبدالرحمن بن عوف قال: لما حضر النبي صلّي اللَّه عليه وآله الوفاة. قالوا: يا رسول اللَّه أوصنا. قال: «أوصيكم بالسابقين الأولين وبأبناءهم من بعدهم، وبأبناءهم من بعدهم، وبأبناءهم من بعدهم إلا تفعلوا لا يقبل منكم صرف ولا عدل» قال البزار: لم يروه إلا عبدالرحمن بن عوف ولا له إلا هذا الإسناد، ولم نسمعه إلا من بشر. قلت: وفيه من لا يعرف حاله كما قال المصنف نقلًا عن الحافظ في الفتح 5/ 363. والحديث أيضاً في معجم المعجمين رقم 3966، والهيثمي في المجمع 10/ 17 قال: رواه الطبراني في الأوسط والبزار ورجالهما ثقات.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 25

مَن لا يعرف حاله.

وفي سنن ابن ماجة من حديث علي قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: «إذا أنا متُّ فاغسلوني بسبع قرب من بئر أريس» «1». وكانت بقباء.

وفي مسند البزار، ومستدرك الحاكم بسند ضعيف أنه صلّي اللَّه عليه وآله أوصي أن يصلي

عليه أرسالًا بغير إمام.

وأخرج أحمد، وابن سعد أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله سأل عائشة عن الذهيبة في مرض موته فقال: «ما فعلت الذهيبة؟» قالت: هي عندي. قال: «أنفقيها».

وأخرج ابن سعد من وجه آخر أنه قال: «ابعثي بها إلي علي ليتصدق بها» «2».

وفي المغازي لابن إسحاق قال: لم يوص رسول اللَّه صلّي اللَّه __________________________________________________

(1) الحديث: «إذا أنا مت فاغسلوني … الخ»؛ أخرجه ابن ماجة 1/ 471.

(2) الحديث أخرجه أحمد 6/ 49، 182 وابن سعد 2/ 238 وفي موارد الظمآن حديث 2142 وزيادة: «ابعثي بها إلي علي ليتصدق بها» أخرجها ابن سعد 2/ 239. والحديث صحيح بمجموع طرقه، وأما الزيادة فهذا سندها. قال ابن سعد 2/ 239 أخبرنا سعيد بن منصور أخبرنا يعقوب بن عبدالرحمن عن أبي حازم عن سهل بن سعد …

فذكره وهذا إسناد صحيح رجاله رجال الصحيح، وكلهم ثقات. أنظر: مجمع الزوائد 3/ 124، والترغيب والترهيب للمنذري رقم 1357.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 26

عليه وآله عند موته إلّابثلاث: لكلّ من الداريين والرَّهاويين والأشعريين بخادم ومائة وسق من خيبر وأن لا يترك في جزيرة العرب دينان وأن ينفذ بعث أسامة «1».

وقد سبق في حديث ابن أبي أوفي أنه صلّي اللَّه عليه وآله أوصي بالقرآن.

وثبت في الأمهات وغيرها أنه صلّي اللَّه عليه وآله قال: «استوصوا بالأنصار خيراً، استوصوا بالنساء خيراً، أخرجوا اليهود من جزيرة العرب».

ونحو هذه الأمور التي كلّ واحد منها لو انفرد لم يصح أنْ يقال أن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله لم يوصِ.

وثبت في الصحيح من حديث أبي موسي أوصاني خليلي بثلاث «2».

ولعل مَنْ أنكر ذلك أراد أنه صلّي اللَّه عليه وآله لم يوص علي الوجه الذي يقع من غيره من تحرير

أمور في مكتوب، كما أرشد إلي __________________________________________________

(1) الحديث قال ابن إسحاق في المغازي 3/ 489، ثنا صالح بن كيسان عن الزهري عن عبيداللَّه بن عبداللَّه ابن عتبة.

(2) أخرجه البخاري (فتح الباري 3/ 56، 4/ 226)، ومسلم 1/ 499 عن أبي هريرة، ومسلم 1/ 499 عن أبي الدرداء.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 27

ذلك بقوله: «ما حق أمري ء مسلم له شي ء يريد أنْ يُوصي فيه يبيت ليلتين إلّا ووصيته مكتوبة عنده». أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر «1»، ولم يلتفت إلي أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله قد نجز أموره قبل دنو الموت، وكيف يظن برسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله أن يترك الحالة الفضلي؟. أعني تقديم التنجيز قبل هجوم الموت وبلوغها الحلقوم، وقد أرشد إلي ذلك، وكرّر وحذّر وهو أجدر الناس بالأخذ بما ندب إليه. وبرهان ذلك أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله قد كان سبّلَّ أرضه. ذكره النووي، وأما السّلاح والبغلة والأثاث وسائر المنقولات، فقد أخبر أنّها صدقة كما ثبت عنه في الصحيح. وقال في الذهيبة التي لم يترك سواها ما قال كما سلف.

إذا عرفت هذا، علمت أنّه لم يبقَ من أمور رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله عند موته يكون عصمة لها عن الضلالة وجنة تدرأ عنها ما تسبب من المصائب الناشبة عن اختلاف الأقوال فلم يجب إلي ذلك وحيل بينه وبين ما هنالك، ولهذا قال الحبر ابن عباس: الرزية كلّ الرزية،

__________________________________________________

(1) الحديث أخرجه البخاري (فتح الباري 5/ 355)، عن ابن عمر أن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله قال: «ما حق امري ء مسلم له شي ء يوصي فيه يبيت ليلتين إلّاووصيته مكتوبة عنده» تابعه محمد بن مسلم عن عمرو عن ابن عمر

عن النبي صلّي اللَّه عليه وآله وأخرجه مسلم 3/ 1249، 1250.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 28

ما حال بين رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وبين كتابه. كما ثبت ذلك عنه في الصحيح البخاري وغيره «1».

فإن قلتَ: لا شك أنّ في هذه الأدلة التي سقتها كفاية وأنّ المطلوب يثبت بدون هذا، وإن عدم علم عائشة بالوصية لا يستلزم عدمها، ونفيها لا ينافي الوقوع، وغاية ما في كلامها الإخبار بعدم علمها، وقد علم غيرها، ومَنْ علم حجة علي مَنْ لم يعلم، أو نفي الوصية حال الموت لا يلزم من نفيها في الوقت الخاص نفيها في كل وقت، إلّاأنّ ثمة إشكالًا وهو ما ثبت أنه صلّي اللَّه عليه وآله مات وعليه دين ليهودي آصع من شعير «2»، فكيف ولم يوصِ به كما أوصي بسائر تركته.

__________________________________________________

(1) الحديث أخرجه البخاري 1/ 208، 2/ 270، 8/ 132، 10/ 126، 13/ 336، فتح، ومسلم 3/ 1259، وأحمد 1/ 324- 325، 336، عن ابن عباس قال: لما اشتد بالنبي صلّي اللَّه عليه وآله وجعه قال: «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده» قال عمر: إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله غلبه الوجع وعندنا كتاب اللَّه حسبنا. فاختلفوا وكثر اللغط. قال: قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع» فخرج ابن عباس يقول: إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وبين كتابه.

(2) حديث: «رهن الدرع …» جاء عن عائشة وابن عباس وأنس وأسماء بنت يزيد، أما عن عائشة فأخرجه البخاري 4/ 302، 5/ 142، 6/ 99، 8/ 151، فتح، وأحمد 6/ 237، والنسائي 7/ 288، 303، وابن ماجة 2/ 815، وعن أنس أخرجه البخاري أيضاً 4/ 302، 5/ 140،

فتح، والترمذي 3/ 519- 520، والنسائي 7/ 288، وابن ماجة 2/ 815.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 29

قلت: قد كان صلّي اللَّه عليه وآله رهن عند اليهودي في تلك الآصع درعه، والرهن حجة لليهودي كافية في ثبوت الدين، وقبول قوله لا يحتاج معه إلي الوصية. كما قال تعالي في آية الدين: «وَلَمْ تَجِدُوا كاتِبًا فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ» «1»

، علي أنّ علم ذلك لم يكن مختصاً به بل قد شاركه فيه بعض الصحابة، ولهذا أخبرت به عائشة، وليس المطلوب من الوصية للشارع إلّاالتعريف بما علي الميت من حقوق اللَّه، وحقوق الآدميين وقد حصل ههنا.

__________________________________________________

(1) سورة البقرة: الآية 283.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 33

المبحث الثاني: في إثبات الوصية لعلي عليه السلام … ص: 33

اشارة

المبحث الثاني: في إثبات الوصية لعلي رضي اللَّه عنه وأما البحث الثاني:

[الحديث الأوّل … ص: 33

فأخرج أحمد بن حنبل عن أنس أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله قال:

«وصيي ووارثي ومنجز موعدي علي بن أبي طالب».

[الحديث الثاني … ص: 33

وأخرج أحمد من حديثه قال: قلنا لسلمان سل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله مَنْ وصيه؟ قال سلمان: يا رسول اللَّه مَنْ وصيك؟ قال: «يا سلمان مَنْ كان وصي موسي؟» قال: يوشع بن نون. قال: «فإنّ وصيي ووارثي ويقضي ديني وينجز موعدي علي بن أبي طالب» «1».

__________________________________________________

(1) فضائل الصحابة، لأحمد بن حنبل 2/ 615، برقم 1052، ط جامعة أم القري، المملكة العربية السعودية، لسنة 1983 م. وسيأتي الكلام مفصلًا حول أسانيد الحديث ورواته ودفع الشبهات عنه في تخريج أحاديث كتاب العقد الثمين تحت الحديث الأوّل والثاني.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 34

[الحديث الثالث … ص: 34

وأخرج الحافظ أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة عن بريدة قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: «لكلّ نبيٍّ وصي ووارث، وإنّ علياً وصيي ووارثي» «1».

[الحديث الرابع … ص: 34

وأخرج ابن جرير عن علي عليه السلام قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: «يا بني عبدالمطلب إني قد جئتكم بخيري الدنيا والآخرة، وقد أمرني اللَّه أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني علي هذا الأمر علي أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم» قال: فأحجم القوم عنها جميعاً.

وقلت: أنا يا نبي اللَّه أكون وزيرك. فأخذ برقبتي ثم قال: «هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا» «2».

__________________________________________________

(1) معجم الصحابة، للبغوي 4/ 363 وعنه في الرياض النضرة 3/ 138 أخرجه ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق 42/ 391- 392 وابن الجوزي عن طريق البغوي في الموضوعات 1/ 376، ح 25 كلاهما مسنداً، كما سيأتي في التخريج.

(2) تفسير الطبري المسمي ب (جامع البيان في تفسير القرآن) 19/ 74، ط بيروت دار المعرفة، وأيضاً أخرجه في تاريخه المسمي بتاريخ الأُمم والملوك (تاريخ الطبري) 2/ 320- 322، بطرقٍ مختلفة. وله مصادر كثيرة جداً، كما سيأتي في التخريج.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 35

[الحديث الخامس … ص: 35

وأخرج محمد بن يوسف الكنجي الشافعي في مناقبه «1»، من حديث ذكره متصلًا برسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، وفيه في وصف علي عليه السلام «ووعاء علمي ووصيي» «2».

__________________________________________________

(1)

قال الحاجي خليفة في كشف الظنون 2/ 1497: كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب؛ للشيخ الحافظ أبي عبداللَّه محمد بن يوسف بن محمد الكنجي الشافعي.

قال: أبو شامة المقدسي: «وفي 29 رمضان- سنة 658- قُتِل بالجامع الفخر محمد بن يوسف بن محمد الكنجي، وكان من أهل العلم بالفقه والحديث لكنه كان فيه كثرة كلام، وميل إلي مذهب الرافضة، جمع لهم كتباً توافق أغراضهم.

ويذكر لنا الحافظ شمس الدين الذهبي العوامل والأسباب المؤدية لقتله فيقول «لدبره وفضوله! فكأنّ ذكر مناقب الإمام أمير

المؤمنين عليه السلام وجمع فضائله وأحاديثه خطيئة تبرّر وتسوّغ قتل صاحبها مهما بلغ- عندهم- من السمو والرفعة والمجد والعلم والدين والأدب.

(2) كفاية الطالب: 168، الباب 37 رقم 1.

مجمع الزوائد: 9/ 111، كنز العمّال: 1/ 154. ويأتي الكلام مفصلًا عن هذا الحديث في تخريج أحاديث كتاب العقد الثمين تحت الحديث الخامس.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 36

[الحديث السادس … ص: 36

وأخرج أيضاً عن عليّ عليه السلام أنّه قال: أمرني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله بقتال ثلاثة: الناكثين، والقاسطين، والمارقين «1».

[الحديث السابع … ص: 36

وأخرج أيضاً عن جابر أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله قال لعلي بن أبي طالب: «سلام عليك يا أبا ريحانتي، أوصيك بريحانتيّ خيراً». قال: هذا حديث حسن عال من حديث جعفر بن محمد، تفرد به حماد بن عيسي، لم نكتبه إلّامن حديث محمد بن يونس السامي عالياً «2».

[الحديث الثامن … ص: 36

وأخرج الطبراني عن عمار عنه صلّي اللَّه عليه وآله،: «ألا أرضيك __________________________________________________

(1) أنظر: كفاية الطالب: ص 168، باب 37، أُسد الغابة: 4/ 33، كنز العمّال: 6/ 88، وتاريخ بغداد: 13/ 186، مناقب أمير المؤمنين؛ لمحمد بن سليمان الكوفي: 2/ 338 ح 813، مجمع الزوائد 6/ 235، المعجم الكبير: 4/ 172، الكامل: 2/ 188.

(2) كفاية الطالب: 213، باب 55، ح 1. وهو في: حلية الأولياء: 3/ 201، ذخائر العقبي: ص 124، كنز العمّال: 6/ 220، صحيح الترمذي: 2/ 306، خصائص النسائي: ص 124، سنن أبي داود: 8/ 160.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 37

يا عليّ؟ أنت أخي ووزيري تقضي ديني وتنجز موعدي وتبري ء ذمتي».

الحديث بطوله «1».

[الحديث التاسع … ص: 37

وأخرج البزار عن أنس مرفوعاً: «علي يقضي دِيني». وروي بكسر الدال «2».

[الحديث العاشر] … ص: 37

وأخرج ابن مردويه والديلمي، عن سلمان الفارسي مرفوعاً:

«علي بن أبي طالب ينجز عداتي ويقضي ديني» «3».

__________________________________________________

(1) أخرجه الطبراني في معجمه الكبير: 12/ 420، رقم 13549، وعنه مجمع الزوائد: 9/ 121، وكنز العمّال 6/ 155، المعيار والموازنة، لأبي جعفر الإسكافي المعتزلي: ص 209.

(2) أخرجه في مسنده 2/ 106 ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد 9/ 113، والمناوي في فيض القدير 4/ 359، ح 5601، والمتقي الهندي في كنزالعمال 11/ 604، ح 32919.

قال: البزار في مسنده عن أنس. قال الهيثمي: فيه ضِرار بن صرد وهو ضعيف، وسيأتي الكلام عنه مفصلًا في تخريج الأحاديث تحت الحديث التاسع.

(3) أخرجه الخوارزمي في مناقبه: ص 7، ح 38، والديلمي في فردوس الأخبار؛ 3/ 88، والمتقي الهندي في كنز العمّال: 11/ 611، ح 32956.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 38

[الحديث الحادي عشر] … ص: 38

وأخرج الديلمي عن أنس مرفوعاً: «علي أنت تبيّن للناس ما اختلفوا فيه من بعدي» «1».

[الحديث الثاني عشر] … ص: 38

وأخرج أبو نعيم في الحلية، والكنجي في المناقب من حديث طويل وفيه: «وقائد الغر المحجلين وخاتم الوصيين» «2».

[الحديث الثالث عشر] … ص: 38

وأخرج العلامة إبراهيم بن محمد الصنعاني في كتابه إشراق الإصباح «3»، عن محمد بن علي الباقر عليه السلام عن آبائه عنه صلّي اللَّه __________________________________________________

(1) فردوس الأخبار، للديلمي 2/ 78، وأخرجه الحاكم النيسابوري في مستدركه 3/ 122، وهو في كنز العمّال: 11/ 615، ح 32983، تاريخ مدينة دمشق: 42/ 387، الكشف الحثيث؛ سبط ابن العجمي: ص 138. والمناقب؛ للخوارزمي: ص 329، ح 346، سبل الهدي والرشاد؛ للصالحي الشامي: 11/ 295، وينابيع المودة: ص 86، ج 2، ص 159.

(2) أخرجه أبو نُعيم في حلية الأولياء 1/ 63، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب: 211، ب 54، كنز العمّال: 11/ 619، ح 33010، وح 33011، كشف الخفاء ومزيل الالباس؛ للعجلوني: 2/ 242، شرح نهج البلاغة؛ للمعتزلي: 9/ 169.

(3) إبراهيم بن محمد بن نزار الصنعاني، من أعلام القرن الثامن الهجري، صاحب كتاب (إشراق الإصباح في مناقب الخمسة الأشباح) هم محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين وذريتهم (عليهم الصلاة والسلام). أنظر: مصادر الفكر العربي الإسلامي في اليمن ص 114.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 39

عليه وآله من حديث طويل، وفيه: «وهو- يعني عليّاً- وصيي ووليي» «1».

قال المحب الطبري بعد أن ذكر حديث الوصية إلي علي عليه السلام:

والوصية محمولة علي ما رواه أنس من قوله: «وصيي ووارثي يقضي ديني وينجز موعدي علي بن أبي طالب». أو علي ما أخرجه ابن السراج من قوله صلّي اللَّه عليه وآله: «يا علي، أوصيك بالعرب خيراً» «2». أو علي ما رواه حسين بن علي عليه السلام عن أبيه عن جدّه قال: أوصي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله علياً أنْ

يغسله. فقال: يا رسول اللَّه أخشي أنْ لا أطيق. قال: «إنك ستعان عليه» «3». انتهي.

والحامل له علي هذا الحمل حديث عائشة السابق.

والواجب علينا الإيمان بأنّ عليّاً عليه السلام وصي رسول اللَّه __________________________________________________

(1) يأتي البحثُ مفصلًا- تحت الحديث الثاني وما بعده- حول أحاديث الوصية والدراسة في متونها وأسانيدها، ولا ينكرها إلّامكابرٌ، فراجع.

(2) أنظر: مجمع الزوائد 10/ 52.

(3) كنز العمّال 7/ 249، رقم 18780.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 40

صلّي اللَّه عليه وآله ولا يلزمنا التعرض للتفاصيل الموصي بها، فقد ثبت أنّه أمره بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، وعيّن له علاماتهم، وأودعه جملًا من العلوم، وأمره بأمور خاصة كما سلف.

فجعل الموصي بها فرداً منها ليس من دأب المنصفين.

وأورد بعضهم- علي القائلين بأنّ علياً عليه السلام وصي رسول اللَّه- سؤالًا، فقال: إنْ كانت الوصاية إخباره بما لم يخبر به غيره من الملاحم ونحوها، فقد شاركه في ذلك حذيفة، فإنه خصّه رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله بمعرفة المنافقين، واختصّه بعلم الفتن، وإن حملت علي الوصاية بالعرب كما ذكر الطبري، فقد أوصي صلّي اللَّه عليه وآله المهاجرين بالأنصار، وأوصي أصحابه بأصحابه.

وأنت تعلم أنّا لم نقصر الوصية بالعرب، ولم نتعرّض للتفصيل؛ بل قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله إنّه وصيّه، فقلنا: إنّه وصيّه. فلا يرد علينا شي ء من ذلك.

تنبيه:

اعلم أنّ جماعة من المبغضين للشيعة عدّوا قولهم إنّ عليّاً عليه السلام وصي لرسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، من خرافاتهم، وهذا إفراط وتعنت يأباه الإنصاف، وكيف يكون الأمر كذلك، وقد قال بذلك جماعة من الصحابة، كما ثبت في الصحيحين أنّ جماعة ذكروا عند عائشة أنّ سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 41

عليّاً وصي، وكما في غيرهما، واشتهر الخلاف بينهم في المسألة وسارت به

الركبان، ولعلّهم تلقنوا قول عائشة في أوائل الطلب وكبر في صدورهم حتّي ظنّوه مكتوباً في اللوح المحفوظ، وسدّوا آذانهم عن سماع ما عداه وجعلوه كالدليل القاطع، وهكذا، فليكن الاعتساف والتنكب عن مسالك الإنصاف، وليس هذا بغريب بين أرباب المذاهب، فإنّ كلَّ طائفة- في الغالب- لا تقيم لصاحبتها وزناً، ولا تفتح لدليلها وإن كان في أعلي رتبة الصحة اذناً، إلا من عصم اللَّه وقليل ما هم.

وقد اكتفينا بإيراد هذا المقدار من الأدلة الدالة علي المراد، وإن كان المقام محتملًا للإكثار لكثرة الآثار والأخبار، فمَنْ رام الإستيفاء فليراجع الكتب المصنفة في مناقب علي عليه السلام.

حرره المجيب غفراللَّه له:

محمد بن علي الشوكاني ختم اللَّه له ولوالديه بالحسني في اليوم التاسع والعشرين من شهر شعبان 1205

ولا حول ولا قوة إلّاباللَّه العلي العظيم.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 45

الحق المبين في تخريج أحاديث العقد الثمين … ص: 45

مقدمات البحث وهي أمور … ص: 45

اشارة

بسم اللَّه الرحمن الرحيم هذا تخريج أحاديث كتاب (العقد الثمين) للحافظ الشّوكاني، وقد رأينا من الضّروري تقديم امور تساعد الباحثين في الوصول إلي النتيجة الصحيحة:

الأمر الأول … ص: 45

إعلم أنّ لأهل السنّة كتباً أشتهرتْ بينهم بالصّحاح الستّة، اهتمّوا بشأنها غاية الإهتمام وجعلوا رواياتها المدارك في مسائل الحلال والحرام وسائر الأحكام، وكتبوا عليها الشروح الكثيرة ودرّسوها ورووها بالأسانيد الغزيرة، وأثنوا عليها الثناء العظيم وعظّموها أكبر التعظيم، ونحن في هذا المقام نكتفي بكلام للشيخ أحمد وليّ اللَّه المحدّث الدهلوي المتوفي سنة 1176 في بيان طبقات كتب الحديث، قال:

«هي باعتبار الصحّة والشهرة علي أربع طبقات … فالطبقة الأولي منحصرة بالإستقراء في ثلاثة كتب: الموطأ وصحيح البخاري وصحيح سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 46

مسلم … أمّا الصحيحان، فقد اتفق المحدّثون علي أنّ جميع ما فيهما من المتصل المرفوع صحيح بالقطع، وأنهما متواتران إلي مصنّفيهما، وأنه كلّ من يهوّن أمرهما فهو مبتدع متّبع غير سبيل المؤمنين …

الطبقة الثانية: كتب لم تبلغ مبلغ الموطأ والصحيحين، ولكنّها تتلوها، كان مصنّفوها معروفين بالوثوق والعدالة والحفظ والتبحّر في فنون الحديث، ولم يرضوا في كتبهم هذه بالتساهل فيما اشترطوا علي أنفسهم، فتلقّاها من بعدهم بالقبول، واعتني بها المحدّثون والفقهاء طبقة بعد طبقة، واشتهرت فيما بين الناس، وتعلّق بها القوم شرحاً لغريبها وفحصاً عن رجالها واستنباطاً لفقهها، وعلي تلك الأحاديث بناء عامّة العلوم، كسنن أبي داود، وجامع الترمذي ومجتبي النسائي …

والطبقة الثالثة: مسانيد وجوامع ومصنفات، صُنِفتْ قبل البخاري ومسلم وفي زمانهما وبعدهما، … ولم تشتهر في العلماء ذلك الاشتهار …

كمسند أبي علي، ومصنف عبدالرزاق، ومصنف أبي بكر بن أبي شيبة …

والطبقة الرابعة: كتب قصد مصنفوها- بعد قرون متطاولة- جمع ما لم يوجد في الطبقتين الأوليين، وكانت في المجاميع والمسانيد

المختفية، فنوّهوا بأمرها … وهذه الطبقة مادّة كتاب الموضوعات لابن الجوزي …» «1».

__________________________________________________

(1) حجة اللَّه البالغة 1/ 133- 135.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 47

الأمر الثاني … ص: 47

لايخفي أنّ لكلّ علمٍ علماء إليهم المرجع فيه وعليهم المعوَّل، ولأهل السنّة في الجرح والتعديل للرجال علماء، ولكنّهم مع الأسف- مجروحون علي لسان المتأخّرين عنهم والمحقّقين عندهم.

فهم في الوقت الذي يرجعون إلي أقوال يحيي بن سعيد القطّان في قبول الرجال وردّهم، يقولون بأنّه كان متعنّتاً في نقد الرجال، وهكذا وصفه الذهبي وأضاف: «فإذا رأيته قدوثَّق شيخاً، فاعتمد عليه، أمّا إذا ليَّن أحداً فتأنّ في أمره حتي تري قول غيره فيه، فقد ليّن مثل إسرائيل، وهمام وجماعة احتجّ بهم الشيخان …» «1».

وكذا قالوا في أبي حاتم الرازي، فقد ذكر الذهبي بترجمته: «إذا وثّق أبو حاتم رجلًا فتمسّك بقوله، فإنه لا يوثّق إلّارجلًا صحيح الحديث، وإذا ليّن رجلًا أو قال فيه: لا يحتج به، فتوقّف حتي تري ما قال غيره فيه، فإن وثّقه أحد فلا تبنِ علي تجريح أبي حاتم فإنه متعنّت في الرجال، قد قال في طائفة من رجال الصحاح: ليس بحجة، ليس بقوي أو نحو ذلك» «2».

__________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 9/ 183.

(2) المصدر 13/ 260.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 48

ومن العجب، رجوعهم إلي أقوال أبي الفتح الأزدي، وقد قال الذهبي: «قلت: وعليه في كتابه في الضعفاء مؤاخذات، فإنه ضعّف جماعةً بلا دليل، بل قد يكون غيره قد وثّقهم» «1» وقال الحافظ ابن حجر: «قد قدّمت غير مرة: أنّ الأزدي لا يعتبر تجريحه، لضعفه هو» «2».

والأعجب من ذلك إكثارهم من النقل عن أبي إسحاق الجوزجاني واعتمادهم عليه في نقد الرّجال، وخاصّةً في الطعن في الرواة الشيعة وردّ أحاديثهم، وهم ينصّون علي كونه ناصبيّاً؛

قال الذهبي: «قال الدارقطني: كان من الحفّاظ الثقات المصنّفين، وفيه إنحراف عن عليّ» «3».

وقال ابن حجر: قال ابن حبّان في الثقات: كان حروري المذهب، ولم يكن بداعية، وكان صلباً في السُنّة، حافظاً للحديث، إلّاأنّه من صلابته ربّما كان يتعدّي طوره. وقال ابن عديّ: كان شديد الميل إلي مذهب أهل دمشق في الميل علي عليّ. وقال السلمي عن الدارقطني بعد

__________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 16/ 348.

(2) مقدمة فتح الباري: 430.

(3) تذكرة الحفّاظ 1/ 549.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 49

أن ذكر توثيقه: لكن فيه إنحراف عن عليّ، اجتمع علي بابه أصحاب الحديث، فأخرجت جاريةٌ له فرّوجةً لتذبحها فلم تجد مَنْ يذبحها، فقال: سبحان اللَّه! فرّوجة لا يوجد مَنْ يذبحها وعليٌّ يذبح في ضحوة نيّفاً وعشرين ألف مسلم.

قلت: وكتابه في الضعفاء يوضّح مقالته، ورأيت في نسخةٍ من كتاب ابن حبّان: حَرِيزي المذهب، وهو- بفتح الحاء المهملة وكسر الراء وبعد الياء زاي- نسبة إلي حريز بن عثمان المعروف بالنصب، وكلام ابن عديّ يؤيّد هذا، وقد صحّف ذلك أبو سعد ابن السمعاني في الأنساب، فذكر في ترجمة الجَريري- بفتح الجيم- أنّ إبراهيم بن يعقوب هذا كان علي مذهب محمّد بن جرير الطبري، ثمّ نقل كلام ابن حبّان المذكور. وكأنّه تصحّف عليه، والواقع أنّ ابن جرير يصلح أن يكونَ من تلامذة إبراهيم بن يعقوب لا بالعكس، وقد وجدت روايةَ ابن جرير عن الجوزجاني في عدّة مواضع من التفسير والتهذيب والتاريخ» «1».

الأمر الثالث … ص: 49

كثير من رجال الأحاديث المرويّة في كتب أهل السنة، وكثير من مشاهير مؤلّفيهم، موصوفون عندهم بالتشيع، فيقولون بترجمته:

__________________________________________________

(1) تهذيب التهذيب 1/ 159.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 50

«شيعي» أو «فيه تشيّع» أو «يتشيّع» ونحو ذلك، تجد ذلك في رجال الكتب المعروفة عندهم

بالصّحاح، وخاصةً في كتابي البخاري ومسلم.

فقد ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في الفصل التّاسع من مقدمة كتابه (فتح الباري في شرح صحيح البخاري) وهو أشهر شروحه:

«الفصل التاسع: في سياق أسماء من طعن فيه من رجال هذا الكتاب، مرتّباً لهم علي حروف المعجم، والجواب عن الاعتراضات موضعاً موضعاً» فذكر أسمائهم وبحث عنهم من الصفحة 381 حتي قال في ص 459: «فصل: في تمييز أسباب الطعن في المذكورين» فأورد أسماء جماعةٍ رموا بالتشيع ودافع عنهم، كإسماعيل بن أبان، وعبدالرزاق بن همام الصنعاني، وعدي بن ثابت الأنصاري، وأبي نعيم الفضل بن دكين، ومحمد بن فضيل بن غزوان …

فما معني التشيع؟

قال الحافظ ابن حجر: «والتشيع محبّة علي وتقديمه علي الصحابة، فمن قدّمه علي أبي بكر وعمر فهو غال في تشيّعه ويطلق عليه رافضي وإلّا فشيعي، فإنْ انضاف الي ذلك السبُّ أو التصريح بالبغض فغال في الرفض، وإنْ اعتقد الرّجعة الي الدنيا فأشدّ في الغلو» «1».

__________________________________________________

(1) مقدمة فتح الباري: 460.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 51

والقائلون بتقديم أمير المؤمنين علي علي أبي بكر وعمر- فضلًا عن عثمان- في الصحابة والتابعين كثيرون.

فمن الصّحابة مَن ذكرهم الحافظ ابن عبدالبر القرطبي في «الاستيعاب» حيث قال:

«وروي عن سلمان، وأبي ذر، والمقداد، وخباب، وجابر، وأبي سعيد الخدري، وزيد بن الأرقم: أنّ علي بن أبي طالب- رضي اللَّه عنه- أوّل من أسلم. وفضّله هؤلاء علي غيره» «1».

ومن التابعين وأتباعهم ذكر ابن قتيبة جماعةً في كتابه المعارف حيث قال: «الشيعة: الحارث الأعور، وصعصعة بن صوحان، والأصبغ ابن نُباتة، وعطيّة العوفي، وطاووس، والأعمش، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو صادق، وسلمة بن كهيل، والحكم بن عتيبة، وسالم بن أبي الجعد، وإبراهيم النخعي، وحبّة بن جوين، وحبيب بن أبي ثابت، ومنصور بن

المعتمر، وسفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وفطر بن خليفة، والحسن بن صالح بن حي، وشريك، وأبو إسرائيل الملائي، ومحمد بن فضيل، ووكيع، وحميد الرواسي، وزيد بن الحباب، والفضل بن دكين، والمسعود الأصغر، وعبيداللَّه بن موسي، وجرير بن عبدالحميد،

__________________________________________________

(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3/ 1090.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 52

وعبداللَّه بن داود، وهشيم، وسليمان التيمي، وعوف الأعرابي، وجعفر الضبيعي، ويحيي بن سعيد القطّان، وابن لهيعة، وهشام بن عمّار، والمغيرة صاحب ابراهيم، ومعروف بن خربوذ، وعبدالرزاق، ومعمر، وعلي بن الجعد» «1».

ومن العلماء والمحدّثين في القرون اللّاحقة من الشيعة من لا يحصي عددهم إلّااللَّه …

وقد اضطرب القوم واختلف موقفهم تجاه هؤلاء الرواة من الصحابة والتابعين وتابعيهم … ولننقل عبارة الحافظ ابن حجر فإنه قال:

«فقد اختلف أهل السنة في قبول حديث مَنْ هذا سبيله، إذا كان معروفاً بالتحرّز من الكذب، مشهوراً بالسلامة من خوارم المروءة، موصوفاً بالديانة والعبادة. فقيل: يُقبل مطلقاً، وقيل: يُردّ مطلقاً، والثالث التفصيل بين أنْ يكون داعيةً لبدعته أو غير داعية، فيقبل غير الداعية ويردّ حديث الداعية. وهذا المذهب هو الأعدل، وصارت إليه طوائف من الأئمة، وادّعي ابن حبّان إجماع أهل النقل عليه، لكن في دعوي ذلك نظر.

ثم اختلف القائلون بهذا التفصيل، فبعضهم أطلق ذلك، وبعضهم __________________________________________________

(1) المعارف: 341.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 53

زاده تفصيلًا فقال: إنْ اشتملت رواية غير الداعية علي ما يشيد بدعته ويزيّنه ويحسّنه ظاهراً فلا تقبل، وإنْ لم تشتمل فتقبل، وطرد بعضهم هذاالتفصيل بعينه في عكسه في حق الداعية فقال: إنْ اشتملت روايته علي ما يردّ بدعته قبل وإلّا فلا. وعلي هذا إذا اشتملت رواية المبتدع سواءكان داعيةً أم لم يكن علي ما لا تعلّق له ببدعته أصلًا هل تردّ مطلقاً أو

تقبل مطلقاً؟

مال أبو الفتح القشيري إلي تفصيل آخر فيه فقال: إنْ وافقه غيره فلايلتفت إليه هو إخماداً لبدعته وإطفاءً لناره، وإنْ لم يوافقه أحد ولم يوجد ذلك الحديث إلّاعنده- مع ما وصفنا من صدقه وتحرّزه عن الكذب واشتهاره بالدين وعدم تعلّق ذلك الحديث ببدعته- فينبغي أن تقدم مصلحة تحصيل ذلك الحديث ونشر تلك السنّة علي مصلحة إهانته وإطفاء بدعته واللَّه أعلم» «1».

أقول:

فالتشيع لا يضر بالوثاقة ولا يمنع من الإعتماد، وهذا ما نصَّ عليه الحافظ ابن حجر في غيرموضعٍ، ففي كلامه حول «خالد بن مخلّد القطواني الكوفي» قال:

__________________________________________________

(1) مقدمة فتح الباري: 382.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 54

«خ م ت س ق- خالد بن مخلَّد القطواني الكوفي أبو الهيثم، من كبار شيوخ البخاري، روي عنه وروي عن واحدٍ عنه، قال العجلي: ثقة وفيه تشيّع. وقال ابن سعد: كان متشيّعاً مفرطاً. وقال صالح جزرة: ثقة إلّا أنّه يتشيّع. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به.

قلت: أمّا التشيّع فقد قدّمنا أنه- إذا كان ثبت الأخذ والأداء- لا يضرّه، سيّما ولم يكن داعية إلي رأيه» «1».

بل الرّفض غير مضر … قال الحافظ ابن حجر:

«خ ت ق- عبّاد بن يعقوب الرواجني الكوفي أبو سعيد، رافضي مشهور، إلّاأنه كان صدوقاً، وثّقه أبو حاتم، وقال الحاكم: كان ابن خزيمة إذا حدّث عنه يقول: حدّثنا الثقة في روايته المتّهم في رأيه عبّاد بن يعقوب، وقال ابن حبان: كان رافضيّاً داعية، وقال صالح بن محمد، كان يشتم عثمان رضي اللَّه عنه.

قلت: روي عنه البخاري في كتاب التوحيد حديثاً واحداً مقروناً وهو حديث ابن مسعود: أيّ العمل أفضل؟. وله عند البخاري طريق أخري من رواية غيره» «2».

وقال الحافظ الذهبي في «أبان بن تغلب».

__________________________________________________

(1) مقدمة فتح

الباري: 398.

(2) المصدر: 410.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 55

«أبان بن تغلب [م، عو] الكوفي شيعي جلد، لكنّه صدوق فلنا صدقه وعليه بدعته. وقد وثّقه أحمد بن حنبل، وابن معين، وأبو حاتم، وأورده ابن عدي وقال: كان غالياً في التشيّع. وقال السعدي: زائغ مجاهر.

فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع، وحدّ الثقة العدالة والإتقان؟

فكيف يكون عدلًا مَن هو صاحب بدعة؟

وجوابه: إن البدعة علي ضربين، فبدعة صغري كغلوّ التشيّع أو كالتشيّع بلا غلو ولا تحرّف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصّدق. فلو ردّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بيّنة …» «1».

لكنّ بعض المتعصّبين منهم يقدحون في الرجل إذا كان شيعيّاً ويكرهون الرواية عنه، ويعبّرون عنه بعباراتٍ شنيعة، بل حتي وإنْ كان من الصّحابة، مع أنّ المشهور بينهم- بل ادعي عليه الإجماع- عدالة الصحابة أجمعين، وإليك نموذجاً من ذلك:

قال الحافظ ابن حجر: «ع- عامر بن واثلة أبو الطفيل الليثي المكي، أثبت مسلم وغيره له الصحبة- وقال أبو علي ابن السكن: روي عنه __________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1/ 5.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 56

رؤيته لرسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم من وجوهٍ ثابتة، ولم يرو عنه من وجهٍ ثابت سماعه.

وروي البخاري في التاريخ الأوسط عنه أنه قال: أدركت ثمان سنين من حياة النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم. وقال ابن عدي: له صحبة، وكان الخوارج يرمونه بإتّصاله بعلي وقوله بفضله وفضل أهل بيته، وليس بحديثه بأس.

وقال ابن المديني: قلت لجرير: أكان مغيرة يكره الرواية عن أبي الطفيل؟ قال: نعم.

وقال: صالح بن أحمد بن حنبل عن أبيه: مكي ثقة.

وكذا قال ابن سعد وزاد: كان متشيّعاً. قلت: أساء أبو محمد بن حزم فضعّف أحاديث أبي الطفيل

وقال: كان صاحب راية المختار الكذّاب.

وأبو الطفيل صحابي لا شكّ فيه، ولا يؤثّر فيه قول أحدٍ ولا سيّما بالعصبيّة والهوي. ولم أر له في صحيح البخاري سوي موضعٍ واحدٍ في العلم، رواه عن علي، وعنه معروف بن خربوذ. وروي له الباقون» «1».

__________________________________________________

(1) مقدمة فتح الباري: 410.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 57

الأمر الرابع … ص: 57

ولابأس بإيراد كلامٍ لأحد كبار الحفّاظ وهو الحاكم النيسابوري بشأن التابعين، وهذا نصّ عبارته:

«ذكر النوع الرابع عشر من علوم الحديث (النوع الرابع عشر) من هذا العلم معرفة التابعين. وهذا نوع يشتمل علي علوم كثيرة فانهم علي طَبَقات في الترتيب؛ ومهما غفل الإنسان عن هذا العلم لم يفترق بين الصحابة والتابعين ثم لم يفرق أيضاً بين التابعين وأتباع التابعين. قال اللَّه عزّوجلّ: «وَالسَّابِقُونَ اْلأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرينَ وَاْلأَنْصارِ وَالَّذينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْري تَحْتَهَا اْلأَنْهارُ خالِدينَ فيها أَبَدًا ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظيمُ».

وقد ذكرهم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، كما حدّثناه أبو عمرو عثمان بن أحمد بن السماك ببغداد، وأبو العباس محمد بن يعقوب الأموي بنيسابور، وأبو أحمد بكر بن محمد الصيرفي بمرو، قالوا: حدّثنا أبو قلابة عبدالملك بن محمد الرقّاشي، حدّثنا أزهر بن سعد، حدثنا ابن عون، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبداللَّه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الّذين يلونهم. فلا أدري أذكر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلم بعد قرنه سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 58

قرنين أو ثلاثة؟

قال الحاكم:

هذا حديث مخرج في الصحيح لمسلم بن الحجاج وله علة عجيبة.

حدثناه محمد بن صالح بن هانئ حدّثنا محمّد بن نُعيم، حدّثنا عمرو بن علي، حدّثنا أزهر، حدثنا ابن عون، عن

إبراهيم، عن عبيدة، عن عبداللَّه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم خير الناس قرني. قال:

فحدّثتُ به يحيي بن سعيد. فقال: ليس في حديث ابن عون عن عبداللَّه.

فقلت له: بلي فيه. قال: لا. فقلت: إنّ أزهر حدّثنا عن ابن عون، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبداللَّه قال: رأيتُ أزهر جاء بكتابه ليس فيه عن عبداللَّه قال: عمرو بن علي: فاختلفت إلي أزهر قريباً من شهرين للنظر فيه. فنظر في كتابه ثم خرج فقال: لم أجده إلّاعن عبيدة عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم.

فخير الناس قرناً بعد الصحابة مَنْ شَافَه أصحاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وحفظ عنهم الدين والسنن، وهم قد شهدوا الوحي والتنزيل» «1».

__________________________________________________

(1) معرفة علوم الحديث: 41.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 59

الأمر الخامس … ص: 59

لقد ألّف أبو الفرج ابن الجوزي الحنبلي- المتوفّي سنة 579- كتاباً في الأحاديث الضعيفة سمّاه ب (العلل المتناهية في الأحاديث الواهية) وكتاباً في الأحاديث الموضوعة سماه ب (كتاب الموضوعات) وكلاهما مطبوعان منتشران.

وقد أصبح هذان الكتابان ذريعةً بيد بعض المتعصّبين الّذين يحاولون ردّ مناقب أمير المؤمنين عليه السّلام، مع أنّ كبار العلماء المحقّقين يصرّحون بأن أبا الفرج قد جازف كثيراً في إدراج الأحاديث في الكتابين المذكورين، نكتفي هنا بذكر بعض كلماتهم:

قال الذهبي: «ربّما يذكر ابن الجوزي في الموضوعات أحاديث حساناً قويّة».

وقال الحافظ ابن حجر- في قصّةٍ أوردها-: «دلّت هذه القصّة علي أن ابن الجوزي حاطب ليلٍ لا ينتقد مايحدّث به» «1».

وقال الحافظ جلال الدين السيوطي: «وقد أكثر جامع الموضوعات في نحو مجلّدين، أعني أبا الفرج ابن الجوزي، فذكر في __________________________________________________

(1) لسان الميزان: 2/ 84.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 60

كتابه كثيراً ممّا لادليل علي وضعه …» «1».

فهذه طائفة من كلماتهم في

ابن الجوزي وكتابه (الموضوعات).

ولذا لم يعبأ الحفّاظ والمحقّقون بإدخاله حديث «أنا مدينة العلم وعلي بابها» في الكتاب المذكور، فمنهم مَنْ نصَّ علي صحّته، ومنهم مَنْ ذهب إلي أنّه حسن يحتجُّ به، كالحافظ الصّلاح العلائي، فإنه قال في كلامٍ له نقله الحافظ السيوطي: «ولم يأت أبو الفرج ولا غيره بعلّةٍ قادحة في حديث شريك، سوي دعوي الوضع دفعاً بالصدر» «2» وكالحافظ الزركشي- فيما نقله عنه المناوي-: «ينتهي إلي درجة الحسن المحتجّ به، ولا يكون ضعيفاً فضلًا عن كونه موضوعاً» «3» وكالحافظ ابن حجر، فإنه قال في فتيا له- نقلها الحافظ السيّوطي-: «هذا الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك وقال إنّه صحيح، وخالفه أبو الفرج ابن الجوزي فذكره في الموضوعات وقال إنه كذب. والصّواب خلاف قوليهما معاً، وأنّ الحديث من قسم الحسن لايرتقي إلي الصحة ولا ينحطّ إلي كذب» «4».

ولمّا أدرج كتابه (العلل المتناهيّة) الحديث الصحيح: «إنّي تارك __________________________________________________

(1) تدريب الراوي: 1/ 235.

(2) اللآلئ المصنوعة 1/ 332.

(3) فيض القدير 3/ 47.

(4) اللآلئ المصنوعة 1/ 334.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 61

فيكم الثقلين كتاب اللَّه وعترتي …» اعترض الحفّاظ عليه بشدّة، قال الحافظ السخاوي: «وتعجّبت من إيراد ابن الجوزي له في (العلل المتناهية) بل أعجب من ذلك قوله: إنه حديث لا يصحّ. مع ماسيأتي من طرقه إلي بعضها في صحيح مسلم» «1».

وقال الحافظ السمهودي: «ومن العجيب ذكر ابن الجوزي له في (العلل المتناهية) فإيّاك أن تغترّ به، وكأنه لم يستحضره حينئذٍ» «2».

وقال المناوي: «قال الهيثمي: رجاله موثّقون، ورواه أبو يعلي بسندٍ لابأس به والحافظ عبدالعزيز بن الأخضر. ووهم مَنْ زعم ضعفه كابن الجوزي» «3».

فظهر أنه لا يجوز الاغترار بإيراد ابن الجوزي حديثاً في (العلل) أو (الموضوعات)، وأنه لا يغترّ بذلك إلّامَنْ

كان علي شاكلته.

نقول:

بعد الإطّلاع علي هذه الأمور التي لها الإرتباط الوثيق بالموضوع، نوضّح صحّة الأحاديث المستدل بها في كتاب (العقد الثمين)، واحداً واحداً، وباللَّه نستعين:

__________________________________________________

(1) إستجلاب إرتقاء الغرف: 83.

(2) جواهر العقدين: 232.

(3) فيض القدير 3/ 14- 15.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 62

الحديثان الأوّل والثاني … ص: 62

روي الشوكاني عن أحمد في المناقب، وكذا روي غير واحدٍ عنه كالحافظ أبي العباس محبّ الدين الطّبري، وقد جاء في الكتاب المذكور ما نصّه:

«حدّثنا هيثم بن خلف، قال: حدّثنا محمد بن أبي عمر الدوري قال: حدثنا شاذان، قال: حدثنا جعفر بن زياد، عن مطر، عن أنس- يعني ابن مالك- قال: قلنا لسلمان: سلْ النبي صلّي اللَّه عليه وآله مَن وصيّه، فقال له سلمان: يا رسول اللَّه، مَنْ وصيّك؟ قال: يا سلمان مَنْ كان وصي موسي؟ قال: يوشع بن نون. قال: فإنّ وصيي ووارثي يقضي ديني وينجز موعدي علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه» «1».

أقول هذا الحديث من زيادات (القطيعي)، وهو: «الشيخ العالم المحدّث، مسند الوقت، أبو بكر، أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك بن شبيب البغدادي … وقال السُّلمي: سألت الدارقطني عنه: فقال: ثقةٌ زاهد قديم، سمعتُ أنّه مجابُ الدّعوة. وقال البرقاني: كان صالحاً وثبت عندي أنّه صدوق» «2».

و (هيثم بن خلف) هو:

__________________________________________________

(1) ذخائر العقبي: 70.

(2) سير أعلام النبلاء: 16/ 210، رقم 143.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 63

هيثم بن خلف بن محمد بن عبدالرحمان بن مجاهد، المتوفي 307، المتقِنُ الثّقة، أبو محمد الدوري البغدادي، وكان من أوعية العِلم، ومن أهل التحرّي والضّبط. هكذا ذكره الذهبي «1».

علماً أنّ الهيثم بن خلف هو من مشايخ أبي علي النيسابوري الذي ترجم له الذهبي قائلًا: أبو علي النَّيسابوري الحافظ الإمام العلامة الثّبت، أبو علي، الحسين

بن علي بن يزيد بن داود النّيسابوري. أحدّ النقاد. إلي أنْ قال: قال الحاكم: كان أبو علي باقعةً- أي داهيةً- في الحفظ، لا تُطاق مذاكرتُه، ولا يفي بمذاكرته أحد من حفّاظنا.

وقال: قال الحافظ أبو بكر بن أبي دارم، ما رأيتُ ابن عُقدة لا يتواضع لأحدٍ من الحفاظ كما يتواضع لأبي علي النيسابوري.

وقال: قال أبو عبدالرحمان السُّلمي: سألت الدّارقطني عن أبي علي النّيسابوري، فقال: إمامٌ مهذَّب.

وقال الخليلي: قال ابنُ المقري ء الأصبهاني، إنّي لأدعو له في أدبار الصّلوات، كنتُ أتّبعه في شيوخ مصر والشام. وقال: قال عبدالرحمان ابن مندة: سمعتُ أبي يقول: ما رأيتُ في اختلاف الحديث والإتقان أحفظ من أبي علي النيسابوري «2».

__________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 14/ 261، رقم 168.

(2) المصدر 16/ 51، رقم 38.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 64

و (الدوري) هو أبو بكر محمد بن حفص الدوري، سمع الأسود بن عامر شاذان، وأحمد بن إسحاق الحضرمي ومحمد بن مصعب القرقساني، وأبا نعيم الفضل بن دكين، وحجاج بن محمد، والحكم بن موسي، وأبا عبيدة القاسم بن سلام. وروي عنه عبداللَّه بن إسحاق المدائني، وحاجب بن أوكين الفرغاني، ومحمد بن مخلد الدوري، وسماه حاجب بن أركين أحمد، ومات سنة 259 «1».

و (شاذان) هو الأسود بن عامر شاذان، أبو عبدالرحمان الشامي نزيل بغداد، ذكره المزي وابن حجر العسقلاني وأوردا توثيقات الأكابر له «2»، وقال ابن حجر في تقريب التهذيب: ثقةٌ من التاسعة، مات في أوّل سنة 208، ووضع علامة الصحاح الستة «3».

و (جعفر بن زياد) لم يتكلّم فيه إلّامن جهة التشيّع، والتشيّع غير مضرّ كما نصَّ عليه الحافظ ابن حجر، وقد تقدَّم كلامه، ولذا قال بترجمة هذا الرّجل: «صدوقٌ يتشيّع» «4».

__________________________________________________

(1) الأنساب للحافظ السمعاني 2/ 565، رقم 4029.

(2)

تهذيب الكمال 3/ 226 رقم 503، تهذيب التهذيب 1/ 297.

(3) تقريب التهذيب 1/ 76.

(4) المصدر 1/ 130.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 65

و (مطر) هو مطر بن أبي ميمون الإسكاف المحاربي، هكذا ترجمه الحافظ ابن عدي، وروي الحديث بإسناده عن عبيداللَّه بن موسي عن مطر عن أنس، ثم قال عن مطر: «هو إلي الضعف أقرب منه إلي الصّدق» «1».

فإنْ صحّ هذا الكلام، فغايته أن يكون الحديث ضعيفاً لا موضوعاً، لكنّ ابن الجوزي قد أدرجه في الموضوعات- وتبعه ابن تيمية وأضاف أنّه موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث «2» وهذا تعصّب بيّن.

قال ابن الجوزي بعد أنْ أورده: «ففيه: مطر بن ميمون. قال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو الفتح الأزدي: متروك الحديث. وفيه جعفر، وقد تكلّموا فيه» «3».

وكلامه مردود. أمّا «جعفر بن زياد» فقد عرفته. وأمّا «مطر» فكلام الأزدي فيه غير مسموع لضعفه هو كما تقدّم، وكذا كلام البخاري فإنه تعصّب كما سيتّضح.

وقد روي الحافظ ابن عساكر هذا الحديث بإسناده فقال: «قرأت علي أبي محمد بن حمزة عن أبي بكر الخطيب، أنا الحسن بن أبي بكر، أنا أبو سهل أحمد بن محمد بن عبداللَّه القطّان، حدثنا الحسن بن __________________________________________________

(1) الكامل في الضعفاء 8/ 136.

(2) منهاج السنّة 5/ 23.

(3) الموضوعات 1/ 375.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 66

العبّاس الرازي، حدثنا القاسم بن خليفة أبو محمد، حدثنا أبو يحيي التيمي إسماعيل بن إبراهيم عن مطير أبي خالد، عن أنس بن مالك قال:

كنا إذا أردنا أن نسأل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله أمرنا علي بن أبي طالب، أو سلمان الفارسي، أو ثابت بن معاذ الأنصاري؛ لأنهم كانوا أجرأ أصحابه علي سؤاله، فلما نزلت: «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ» «1»

وعلمنا أنّ رسول اللَّه

صلّي اللَّه عليه وآله نُعيت إليه نفسه، قلنا لسلمان: سَلْ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله من نسند إليه أمورنا، ويكون مفزعنا، ومن أحبّ الناس إليه؟ فلقيه، فسأله فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، فخشي سلمان أن يكون رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله قد مقته ووجد عليه، فلما كان بعد لقيه، قال: «يا سلمان، يا أبا عبداللَّه، ألا أحدّثك عمّا كنت سألتني؟ فقال: يا رسول اللَّه، إنّي خشيت أن تكون قد مقتّني ووجدتَ عليّ، قال: كلّا يا سلمان، إنّ أخي ووزيري وخليفتي في أهل بيتي، وخير من تركتُ بعدي، يقضي ديني، وينجز موعدي علي بن أبي طالب».

قال الخطيب: مطير هذا مجهول.

أخبرنا أبو القاسم بن السَّمرقندي، نا أبو القاسم بن مسعدة، نا

__________________________________________________

(1) سورة النصر: الآية 1.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 67

حمزة بن يوسف، نا أبو أحمد بن عدي، نا ابن أبي سفيان، نا علي بن سهل، نا عبيداللَّه بن موسي، نا مطر الإسكاف، عن أنس قال:

قال النبي صلّي اللَّه عليه وآله علي أخي، وصاحبي، وابن عمي، وخيرُ من أترك بعدي، يقضي دَيني، ينجز موعدي.

قال: قلت له: أين لقيت أنساً؟ قال: بالخريبة.

أخبرنا أبو القاسم الشّحّامي وأبو المظفّر القشيري، قالا: أنا أبو سعد الأديب، أنا أبو سعيد الكرابيسي، أنا أبو لبيد السامي، نا سويد بن سعيد، نا عمرو بن ثابت، عن مطير، عن أنس قال:

قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: إنّ خليلي ووزيري وخيرُ من أخلف بعدي يقضي دَيني وينجز موعودي علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه.

أخبرنا أبو عبداللَّه محمّد بن الفضل وأبو محمّد هبة اللَّه بن سهل، وأبو القاسم زاهر بن طاهر قالوا: أنا أبو سعد الجنْزرودي، أنا عبداللَّه بن محمّد بن عبدالوهاب الرازي،

نا يوسف بن عاصم الرازي، نا سويد بن سعيد، نا عمرو بن ثابت، عن مطر، عن أنس قال:

قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: إنّ خليلي ووزيري وخليفتي في أهلي وخير مَنْ أترك بعدي وينجز موعدي ويقضي دَيني سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 68

علي بن أبي طالب «1».

فهذه عدّة من أسانيد الحديث، وقد عرفت أنّه من الأحاديث التي اتّفق المخالف والموافق علي روايتها في فضل أمير المؤمنين وكماله، ممّا لم ينقل مثله ولا الأقلُّ منه في حقّ غيره من الصحابة.

ولمّا تصحّف اسم الراوي من «مطر» إلي «مطير» قالوا: مجهول.

ولكنّه لمّا رواه عن «مطر» كما هو الصحيح، لم يتكلّم فيه ابن عساكر، ولايخفي عدم وجود «جعفر بن زياد» في السند.

وقد أخرجه الحافظ الطبراني بإسنادٍ آخر فقال: «حدّثنا محمد بن عبداللَّه الحضرمي، حدثنا إبراهيم بن الحسن الثعلبي، حدثنا يحيي بن يعلي، عن ناصح بن عبداللَّه، عن سماك بن حرب، عن أبي سعيد الخدري، عن سلمان قال:

قلت: يا رسول اللَّه، لكلّ نبيّ وصي، فمَنْ وصيّك؟ فسكت عنّي.

فلمّا كان بعد رآني فقال: يا سلمان! فأسرعت إليه قلت: لبيّك. قال: تعلم مَنْ وصيّ موسي؟ قلت: نعم، يوشع بن نون، قال: لِمَ؟ قلت: لأنه كان أعلمهم. قال: فإنّ وصيي وموضع سرّي وخير مَنْ أترك بعدي، ينجز عدتي ويقضي ديني: علي بن ابي طالب» «2».

__________________________________________________

(1) تاريخ مدينة دمشق 42/ 56- 57.

(2) المعجم الكبير 6/ 221، رقم 6063.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 69

وهذا السند ليس فيه «جعفر» ولا «مطر»، وظاهر الحافظ الطبراني قبوله سنداً- كما اعترف ابن كثير وسيأتي كلامه- فاضطرّ إلي أن يذكر تأويلًا لمعناه، فقال بعده ما نصّه: «قوله: وصيي. يعني: أوصاه في أهله لا بالخلافة. وقوله: خير من أترك بعدي،

يعني: من أهل بيته».

لكنّه تمحّل واضحٌ، وتكلّف بيّن، بل المراد هو الخلافة من بعده، وهذا المعني هو محلّ الحاجة للصّحابة إذ طلبوا من سلمان أن يسأل عنه النبي صلّي اللَّه عليه وآله، وإلي ما ذكرنا أشار ابن كثير إذ قال: «وفي تأويل الطبراني يبدو صّحة الحديث- وإن كان غير صحيح- نظر واللَّه أعلم» «1».

إلا أنّ ابن كثير لم يذكر وجه الضّعف، حتّي رجعنا إلي الحافظ الهيثمي فوجدناه يقول: «وفي إسناده ناصح بن عبداللَّه، وهو متروك» «2».

لكنّه قول مردود:

أوّلًا: الرجل ممّن أخرج عنه الترمذي وابن ماجة «3».

وثانياً: هو من مشايخ جمعٍ من أئمّة القوم كأبي حنيفة وهو من أقرانه «4».

__________________________________________________

(1) جامع المسانيد والسنن 5/ 383، برقم 3633.

(2) مجمع الزوائد 9/ 113- 114.

(3) تهذيب الكمال 29/ 261.

(4) المصدر.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 70

وثالثاً: قد وثّقه أو مدحه غير واحدٍ من الأكابر:

«قال ابن حبان: كان شيخاً صالحاً غلب عليه الصّلاح، فكان يأتي بالشي ء علي التوهّم، فلمّا فحش ذلك منه استحقّ الترك.

وقال أحمد بن حازم بن أبي غرزة، سمعت عبيداللَّه بن موسي، وأبا نعيم يقولان جميعاً عن الحسن بن صالح قال: ناصح بن عبداللَّه المحلّمي نعم الرجل» «1».

ورابعاً: قال ابن عدي- بعد أن أورد أحاديث له- «وهو في جملة متشيّعي أهل الكوفة، وهو ممّن يُكتب حديثه» «2».

وخامساً: إنّ السّبب في تضعيف من ضعّفه هو نقله لأحاديث الفضائل والمناقب بكثرة، وإليه أشار أبو حاتم «3» وابن عدي، بل بهذا السبّب قيل: «وكان يذهب إلي الرّفض» «4»، وإليك عبارة الذهبي: «قلت:

كان من العابدين. ذكره الحسن بن صالح فقال: رجل صالح، نعم الرّجل»

__________________________________________________

(1) تهذيب الكمال 29/ 261.

(2) الكامل وعنه المزي في تهذيب الكمال 29/ 261.

(3) الجرح والتعديل 8/، برقم 2303.

(4) الضعفاء الكبير للعقيلي

4/ 311.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 71

ثم روي ما يلي:

«إسماعيل بن أبان، حدثنا ناصح أبو عبداللَّه عن سماك عن جابر قالوا: يا رسول اللَّه، مَنْ يحمل رايتك يوم القيامة؟ قال: من عسي أن يحملها إلّامَنْ حملها في الدنيا. يعني علياً.

يحيي بن يعلي المحاربي، عن ناصح بن عبداللَّه، عن سماك بن حرب، عن أبي سعيد الخدري عن سلمان قال قلت: يا رسول اللَّه … هذا خبر منكر» «1».

فظهر، أنّ السبب الأصلي للقدح في الرجل نقل مثل هذه الروايات، فإنّ القوم لا يطيقون سماعها ولا يتحمّلون الرّاوي لها!.

وتلخّص:

إنّ القول بوضع هذا الحديث باطلٌ، والقائل به هو ابن الجوزي المعروف بالتسرّع كما تقدّم، ولذا تعقّبه الحافظ السيوطي «2».

وأمّا دعوي اتّفاق العلماء علي وضعه، فكسائر دعاوي ابن تيميّة الباطلة الصادرة عن التعصّب والعناد.

بل الحديث معتبرٌ، وله أسانيد عدّة في كتب الحفّاظ، والإستدلال به صحيح علي القواعد العلميّة المتّبعة.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 4/ 240.

(2) اللآلئ المصنوعة 1/ 358- 359.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 72

الحديث الثالث … ص: 72

أخرجه الحافظ أبو القاسم البغوي:

«حدثنا محمد بن حميد، نا علي بن مجاهد، نا محمد بن إسحاق، عن شريك بن عبداللَّه، عن أبي ربيعة الإيادي، عن ابن بريدة عن أبيه، قال قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: لكلّ نبي وصي ووارث وإنَّ عليّاً وصيي ووارثي» «1».

وعنه الحافظ ابن عساكر قال:

«أخبرنا أبو القاسم البغوي …» «2».

والحافظ ابن الجوزي، قال:

«أنبأنا علي بن عبيداللَّه الزاغوني قال: أنبأنا أحمد بن محمد السمسار قال: حدّثنا عيسي بن علي الوزير قال: حدّثنا البغوي، قال:

حدّثنا محمد بن حميد الرازي قال: حدّثنا عليّ بن مجاهد قال: حدّثنا محمد بن إسحاق عن شريك بن عبداللَّه، عن أبي ربيعة الإيادي عن ابن بُريدة عن أبيه قال: قال

النبي صلّي اللَّه عليه وآله: «لكلّ نبيّ وصيّ،

__________________________________________________

(1) معجم الصحابة 4/ 363.

(2) تاريخ مدينة دمشق 42/ 30.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 73

وإنّ عليّاً وصيّ ووارثي» «1».

وأخرجه الحافظ ابن عساكر عن طريقٍ آخر، قال: «أخبرنا أبو علي الفراوي وأبو محمد السيّدي، وأبو القاسم الشحامي، قالوا: أنا أبو سعد الجنزرودي، أنا عبدالوهّاب بن محمّد بن عبدالوهّاب الرازي، نا يوسف بن عاصم الرازي، نا محمّد بن حميد، نا علي بن مجاهد، عن محمّد بن إسحاق، عن شريك بن عبداللَّه النخعي، عن أبي ربيعة الإيادي، عن ابن بريدة، عن أبيه أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله قال: إنّ لكلّ نبيّ وصيّاً ووارثاً، وإنّ عليّاً وصيّي ووارثي».

وأخرجه الحافظ ابن عدي؛ إذ قال بترجمة شريك بن عبداللَّه النخعي: «قد روي عنه من الأجلّاء: محمّد بن إسحاق صاحب المغازي و … فأمّا حديث محمّد بن إسحاق، فحدّثنا محمّد بن منير، ثنا علي بن سهل، ثنا محمّد بن حميد، ثنا سلمة، حدّثني محمد بن إسحاق، عن شريك بن عبداللَّه، عن أبي ربيعة الإيادي، عن ابن بريدة، عن أبيه: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله قال: لكلّ نبيّ وصيّ ووارث، وإنّ عليّاً وصيّي ووارثي» «2».

أقول: وقد تُكلّم في هذا الحديث؛ لأنّ فيه: (محمد بن حُميد

__________________________________________________

(1) الموضوعات 1/ 376.

(2) الكامل في ضعفاء الرجال 5/ 21.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 74

الرازي)، فمن هو هذا الرجل؟

قال المزّي: «روي عنه: أبو داود والترمذي وابن ماجة».

ثمّ ذكر في الرواة عنه: أحمد بن حنبل، ومحمد بن يحيي الذهلي، ويحيي بن معين، وعبداللَّه بن محمد بن عبدالعزيز البغوي، ومحمد بن إسحاق الصاغاني، ومحمد بن جرير الطبري، وعبداللَّه بن أحمد بن حنبل …

ثمّ ذكر كلمات المدح والذمّ «1».

وقال الخطيب البغدادي: «قدم

بغداد وحدّث بها عن … روي عنه:

أحمد بن حنبل، وابنه عبداللَّه بن أحمد، والحسن بن علي بن شبيب المعمري، وأحمد بن علي الأبار، وعبداللَّه بن محمد البغوي، ومحمد ابن محمد الباغندي، وغيرهم …» ثمّ ذكر كلمات المدح والذمّ له «2».

وقال ابن عدي: «محمد بن حميد: أبو عبداللَّه الرازي، حدّثني محمّد بن ثابت، سمعت بكر بن مقبل يقول: سمعت أبا زرعة الرازي يقول: ثلاثة ليس لهم عندنا محاباة، فذكر فيهم محمّد بن حميد.

سمعت محمد بن إبراهيم المنقري يقول: سمعت فضلك الصائغ يقول: قال أبو زرعة الرازي: سمعت أبا عبداللَّه محمد بن حميد وكان __________________________________________________

(1) تهذيب الكمال 25/ 99.

(2) تاريخ بغداد 2/ 259.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 75

عندي ثقة. ذكره في قصّة.

حدّثنا الجنيدي، ثنا البخاري، قال: محمد بن حميد الرازي، عن يعقوب القمّي وجرير، فيه نظر.

سمعت ابن حمّاد يقول: قال السعدي: محمد بن حميد الرازي كان ردي ء المذهب، غير ثقة.

ثنا القاسم بن زكريا، ثنا محمد بن حميد، حدّثنا علي بن مجاهد وحكام وهارون، عن عنبسة، عن أبي هاشم الواسطي، عن ميمون بن سياه، عن أنس، عن النبي صلّي اللَّه عليه وآله في قوله: «سِدْرَةِ الْمُنْتَهي «1»

، قال شجرة نبق.

حدّثنا أحمد بن محمد بن عبدالعزيز بن الجعد، ثنا محمد بن حميد، ثنا جرير، عن سليمان بن أرقم، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر:

أنّه سمع النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله يقرأ: «وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ» «2»

، وسمعته يقول: «بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ في صُدُورِ الَّذينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» «3».

ثنا إسماعيل بن حمّاد أبو النضر، ثنا محمّد بن حميد، حدّثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسة بن سعيد، عن سالم الأفطس، عن __________________________________________________

(1) سورة النجم: الآية 14.

(2) سورة الرعد: الآية

43.

(3) سورة العنكبوت: الآية 49.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 76

الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله قال: قوموا فصلّوا علي أخيكم النجاشي، فصفّوا خلفه كما يصفّون علي الجنازة، وكبّر عليه أربعاً.

قال الشيخ: وتكثرتْ أحاديث ابن حُميد التي أُنكرت عليه إن ذكرناها، علي أنّ أحمد بن حنبل قد أثني عليه خيراً، لصلابته في السنّة» «1».

وإنّما ذكرنا كلام ابن عدي بتمامه، لأُمور:

الأوّل: إنّه قد أورد حديث الوصيّة بترجمة شريك، ولم يورده بترجمة محمد بن حميد، مع أنّه قد أورد أحاديث أُخر.

والثاني: إنّه قد استشهد بحديث الوصيّة لرواية محمد بن إسحاق عن شريك، ولم يذكر حديثاً آخر- بخلاف غير ابن إسحاق من الرواة عن شريك، فذكر أكثر من حديث- وذلك ظاهر في أنّ لا رواية له عنه غيرها، فلو كان حديث الوصيّة موضوعاً لما استشهد به علي كون شريك من مشايخ ابن إسحاق.

والثالث: إنّ ابن عدي لم يقدح في محمّد بن حميد، بل إنّ كلمته في آخر كلامه بترجمته ظاهرةٌ في المدح، غير أنّ في أحاديثه ما أُنكر عليه.

__________________________________________________

(1) الكامل في الضعفاء 7/ 529- 530.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 77

وبعد …

فإنّ الرجل قد تضاربت آراء العلماء فيه؛ ففي تهذيب الكمال: «قال أبو قريش محمد بن جمعة بن خلف الحافظ: قلت لمحمّد بن يحيي الذهلي: ما تقول في محمد بن حميد؟

قال: ألا تراني؟! هو ذا أُحدّث عنه.

قال: وكنت في مجلس أبي بكر الصاغاني محمد بن إسحاق، فقال:

حدّثنا محمد بن حميد.

فقلت: تحدّث عن ابن حميد؟!

فقال: وما لي لا أُحدّث عنه، وقد حدّث عنه أحمد بن حنبل، ويحيي بن معين؟!».

وقال النسائي: ليس بثقة.

وقال البخاري: حديثه فيه نظر.

قال الجوزجاني: ردي ء المذهب، غير ثقة.

ولدي التحقيق يظهر:

إنّ الموثّقين له أكثر وأكبر ممّن تكلّم فيه، لا سيّما وأنّ المنقول عن البخاري: «حديثه فيه نظر»، فليس النظر فيه نفسه، كما أنّ مفاد كلام الجوزجاني هو الطعن في مذهبه، لكنّ المنقول عن أحمد أنّه قد أثني عليه خيراً «لصلابته في السُنّة»؛ فكيف الجمع بين هذا وكونه ردي ء المذهب؟!

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 78

بل لقد وقع التضارب بين رأي أحمد، ورأي البخاري في حديثه؛ ففي الكامل عن البخاري: «محمد بن حميد الرازي، عن يعقوب القمّي وجرير، فيه نظر»، لكن في تاريخ بغداد عن أحمد: «أمّا حديثه عن ابن المبارك وجرير، فهو صحيح».

وفي الكامل: «علي أنّ أحمد بن حنبل قد أثني عليه خيراً لصلابته في السُنّة»، لكن في الميزان: «قال أبو علي النيسابوري: قلت لابن خزيمة: لو أخذت الإسناد عن ابن حميد؛ فإنّ أحمد بن حنبل قد أحسن الثناء عليه؟ قال: إنّه لم يعرفه، ولو عرفه كما عرفناه ما أثني عليه أصلًا».

بل لقد نسبت الآراء المتضاربة إلي الواحد منهم؛ ففي الكامل: «عن فضلك الصائغ، عن أبي زرعة، أنّه وثّق محمد بن حميد»، لكن في الميزان: «كذّبه أبو زرعة»!!

وتلّخص:

1- إنّ محمد بن حميد الرازي من رجال ثلاثة من الصحاح الستّة …

2- إنّه من مشايخ عدّةٍ كبيرةٍ من الأئمة الأعلام الّذين لا تجوز نسبة الرواية عن الكذّابين إليهم، وإلّا لتوّجه الطعن عليهم.

3- إنه قد وثقه غير واحدٍ من الأئمة المرجوع إليهم عندهم في سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 79

الجرح والتعديل.

4- إنّ كلمات القوم في الأكثر ترجع إنكار بعض أحاديث الرجل.

5- نعم، قد طعن فيه الجوزجاني، لكنّه من مشاهير النّواصب «1»، وطعن فيه أيضاً ابن خراش، الّذي كذّب حديث «انّا معاشر الأنبياء …»

وخرَّج مثالب أبي بكر وعمر «2».

6- إنّ

الرجل بري ء من تلك الأحاديث التي أنكروها عليه؛ ولذا قال المزّي في تهذيب الكمال: «قال أبو بكر بن أبي خيثمة: سئل يحيي بن معين عن محمّد بن حميد الرازي؟

فقال: ثقة ليس به بأس، رازي كيّس.

وقال علي بن الحسين بن الجنيد الرازي، سمعت يحيي بن معين يقول: ابن حميد ثقة، وهذه الأحاديث التي يحدّث بها ليس هو من قبله، إنّما هو من قبل الشيوخ الّذين يحدّث عنهم».

وحديث الوصيّة ليس منها؛ لأنّه قد ذكر- في الكامل وتبعه في الميزان- بترجمة «شريك القاضي» وهو من شيوخه الثقات، وهنا تحيّر الذهبي، فكذّب بالحديث زوراً وبهتاناً: «ولا يحتمله شريك».

__________________________________________________

(1)

تذكرة الحفّاظ 2/ 459، تهذيب التهذيب 1/ 159.

(2) سير أعلام النبلاء 13/ 509.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 80

قلت:

ولماذا لا يحتمله شريك، وقد رويتم عنه بالأسانيد أنّه روي عن أبي إسحاق، عن أبي وائل، عن حذيفة، عن النبي صلّي اللَّه عليه وآله، قال: «عليّ خير البشر، فمن أبي فقد كفر»؟!

قال ابن عدي: «وقول شريك رواه رجل من أهل الكوفة يقال له:

الحرّ بن سعيد، وقد رواه عن الحرّ غير واحدٍ. وروي عنه أحمد بن يحيي الصوفي وقال: ثنا الحرّ بن سعيد النخعي- وكان من خيار الناس-» «1».

فظهر: أنّه ليس الراوي عنه بعض الكذّابين، كما زعم الذهبي ذلك زوراً وبهتاناً «2».

هذا، وقد عرفت أنّ لهذا الحديث طرقاً عديدة، ومنها طريق الحاكم- وليس فيه محمد بن حميد- وقد أخرجه ابن الجوزي؛ إذ قال:

«أنبأنا زاهربن طاهر، قال: أنبأنا أبو بكر البيهقي، قال: أنبأنا الحاكم أبو عبداللَّه النيسابوري، قال: أنبأنا محمود بن محمد أبو محمد المطوعي، قال: حدّثنا أبو حفص محمد بن أحمد بن رازبه، قال: حدّثنا أبو عبدالرحمن أحمد بن عبداللَّه الفرياني، قال: حدّثنا سلمة بن الفضل،

عن محمد بن إسحاق، عن شريك بن عبداللَّه، عن أبي ربيعة الإيادي،

__________________________________________________

(1) الكامل في ضعفاء الرجال 5/ 14- 15.

(2) ميزان الاعتدال 2/ 271- 272.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 81

عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: «إنّ لكلّ نبي وصيّاً ووارثاً، وإنّ وصيّي ووارثي عليّ بن أبي طالب».

قال ابن الجوزي: «الفرياني؛ قال ابن حبّان: كان يروي عن الثقات ما ليس من أحاديثهم..

وفيه: سلمة؛ قال ابن المديني: رمينا حديث سلمة بن الفضل» «1».

أمّا صاحب تنزيه الشريعة فلم يقل إلّا: «حديث: لكلّ نبيّ وصيّ وإنّ عليّاً وصيّي ووارثي (حا) من طريق أحمد بن عبداللَّه الفرياني» «2».

الحديث الرابع … ص: 81

اشارة

هذا حديث الدار في يوم الإنذار، حين أنزل اللَّه عزّوجلّ «وَأَنْذِرْ عَشيرَتَكَ اْلأَقْرَبينَ»، فدعاهم إلي دار عمّه، وهم يومئذ أربعون رجلًا، يزيدون رجلًا أو ينقصونه، وفيهم أعمامه أبو طالب، وحمزة، والعبّاس وأبو لهب، والحديث في ذلك من صحاح السُنن المأثورة، وفي آخره قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله:

يا بني عبدالمطلب؛ إنّي- واللَّه- ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به، جئتكم بخيرالدنيا والآخرة، وقد أمرني اللَّه أنْ __________________________________________________

(1) كتاب الموضوعات 1/ 376.

(2) تنزيه الشريعة المرفوعة 1/ 356. و «الغرياناني» غلط مطبعي.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 82

أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني علي أمري هذا؟!!

فقال عليّ وكان أحدثهم سناً: أنا يا نبيّ اللَّه أكون وزيرك عليه.

فأخذ رسول اللَّه برقبة علي، وقال: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا. فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب:

قد أمرك أن تسمع لأبنك وتطيع. انتهي.

أخرجه بهذه الألفاظ كثير من حفظة الآثار النبوية، كابن إسحاق، وابن جرير، وابن حاتم، وابن مردويه، وأبي نعيم، والبيهقي في سننه وفي دلائله، والثعلبي

والطبري في تفسير سورة الشعراء من تفسيرهما الكبيرين.

وأخرجه الطبري أيضاً في الجزء الثاني من كتابه «تاريخ الأُمم والملوك» «1».

وأرسله ابن الأثير إرسال المسلّمات في الجزء الثاني من كامله «2»، عند ذكره أمراللَّه نبيّه بإظهار دعوته.

وأبو الفداء في الجزء الأوّل من تاريخه «3»، عند أوّل مَنْ أسلم من الناس.

__________________________________________________

(1) تاريخ الأُمم والملوك (تاريخ الطبري): 320- 322، بطرق مختلفة.

(2) الكامل في التاريخ 2/ 60.

(3) المختصر في أحوال البشر 1/ 116.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 83

ونقله الإمام أبو جعفر الإسكافي المعتزلي في كتابه: نقض العثمانية، مصرّحاً بصحّته «1».

وأورده الحلبي في باب استخفائه صلّي اللَّه عليه وآله وأصحابه في دار الأرقم «2»، من سيرته المعروفة.

وأخرجه بهذا المعني مع تقارب الألفاظ غير واحد من أثبات السُنّة وجهابذة الحديث، كالطحاوي، والضياء المقدسي في المختارة، وسعيد بن منصور في السُنن.

وحسبك ما أخرجه أحمد بن حنبل من حديث عليّ في ص 178 وفي ص 257 من الجزء الأوّل من مسنده، فراجع.

وأخرج في أوّل ص 544 من الجزء الأوّل من مسنده أيضاً حديثاً جليلًا عن ابن عباس يتضمّن هذا النصّ في عشر خصائص ممّا امتاز به عليّ علي مَنْ سواه.

__________________________________________________

(1) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، 13/ 211، مكتبة السيد المرعشي قم، تحقيق أبي الفضل إبراهيم، كنز العمّال: 13/ 114، 36371، تفسير الطبري: 19/ 149، ط دار الفكر، تفسير ابن كثير: 3/ 364، ط، دار المعرفة، الدر المنثور: 5/ 97، ط، دار المعرفة. تاريخ مدينة دمشق: 42/ 49، ط دار الفكر، تاريخ الطبري: 2/ 63، ط، مؤسسة الأعلمي.

(2) أنظر: الصفحة الرابعة من ذلك الباب، أو ص 283 من الجزء الأوّل من السيرة الحلبية.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 84

وذلك الحديث أخرجه النسائي أيضاً عن ابن

عبّاس في ص 52 من خصائصه العَلَوية، والحاكم في ص 132 من الجزء الثالث من المستدرك، وأخرجه الذهبي في تلخيصه للمستدرك معترفاً بصحّته.

ودونك الجزء السادس من كتاب كنز العمّال، فإنّ فيه التفصيل «1».

وعليك بكتاب منتخب الكنز وهو مطبوع في هامش مسند الإمام أحمد، فراجع منه ما هو في هامش ص 41 إلي ص 43 من الجزء الخامس تجد التفصيل؛ وحسبنا هذا ونعم الدليل «2».

__________________________________________________

(1) راجع منه: الحديث 36371 في ص 114 تجده منقولًا عن ابن جرير. والحديث 36408 في ص 128 تجده منقولًا عن أحمد في مسنده، والضياء المقدسي في المختارة، والطحاوي، وابن جرير وصحّحه. والحديث 36419 في ص 131 تجده منقولًا عن ابن إسحاق، وابن جرير، وابن حاتم، وابن مردويه، وأبي نعيم، والبيهقي في شعب الإيمان وفي الدلائل … والحديث 36465 ص 149 تجده منقولًا عن ابن مردويه.. والحديث 36520 في ص 174 تجده منقولًا عن أحمد في مسنده، وابن جرير، والضياء في المختاره.

ومن تتّبع كنز العمّال وجد هذا الحديث في أماكن أُخر شتّي، وإذا راجعت ص 255 من المجلّد الثالث من شرح النهج للإمام المعتزلي الحديدي، أو أواخر شرح الخطبة القاصعة منه، تجد هذا الحديث بطوله.

(2) المراجعات: 110- 112.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 85

تصحيح هذا النصّ: … ص: 85

لولا اعتبار صحّته من طريق أهل السُنّة ما أوردناه هنا.

علي أنّ ابن جرير والإمام أبا جعفر الإسكافي، أرسلا صحّته إرسال المسلّمات «1».

وقد صحّحه غير واحد من أعلام المحقّقين.

وحسبك في تصحيحه ثبوته من طريق الثقات الأثبات، الّذين احتجّ بهم أصحاب الصحاح بكلّ ارتياح.

ودونك ص 178 من الجزء الأوّل من مسند أحمد، تجده يخرج هذا الحديث عن أسود بن عامر «2»، عن شريك «3»، عن __________________________________________________

(1) راجع: الحديث 36408 من أحاديث

الكنز في ص 128 من جزئه الثالث عشر تجد هناك تصحيح ابن جرير لهذا الحديث وإذا راجعت من منتخب الكنز ما هو في أوائل هامش ص 43 من الجزء 5 من مسند أحمد تجد تصحيح ابن جرير لهذا الحديث أيضاً.

أمّا أبو جعفر الإسكافي فقد حكم بصحّته جزماً في كتابه نقض العثمانية، فراجع ماهو موجود في ص 244 من المجلّد 13 من شرح نهج البلاغة للحديدي، طبع مصر.

(2) احتجّ البخاري ومسلم في صحيحيهما، وقد سمع شعبة عندهما، وسمع عبدالعزيز بن أبي سلمة عند البخاري، وسمع عند مسلم زهير بن معاوية، وحمّاد بن سلمة، روي عنه في صحيح البخاري محمد بن حاتم بن بزيع، وروي عنه في صحيح مسلم هارون بن عبداللَّه، والناقد، وابن أبي شيبة، وزهير.

(3) احتجّ به مسلم في صحيحه.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 86

الأعمش «1»، عن المنهال «2»، عن عباد بن عبداللَّه الأسدي «3»، عن عليّ مرفوعاً.

وكلّ واحد من سلسلة هذا السند حجّة عند الخصم، وكلّهم من رجال الصحاح بلا كلام، وقد ذكرهم القيسراني في كتابه الجمع بين رجال الصحيحين؛ فلا مندوحة عن القول بصحّة الحديث.

أقول:

يقع الكلام في هذا المقام في جهات:

الجهة الأُولي: في متن الحديث ورواته … ص: 86

لقد روي الشيخ علي المتّقي الهندي هذا الحديث في كتابه الكبير (كنز العمّال) بعدّة ألفاظٍ، عن جمعٍ كثيرٍ من أئمّة الحديث، ونحن نورد هنا محلّ الحاجة، ومَنْ أراد النصوص الكاملة فليرجع إليه:

(36408)- «… عن عليّ، قال: لمّا نزلت هذه الآية «وَأَنْذِرْ عَشيرَتَكَ __________________________________________________

(1) احتجّ به البخاري ومسلم في صحيحيهما.

(2) احتجّ به البخاري.

(3) هو عباد بن عبداللَّه بن الزبير بن العوّام القرشي الأسدي، احتجّ به البخاري ومسلم في صحيحيهما، سمع أسماء وعائشة بنتي أبي بكر، وروي عنه في الصحيحين ابن أبي مليكة، ومحمد بن

جعفر بن الزبير، وهشام بن عروة.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 87

اْلأَقْرَبينَ» جمع النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله من أهل بيته، فاجتمع ثلاثون، فأكلوا وشربوا، فقال لهم: مَنْ يضمن عنّي ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنّة ويكون خليفتي في أهلي؟ وقال رجل: يا رسول اللَّه؟ أنت كنت بحراً، مَنْ يقوم بهذا؟! ثمّ قال الآخر. فعرض هذا علي أهل بيته واحداً واحداً.

فقال عليّ: أنا.

حم، وابن جرير وصحّحه، والطحاوي، والضياء» «1».

(364419)- «… عن عليٍّ، قال: لمّا نزلت هذه الآية علي رسول اللَّه «وَأَنْذِرْ عَشيرَتَكَ اْلأَقْرَبينَ» … تكلّم النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله فقال: يا بني عبدالمطلّب! إنّي- واللَّه- ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ما جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني اللَّه أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني علي أمري هذا «2»؟

فقلت- وأنا أحدثهم سنّاً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً-: أنا يا نبيّ اللَّه أكون وزيرك عليه.

__________________________________________________

(1) كنز العمّال 13/ 128- 129، و «حم»: رمز أحمد في المسند، و «الضياء»: هو المقدسي صاحب كتاب المختارة.

(2) وفي تفسير البغوي 4/ 278- الملتزم فيه بالصحّة- توجد هنا إضافة: «ويكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم».

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 88

فأخذ برقبتي فقال: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا. فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع وتطيع لعليّ.

ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو نعيم والبيهقي معاً في الدلائل» «1».

(36465)- «… عن عليّ، قال: لمّا نزلت هذه الآية «وَأَنْذِرْ عَشيرَتَكَ اْلأَقْرَبينَ» دعا بني عبدالمطلّب … ثمّ قال لهم- ومدّ يده-: مَنْ يبايعني علي أن يكون أخي وصاحبي ووليّكم من بعدي؟!

فمددت وقلت: أنا أبايعك، وأنا يومئذٍ أصغر القوم، عظيم

البطن، فبايعني علي ذلك … (قال:) وذلك الطعام أنا صنعته.

ابن مردويه» «2».

(36520)- «… عن عليٍّ إنّه قيل له: كيف ورثت ابن عمّك دون عمّك؟!

فقال: جمع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله بني عبدالمطّلب …

فقال: يا بني عبدالمطّلب! إنّي بعثت إليكم خاصّة وإلي الناس عامّةً، وقد

__________________________________________________

(1) كنز العمّال 13/ 131- 133.

(2) المصدر 13/ 149.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 89

رأيتم من هذه الآية ما رأيتم، فأيّكم يبايعني علي أن يكون أخي وصاحبي ووارثي؟ فلم يقم إليه أحد، فقمت إليه- وكنت من أصغر القوم- فقال: اجلس. ثمّ قال ثلاث مرّات. كلّ ذلك أقوم إليه فيقول لي:

اجلس. حتّي كان في الثالثة ضرب بيده علي يدي. قال: فلذلك ورثت ابن عمّي دون عمّي.

حم، وابن جرير، والضياء» «1».

أقول:

وهذا سند الرواية الأُولي- التي رواها المتّقي برقم (36408) عن أحمد، وابن جرير وصحّحه، والطحاوي، والضياء- في مسند أحمد:

«أسود بن عامر، ثنا شريك، عن الأعمش، عن المنهال، عن عباد بن عبداللَّه الأسدي، عن عليٍّ» «2».

وهذا سند الرواية الأخيرة- التي رواها برقم (36520) عن أحمد، وابن جرير، والضياء- في مسند أحمد: «عفّان، ثنا أبو عوانة، عن عثمان ابن المغيرة، عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجذ، عن عليٍ رضي اللَّه عنه، قال: جمع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله بني عبدالمطلّب …» «3».

__________________________________________________

(1) كنز العمّال 13/ 174.

(2) مسند أحمد 1/ 178.

(3) المصدر 1/ 257.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 90

وقد أخرج الحافظ الهيثمي الرواية الأُولي، ثمّ قال: «رواه أحمد، ورجاله ثقات» «1».

وأخرج النسائي أيضاً الرواية الأخيرة- بسند أحمد بن حنبل نفسه- في خصائص سيّدنا أمير المؤمنين عليه السلام «2»، وأهل العلم يعلمون بأنّ هذا الكتاب جزء من سنن النسائي. ولا يخفي عليهم أيضاً صحّة السند المذكور.

وأخرجه الهيثمي:

«عن عليٍّ، قال: لمّا نزلت «وَأَنْذِرْ عَشيرَتَكَ اْلأَقْرَبينَ»، قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: يا عليّ! اصنع رجل شاةٍ بصاع من طعام واجمع لي بني هاشم … فأكلوا وشربوا، فبدرهم رسول اللَّه فقال: أيّكم يقضي عنّي ديني؟ قال: فسكت وسكت القوم. فأعاد رسول اللَّه المنطق. فقلت: أنا يا رسول اللَّه. فقال: أنت يا عليّ، أنت يا عليّ.

رواه البزّار- واللفظ له- وأحمد باختصار، والطبراني في الأوسط باختصارٍ أيضاً، ورجال أحمد وأحد إسنادي البزّار رجال الصحيح غير شريك وهو ثقة».

__________________________________________________

(1) خصائص أميرالمومنين عليّ 66 رقم 99.

(2) مجمع الزوائد 8/ 302.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 91

أقول:

فهذه نصوص الحديث، وهؤلاء رواته.

وأمّا من حيث السند، فقد رأيتَ كيف ينصّون علي صحّته.

وأمّا من حيث الدلالة، فكلُّ لفظٍ دليل علي إمامة عليٍّ عليه السلام بعد رسول اللَّه، وهو بمجموع ألفاظه من أقوي النصوص سنداً ودلالةً علي ذلك.

ويضاف إلي جهة السند: … ص: 91

1- الحديث من روايات تفسير الطبري، وابن أبي حاتم الرازي، والبغوي، وقد احتجَّ ابن تيميّة في منهاج السُنّة بهذه الكتب «1»، ووصف الطبري وابن أبي حاتم- وجماعةٍ من المفسّرين- بأنّهم: «لم يذكروا الموضوعات» «2»، وبأنّهم: «الّذين لهم في الإسلام لسان صدق، وتفاسيرهم متضمّنة للمنقولات التي يعتمد عليها في التفسير» «3».

2- الحديث من روايات كتاب المختارة للضياء المقدسي، وهو

__________________________________________________

(1) أنظر: احتجاجه بتفسير البغوي في منهاج السُنّة 1/ 457.

(2) منهاج السُنّة 7/ 13.

(3) المصدر 7/ 178- 179.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 92

ممّن التزم بالصحّة، بل قال الحافظ ابن حجر- لإثبات صحّة أحد الأحاديث-: «قلت: وأخرجه الضياء في المختارة من المعجم الكبير للطبراني … (قال) وابن تيميّة يصرّح بأنّ أحاديث المختارة أصحّ وأقوي من أحاديث المستدرك» «1».

3- الحديث من جملة الفضائل العشر المختصّة بأمير المؤمنين عليه السلام،

في الصحيح عن ابن عبّاس.

الجهة الثانية: في النظر في كلام ابن تيميّة: … ص: 92

والآن، فلننظر في كلام ابن تيميّة حول هذا الحديث، وهذا نصّه:

«هذا الحديث ليس في شي ء من كتب المسلمين التي يستفيدون منها علم النقل، لا في الصحاح ولا في المسانيد والسنُن والمغازي والتفسير التي يذكر فيها الإسناد الذي يحتجّ به، وإذا كان في بعض كتب التفسير التي ينقل منها الصحيح والضعيف، مثل تفسير الثعلبي والواحدي والبغوي، بل وابن جرير وابن أبي حاتم، لم يكن مجرّد رواية واحدٍ من هؤلاء دليلًا علي صحّته …

(قال:) إنّ هذا الحديث كذب عند أهل المعرفة بالحديث، فما من عالمٍ يعرف الحديث إلّاوهو يعلم أنّه كذب موضوع، ولهذا لم يرْوه أحد منهم في الكتب التي يرجع إليها في المنقولات، لأنّ أدني مَنْ له معرفة

__________________________________________________

(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 7/ 217.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 93

بالحديث يعلم أنّ هذا كذب …

(قال:) وقد رواه ابن جرير، والبغوي بإسنادٍ فيه عبدالغفّار بن القاسم بن فهد أبو مريم الكوفي، وهو مجمع علي تركه … ورواه ابن أبي حاتم، وفي إسناده عبداللَّه بن عبدالقدّوس، وهو ليس بثقة …

(قال:) إنّ بني عبدالمطلّب لم يبلغوا أربعين رجلًا حين نزلت هذه الآية …

(قال:) ليس بنو هاشم معروفين بمثل هذه الكثرة في الأكل، ولا عرف فيهم مَنْ كان يأكل جذعةٍ، ولا يشرب فرقاً …

(قال:) إنّ الذي في الصحاح من نزول هذه الآية غير هذا …» «1».

أقول:

أوّلًا: إنّ هذا الحديث موجود في سنن النسائي «2»، ومسند أحمد، ومسند البزّار، وفي المعجم الأوسط للطبراني، والمختارة للضياء، وغيرها من كتب الحديث … كما عرفت.

ورواه ابن إسحاق صاحب المغازي …

وهو في كثير من التفاسير المعتمدة.

__________________________________________________

(1) منهاج السُنّة 7/ 299- 307.

(2) السُنن الكبري 5/ 125/ 8451.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص:

94

وعرفت أنّ عدّةً من أسانيده صحيحة، بإعتراف الحافظ الهيثمي، الذي هو عندهم من نقّاد الحديث، وأنّ جمعاً من أكابرهم يقولون بصحّته … وأنّ البيهقي وأبا نعيم الأصبهاني يجعلان القضية من دلائل النبوّة.

فكلام ابن تيميّة يشتمل علي أكاذيب لا كذبة واحدة.

وثانياً: قد عرفت أنّ غير واحدٍ من أسانيده الصحيحة ليس فيه «عبدالغفّار» ابن القاسم» ولا «عبداللَّه بن عبدالقدّوس».

وثالثاً: إنّ «عبدالغفّار بن القاسم» ليس بمجمعٍ علي تركه، بل هو مختلف فيه.

قال الحافظ ابن حجر: «قال أبو حاتم: ليس بمتروكٍ، وكان من رؤساء الشيعة» «1».

ونقلوا عن شعبة بن الحجّاج أنّه كان يروي عنه، ويثني عليه، ويقول: لم أر أحفظ منه «2».

وعن ابن عقدة أنّه كان يثني عليه ويطريه؛ قال ابن عدي: وتجاوز الحدّ في مدحه حتّي قال: لو انتشر علم أبي مريم وخرّج حديثه لما احتاج الناس إلي شعبة.

__________________________________________________

(1) تعجيل المنفعة: 297.

(2) المصدر.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 95

قال ابن عدي: وإنّما مال إليه ابن عقدة هذا الميل لإفراطه في التشيّع «1».

قلت: وإنّما تكلّم مَنْ تكلّم في أبي مريم، لأنّه كان يحدّث ببلايا عثمان وعائشة «2».

ورابعاً: إنّ «عبداللَّه بن عبدالقدّوس» من رجال البخاري في التعاليق، ومن رجال الترمذي، وأخرج له أبو داوُد، وذكره ابن حبّان في الثقات.

وقال البخاري: هو في الأصل صدوق إلّاأنّه يروي عن أقوامٍ ضعاف، وقال يحيي بن المغيرة: أمرني جرير أنْ أكتب عنه حديثاً، وقال ابن عدي: عامّة ما يرويه في فضائل أهل البيت «3».

وهذا هو الذنب الوحيد!! ولذا قال الحافظ في التقريب: «صدوق رُمِيَ بالرفض» «4».

وقد تقدّم أنّ الرفض غير مضرّ.

وخامساً: إنّ التشكيك في صحّة الحديث بأنّ بني عبدالمطلّب ما

__________________________________________________

(1) الكامل 7/ 18.

(2) تعجيل المنفعة: 297.

(3) تهذيب التهذيب 5/ 265.

(4) تقريب التهذيب 1/ 430.

سلسلة النقد

والتحقيق، ج 1، ص: 96

كانوا يبلغون الأربعين، وأنّهم ما كانوا بهذا القدر يأكلون، لا يُصغي إليه، ولا رواج له عند مَن يفهمون …

وكذلك المعارضة بما ورد في بعض كتبهم في شأن نزول الآية، فالحديث الذي نستند إليه متفق عليه، ولا يعارضه ما انفردوا به، كما لا يخفي علي أهل الدراية.

الحديث الخامس … ص: 96

نصّ الحديث كما ذكره الحافظ الكنجي الشافعي:

أخبرنا المعمر أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان بن يوسف الكاشغري، أخبرنا الشيخان ابن البطي والكاغذي، قال أبو الفتح: أخبرنا أبو الفضل بن خيرون، وقال أبو المظفر، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الطريثيثي قالا:

أخبرنا أبو علي بن شاذان، أخبرنا عبداللَّه بن جعفر بن درستويه، أخبرنا الحافظ أبو يوسف يعقوب بن سفيان الفارسي الفسوي في مشيخته، حدّثنا أبو طاهر محمد بن قسيم «1» الحضرمي، حدّثنا حسن بن حسين العرني، حدّثني يحيي بن عيسي الرملي، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله لأمّ سلمة: «هذا علي بن أبي طالب لحمه من لحمي ودمه __________________________________________________

(1) هذا خطأ مطبعي أو تصحيف من النسّاخ، والصحيح: تسنيم.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 97

من دمي، وهو منّي بمنزلة هارون من موسي، إلا أنّه لا نبيّ بعدي يا أم سلمة هذا علي أمير المؤمنين وسيّد المسلمين، «ووعاء علمي ووصيي» وبابي الذي أوتي منه، أخي في الدنيا والآخرة، ومعي في المقام الأعلي، يقتل القاسطين والناكثين والمارقين».

أقول:

أمّا رجال السند حتي الفسوي صاحب المشيخة، فهم من كبار الحفّاظ والمشايخ الأعلام، ولا حاجة إلي التطويل بذكر تراجمهم.

و (الفسوي) هو:

يعقوب بن سفيان بن جوان الفارسي أبو يوسف بن أبي معاوية الفسوي الحافظ، صاحب التصانيف المشهورة، هكذا وصفه المزي.

وقال أيضاً:

قال النسائي: لا بأس به.

وقال: وذكره ابن حبّان في كتاب الثقات، وقال: كان ممّن جمع وصنّف وأكثر، مع الورع والنُسك والصلابة في السُنّة «1».

وقال ابن حجر في تقريبه: يعقوب بن سفيان الفارسي، أبو يوسف الفَسَوي، ثقة حافظ، من الحادية عشرة، مات سنة 277.

وهو من رجال النسائي وابن ماجة «2».

__________________________________________________

(1) تهذيب الكمال 32/ 324، رقم 7088.

(2) التقريب 2/ 104.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 98

وقال الذهبي: الإمام الحافظ، الحجّة، الرحال، محدِّث إقليم فارس، أبو يوسف يعقوب بن سفيان بن جوان الفارسي … «1».

و (الحسن العرني) قد وثّقه الذهبي تبعاً للحاكم «2»، فلا كلام فيه.

وهو يرويه عن:

(يحيي بن عيسي التميمي) النهشلي، الفاخوري، الكوفي نزيل الرملة، صدوق ورمي بالتشيع مات سنة 201، وهو من رجال البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي وابن ماجة. هذا ما قاله ابن حجر «3».

وقال المزي: يحيي بن عيسي بن عبدالرحمان التميمي النهشلي أبو زكريا الكوفي الجرار الفاخوري سكن الرملة. قال أبو داود: بلغني عن أحمد بن حنبل أنّه أحسن الثناء عليه. وقال العجلي: ثقة، وكان فيه تشيع «4».

وهو يرويه عن (الأعمش) وهو من رجال الصحاح الستّة «5». وهو

__________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 13/ 180، رقم 106.

(2) المستدرك 3/ 211.

(3) تقريب التهذيب 2/ 355، رقم 145.

(4) تهذيب الكمال 31/ 488 رقم 6896.

(5) تقريب التهذيب 1/ 331.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 99

يرويه عن (حبيب بن أبي ثابت) هو قيس، ويقال هند بن دينار الأسدي، مولاهم، أبو يحيي الكوفي. ثقة فقيه جليل «1».

فالحديث صحيح بلا كلام.

الحديث السادس … ص: 99

قال الحافظ الكنجي:

أخبرنا أبو الحسن بن أبي عبداللَّه، عن المبارك بن الحسن بن أحمد، أخبرنا أبو القاسم بن أحمد، حدّثنا حسين بن إسحاق التستري، حدّثنا محمد بن صباح الجرجاني، حدّثنا محمد بن كثير،

حدّثنا حارث بن حصيرة، عن أبي صادق، عن مخنف بن سليم، قال: أتينا أبا أيوب الأنصاري وهو يعلف خيلًا له، قال: فقلنا عنده فقلتُ له: يا أبا أيوب قاتلت المشركين مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله ثم جئتَ تقاتل المسلمين، قال: «إنَّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله أمرني بقتال ثلاثة الناكثين والقاسطين والمارقين، فقد قاتلتُ الناكثين والقاسطين وأنا مقاتل إن شاء اللَّه المارقين بالسعفات بالطرقات بالنهروانات وما أدري أين هو».

نقول:

حديث وصية النبيّ (صلّي اللَّه عليه وآله) لعلي بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، عن أبي أيّوب الأنصاري، أخرجه الحاكم في __________________________________________________

(1) تقريب التهذيب 1/ 148، رقم 106.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 100

مستدركه بإسنادين، حيث قال:

حدّثنا أبو سعيد أحمد بن يعقوب الثقفي، حدّثنا الحسن بن علي بن شبيب المعمري، حدّثنا محمد بن حميد، حدّثنا سلمة بن الفضل، حدثني أبو زيد الأحول، عن عقاب بن ثعلبة، حدثني أبو أيوب الأنصاري في خلافة عمر بن الخطاب، قال: أمر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله عليَّ بن أبي طالب بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين».

(قال): حدّثنا أبو بكر بن بالويه، حدّثنا محمد بن يونس القرشي، حدّثنا عبدالعزيز بن الخطاب، حدّثنا علي بن غراب بن أبي فاطمة، عن الأصبغ بن نباته، عن أبي أيوب الأنصاري رضي اللَّه عنه قال سمعت النبي صلّي اللَّه عليه وآله يقول لعليّ بن أبي طالب: تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين بالطرقات والنهروانات وبالسعفات، قال أبو أيوب: قلت: يا رسول اللَّه مع مَنْ نقاتل هؤلاء الأقوام؟

قال: مع علي بن أبي طالب» «1».

لكنّ الحديث من أصحّ الأحاديث المشهورة- وإنْ حاول مثل ابن تيميّة تكذيبه «2» - فقد رواه أئمة الحديث بأسانيدهم عن عدّةٍ من الصّحابة، كعليّ أمير المؤمنين، وعبداللَّه بن

مسعود وأبي سعيد

__________________________________________________

(1) المستدرك 3/ 139- 140.

(2) منهاج السنة 6/ 112.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 101

الخدري، وعمّار بن ياسر …

ومن الأئمة والحفاظ الذين رووه عن هؤلاء الأصحاب وغيرهم:

محمد بن جرير الطبري، أبو بكر البزار، أبو يعلي الموصلي، ابن مردويه، أبو القاسم الطبراني، الحاكم النيسابوري، الخطيب البغدادي، إبن عساكر الدمشقي، إبن الأثير الجزري، جلال الدين السيوطي، ابن كثير الشافعي، المحب الطبري، أبو بكر الهيثمي، المتقي الهندي.

ونحن نذكر هنا بعض الأسانيد المعتبرة لهذا الحديث:

أخرج الحافظ أبو بكر الهيثمي في (باب ما كان بينهم يوم صفين):

«عن علي قال: عهد إليَّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله في قتال الناكثين والقاسطين والمارقين.

وفي روايةٍ: أُمِرْتُ بقتال الناكثين. فذكره.

رواه البزّار والطبراني في الأوسط. وأحد إسنادي البزّار رجاله رجال الصحيح غير الرّبيع بن سعيد ووثّقه ابن حبان» «1».

قال: «وعن أبي سعيد عقيصا قال: سمعت عمّاراً- ونحن نريد صفّين- يقول: أمرني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله بقتال الناكثين __________________________________________________

(1) مجمع الزوائد- كتاب الفتن، باب فيما كان بينهم يوم صفين رضي اللَّه عنهم- 7/ 238.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 102

والقاسطين والمارقين.

رواه الطبراني. وأبو سعيد متروك» «1».

قلت: ليس متروكاً، فقد أخرج الحاكم والذهبي بإسنادهما حديث:

«علي مع القرآن والقرآن مع علي لن يفترقا حتي يردا عليَّ الحوض» فقالا: «هذا حديث صحيح الإسناد، وأبو سعيد التيمي هو عقيصاء ثقة مأمون» «2».

قال: «وعن قيس بن أبي حازم قال قال علي: إنفروا إلي بقيّة الأحزاب، إنفروا بنا إلي ما قال اللَّه ورسوله، إنا نقول: صدق اللَّه ورسوله، ويقولون: كذب اللَّه ورسوله.

رواه البزّار بإسنادين، في أحدهما يونس بن أرقم، وهو ليّن. وفي الآخر السيّد بن عيسي قال: الأزدي: ليس بذاك. وبقيّة رجالهما ثقات» «3».

قلت: أمّا (يونس بن أرقم) فيكفي

أنّا لم نجد له جرحاً، وإنّما ليّنه ابن خراش فقط، بل إنّ أبا حاتم الرازي- علي تعنّته في الرجال كما وصفه الذهبي بترجمته في سير أعلام النبلاء- لم يقدح فيه، بل وثّقه __________________________________________________

(1) مجمع الزوائد- كتاب الفتن، باب كان بينهم يوم صفين رضي اللَّه عنهم- 7/ 238.

(2) المستدرك وتلخيصه 3/ 124.

(3) مجمع الزوائد 7/ 239.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 103

ابن حبّان، نعم قال: «كان يتشيّع» ولعلّه السبب في تليين ابن خراش، لكنْ قد نصّ ابن حجر علي عدم الإلتفات إليه «1».

فظهر صحّة السند الأول وأمّا (السيد بن عيسي) فلم يتكلّم فيه إلّا «الأزدي» وقد نصّ الذهبي علي أنّه لا يلتفت إلي قول الأزدي «2» وقال ابن حجر: «لا يعتبر تجريحه لضعفه هو» «3». ثم إنّ ابن حجر ينصّ علي أن ابن حبان ذكر «السيد بن عيسي» في الثقات «4».

الحديث السابع … ص: 103

قال الحافظ الكنجي:

أخبرنا أبو طالب عبداللطيف بن القبيطي والخطيب أبو تمام، قالا:

أخبرنا محمد بن عبدالباقي، أخبرنا أبو الفضل بن أحمد الأصبهاني، حدّثنا أحمد بن عبداللَّه، حدّثنا أبو بكر بن خلّاد وأبو بحر محمد بن الحسن، قالا: حدّثنا محمد بن يونس السامي، حدّثنا حماد بن عيسي __________________________________________________

(1) مقدمة فتح الباري: 431.

(2) ميزان الاعتدال 1/ 61.

(3) مقدمة فتح الباري: 430.

(4) لسان الميزان: 3/ 131، رقم 4068.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 104

الجهني، حدّثنا جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله قال لعلي بن أبي طالب: سلامٌ عليك يا أبا ريحانتي، وأوصيك بريحانتيّ من الدنيا خيراً، فعن قليل ينهدُّ ركناك واللَّه خليفتي عليك.

قال: فلما قُبض النبي صلّي اللَّه عليه وآله قال علي: هذا أحد الركنين الذين قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله،

فلما ماتت فاطمة قال علي: هذا الركن الثاني الذي قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله».

نقول:

وأخرجه أبو نعيم «1» ولم يخدش في سنده، وأيضاً أخرجه ابن عساكر «2»، بسندٍ آخر ولم يعترض عليه وسكت، فسكوت هؤلاء الأعلام يكشف عن صحة وقوّة هذا الحديث سنداً ودلالةً.

نعم، قد تكلّم في (حمّاد بن عيسي) المتوفي 208. ولكن الحق والإنصاف أنّ حمّاد بن عيسي ثقة، لأنّه من رجال الصحاح، فقد أخرج عنه الترمذي وابن ماجة كما ذكر الحافظ ابن حجر «3» في تقريبه. هذا أوّلًا.

ثانياً: روي عنه رجال أكابر وبعضهم متعصبون، كإبراهيم __________________________________________________

(1) حلية الأولياء 3/ 201.

(2) تاريخ مدينة دمشق 14/ 161.

(3) تقريب التهذيب 1/ 197 رقم 456.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 105

الجُوزجاني، وأحمد بن سعيد الدارمي، والحسن الحُلواني، وعباس الدوري، وعبد بن حميد، ومحمد بن موسي القّطان الواسطي، ومعلّي بن مهدي الموصلي، وغيرهم.

ثالثاً: يحيي بن مَعين قال عنه: شيخٌ صالح «1».

الحديث الثامن … ص: 105

أخرج الحافظ الطبراني:

حدثّنا محمّد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثّنا محمد بن يزيد- هو أبو هشام الرفاعي-، حدّثنا عبداللَّه بن محمد الطهوي، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: بينما أنا مع النبي صلّي اللَّه عليه وآله في ظل بالمدينة وهو يطلب علياً رضي اللَّه عنه إذا انتهينا إلي حائط فنظرنا فيه إلي علي وهو نائم في الأرض وقد اغبّر، فقال: «لا ألوم الناس يُكنونك أبا تراب» فلقد رأيتُ علياً تغيّر وجهه واشتد ذلك، فقال: «ألا أرضيك يا عليّ؟ قال: بلي يا رسول اللَّه، قال: أنت أخي ووزيري تقضي ديني وتنجز موعدي وتبري ء ذمتي، فمَنْ أحبك في حياة مني فقد قضي نحبه، ومَنْ أحبكَ في حياةٍ منكَ بعدي ختم اللَّهُ له بالأمن والإيمان، ومَنْ أحبك بعدي

ولم يرك ختم اللَّهُ له بالأمن والإيمان وأمنه يوم الفزع الأكبر،

__________________________________________________

(1) تهذيب الكمال 7/ 282 رقم 1486.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 106

ومَنْ مات وهو يبغضك يا علي ماتَ ميتةً جاهلية يحاسبه اللَّهُ بما عمل في الإسلام».

أقول:

و (محمد بن عثمان بن أبي شيبة) قال الذهبي: «كان بصيراً بالحديث والرجال، له تواليف مفيدة، وثّقه صالح جزرة، وقال ابن عدي:

لم أر له حديثاً منكراً. توفي سنة 297» «1».

و (محمّد بن يزيد بن محمد الرِّفاعي) الكوفي المقري ء- أبو هشام- قاضي بغداد المتوفي سنة 248 من رجال مسلم، والترمذي، وابن ماجة القزويني.

وقال البرقاني: هو ثقةٌ، أمرني الدارقطني أنْ أُخرج حديثه في الصحيح.

وقال أحمد بن محمد مُحرز: سألتُ يحيي بن مَعين، عن أبي هشام، فقال: ما أري به بأساً.

وقال العجلي: لا بأس به، صاحبُ قرآن، قرأ علي سُليم، وولي قضاء المدائن «2».

وأمّا (ليث) و (مجاهد) فمن رجال الصّحاح الستّة.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3/ 642 رقم 7934.

(2) سير أعلام النبلاء 12/ 153، رقم 55.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 107

ثمّ إنّ مورد هذا الحديث هو قضيّة المؤاخاة، فإنّه لمّا آخي النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله بين أصحابه، لم يؤاخ بين علي عليه السلام وأحد من الصحابة، فذهب أمير المؤمنين عاتباً علي رسول اللَّه، فجاءّ النبي وأخبره بأنه إنّما ادّخره لنفسه، وقال له هذا الكلام المشتمل علي عدّة مناقب.

وقد أخرجه الطبراني بإسنادٍ أخر له عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس- مع اختلافٍ في اللّفظ فقال:

لمّا آخي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم بين أصحابه، وبين المهاجرين والأنصار، فلم يؤاخِ بين علي بن أبي طالب وبين أحدٍ منهم، خرجَ عليّ مغضباً، حتّي أتي جدولًا من الأرض، فتوسّد ذراعه، فتسفي عليه الريح، فطلبه النبي صلّي اللَّه عليه

وسلّم حتي وجده، فوكزه برجله، فقال له:

قم، فما صلحت أنْ تكون إلّاأبا تراب، أغضبتَ عليَّ حين آخيتُ بين المهاجرين والأنصار، ولم أُؤاخ بينكَ وبين أحدٍ منهم؟ أما ترضي أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسي إلّاأنّه ليس بعدي نبي؟ ألا مَنْ أحبّك حفَّ بالأمن والإيمان، ومَنْ أبغضكَ أماته اللَّه ميتةً جاهليةً وحوسب بعمله في الإسلام «1».

__________________________________________________

(1) المعجم الكبير 11/ 62، رقم 11092.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 108

أقول:

و (محمود بن محمد المروزي) قال الحافظ الخطيب البغدادي:

«قدم بغداد وحدّث بها عن داود بن رشيد، والحسين بن علي بن الأسود، وعلي بن حجر وحامد بن آدم المروزيين، وسهل بن العباس الترمذي.

روي عنه: محمد بن مخلّد، وعبدالصمد بن علي الطستي، وأبو سهل بن زياد، وإسماعيل بن علي الخطبي، وأبو علي بن الصواف أحاديث مستقيمة».

ثمّ روي عن طريقه حديثاً، وأرّخ وفاته بسنة سبع وتسعين» «1».

عن (حامد بن آدم)، وقد أخرج عنه الحاكم في المستدرك «2» وذكره ابن حبّان في الثقات «3» وقال ابن عدي: «لم أر في حديثه إذا روي عن ثقةٍ شيئاً منكراً، وإنّما يؤتي ذلك إذا حدَّث عن ضعيف» «4».

نعم، قد تكلّم فيه السعدي، لكن السعدي نفسه مجروح،

__________________________________________________

(1) تاريخ بغداد 13/ 93.

(2) لسان الميزان 2/ 199.

(3) كتاب الثقات 8/ 218.

(4) الكامل في الضعفاء 3/ 409.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 109

فلا يعارَض بكلامه توثيق الحاكم وابن حبان وغيرهما.

عن (جرير)؛

عن (ليث)؛

عن (مجاهد).

وهؤلاء أئمّة أعلام، لا حاجة إلي توثيقهم.

الحديث التاسع … ص: 109

عن عبداللَّه بن الحارث، عن ابن عباس، عن علي قال لما نزلت:

«وَأَنْذِرْ عَشيرَتَكَ اْلأَقْرَبينَ» قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله يا عليّ اصنع رجل شاة بصاع من طعام واجمع لي بني هاشم، وهم يومئذٍ أربعون رجلًا أو أربعون غير رجل، قال:

فدعا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله بالطعام الجذعة بأدامها، ثم تناول القدح فشربوا منه حتي رووا يعني من اللبن، فقال بعضهم: ما رأينا كالسحر يرون أنّه أبو لهب الذي قاله، فقال: يا علي اصنع رجل شاة بصاعٍ من طعام واعدد قعباً من لبن قال: فقلت، فأكلوا كما أكلوا في اليوم الأوّل وشربوا كما شربوا في المرة الأولي رأينا اليوم في السحر، فقال: يا علي اصنع رجل شاة بصاع من طعام واعدد قعباً من لبن، قال: ففعلتُ، فقال: يا علي اجمع لي بني هاشم فجمعتهم فأكلوا وشربوا، فبدرهم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله فقال: أيّكم يقضي ديني؟

قال: فسكت وسكت القوم، فأعاد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله المنطق، فقلتُ: أنا يا رسول اللَّه، قال: أنت يا علي أنت يا علي».

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 110

أقول:

ولم يتوقفوا في سند الحديث، إلّاأنّ الهيثمي في مجمعه- في أحد طرق هذا الحديث- رمي (ضرار بن صُرد) بالضعف، وهذا مردود:

فقد قال المزّي: «روي عنه البخاري في كتاب أفعال العباد»، ثمّ ذكر أسماء الرواة عنه من كبار الأئمّة: ك: أبي حاتم الرازي، وأبي زرعة الرازي، ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة، ومحمد بن عبداللَّه مطيّن، وأبي بكر زهير بن حرب، وحنبل بن إسحاق … وأمثالهم.

قال: «وقال أبو حاتم: صدوق، صاحب قرآن وفرائض، يُكتب حديثه ولا يُحتجّ به، روي حديثاً عن معتمر، عن أبيه، عن الحسن، عن أنس، عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله، في فضيلةٍ لبعض الصحابة، ينكرها أهل المعرفة بالحديث» «1».

ولقد ذكر الذهبي بترجمة أبي حاتم الرازي أنّه إن وثّق أحداً فتمسّك بقوله «2»، وقد قال في الرجل: «صدوقٌ».

نعم، ذنبه هو روايته لمثل هذه الأحادث في فضل أمير المؤمنين

عليه وآله الصّلاة والسلام؟!

وقد وجدنا بعض الإنصاف لدي الحافظ ابن حجر؛ لأنّه لم يورد

__________________________________________________

(1) تهذيب الكمال في أسماء الرجال 13/ 304، 305.

(2) سير أعلام النبلاء 13/ 260.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 111

الرجل في لسان الميزان، لكونه من رجال البخاري في كتابه أفعال العباد، وقال في تقريب التهذيب: «ضرار- بكسر أوّله مخفّفاً- ابن صرد- بضمّ المهملة وفتح الراء- التيمي، أبو نعيم، الطّحان، الكوفي، صدوقٌ، له أوهام وخطأ، ورمي بالتشيّع، وكان عارفاً بالفرائض، من العاشرة. مات سنة 29 عخ» «1».

الحديث العاشر … ص: 111

أخبرني عبدوس بن عبداللَّه الهمداني بهمدان إجازةً، أخبرني الشريف أبو طالب المفضل بن محمد الجعفري، أخبرني الحافظ أبو بكر بن مردويه، حدثني جدّي، حدثني أحمد بن محمود بن خرذاد، أخبرني أبو الحسين القاضي، حدثني عبدالرحمان بن دبيس بن حميد، حدثني محمد بن إسماعيل بن رجا الزبيدي، عن مطر، عن أنس، عن سلمان قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: علي بن أبي طالب يُنجز عداتي ويقضي ديني.

نقول:

قال الذهبي بترجمة ابن مردويه: الحافظ المجودُ العلامة، محدّث أصبهان، أبو أحمد بن موسي بن فورك بن موسي بن جعفر، الأصبهاني.

__________________________________________________

(1) تقريب التهذيب 1/ 374.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 112

قال أبو بكر بن أبي علي- وذكر أبا بكر بن مردويه- هو أكبر من أنْ ندلَّ عليه وعلي فضله وعلمه وسيره، وأشهرُ بالكثرة والثقة من أنْ يُوصف حديثه، أبقاه اللَّه … «1».

وأيضاً قال الذهبي: «وأجاز لي أبو نعيم الحداد: سمعتُ أبا بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن مردويه يقول: رأيتُ من أحوال جدّي من الديانة في الرواية ما قضيتُ منه العجب من تثبُّته وإتقانه، وأهدي له كبيرٌ حلاوةً، فقال: إنْ قبلتُها، فلا أذن لك بعدُ في دخُول داري وإنْ ترجع

به، تزِد عليَّ كرامة» «2».

فيظهر لنا من هذه الحكاية شدّة ورع وتقوي ابن مردويه، وأنه كان محتاطاً في نقل الرواية إلي حدٍّ عجيب، فهو إذاً لا يروي إلّاعن مَنْ كان ثِقةً صالحاً صدوقاً؛ لشدّةِ تحفظه.

وأما في خصوص (أبي الحسين القاضي) فقد قال السمعاني في الأنساب: وأبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين بن التوزي القاضي، وكان مكثراً ثقةً «3».

وترجم له الخطيب البغدادي أيضاً فقال: «كتبت عنه، وكان صدوقاً

__________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 17/ 308، رقم 188.

(2) المصدر 17/ 309.

(3) الأنساب 4/ 324، رقم 2133.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 113

كثير الكتاب» «1».

وقال الحافظ ابن حجر «2» (محمد بن إسماعيل بن رجاء الزُبيدي) بضم الزاي، الكوفي، صدوق يتشيّع، من الثامنة.

فهذه إطلالةٌ سريعةٌ علي بعض رجالات سند الحديث.

الحديث الحادي عشر … ص: 113

أخرجَ الديلمي:

عن عبدان بن يزيد بن يعقوب الدقاق من أصل كتابه، حدثنا إبراهيم بن الحسين بن ديزيل، حدّثنا أبو نعيم ضِرار بن صُرد، حدثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعتُ أبي يذكر عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله قال لعلي: أنت تبيّن لأمتي ما اختلفوا فيه بعدي.

قلت:

قال الحاكم في مستدركه بعد هذا الحديث: هذا حديثٌ صحيح علي شرط الشيخين ولم يُخرجاه «3».

__________________________________________________

(1) تاريخ بغداد 4/ 324.

(2) تقريب التهذيب: 2/ 145، رقم 46.

(3) المستدرك: ج 3، ص 122.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 114

وقال الذهبي بترجمة (ابن ديزيل): الإمام، الحافظ، الثقة العابد، أبو إسحاق، إبراهيم بن الحسين بن علي، الهمداني الكسائي، ويعرف بابن ديزيل، و كان يصومُ يوماً ويُفطر يوماً.

قال الحاكم: هو ثِقةٌ مأمون.

وقال ابنُ خِراش: صدوقُ اللّهجة.

وقال صالح بن أحمد في تاريخ همدان سمعتُ جعفر بن أحمد يقول: سألتُ أبا حاتم الرازي، عن ابن ديزيل، فقال:

ما رأيتُ، ولا بلغني عنه إلّاصدقٌ وخيرٌ «1».

وقال ابن حجر: (مُعتَمر بن سُليمان التيمي) أبو محمد البصري، ثقة من كبار التاسعة، مات سنة 187 وقد جاوز الثمانين، وعدّه من رجال الصحاح الستة «2».

وقال الذهبي: مُعتمر بن سليمان بن طرخان، الإمام الحافظ القدوة، قال ابن مَعين: ثِقة، وقال أبو حاتم: ثقةٌ صدوق، وقال ابن سعد: كان ثقةً «3».

ولكن الذهبي في تلخيصه علي المستدرك لم يتوقف في هذا

__________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 13/ 184، رقم 107.

(2) تقريب التهذيب 2/ 263، رقم 1260.

(3) سير أعلام النبلاء 8/ 477، رقم 23.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 115

الحديث إلّامن جهة (ضِرار بن صرد)، قد بيّنا حاله سابقاً تحت الحديث التاسع، فراجع.

الحديث الثاني عشر … ص: 115

رواه الحافظ أبو نعيم، قال: «حدثنا محمد بن أحمد بن علي، ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، ثنا إبراهيم بن محمّد بن ميمون، ثنا علي ابن عياش، عن الحارث بن حصيرة، عن القاسم بن جندب، عن أنس، قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: يا أنس! اسكب لي وضوءاً. ثمّ قال: فصلّي ركعتين، ثمّ قال: يا أنس! أوّل مَنْ يدخل عليكَ من هذا الباب أمير المؤمنين، وسيّد المسلمين، وقائد الغرّ المحجّلين، وخاتم الوصيّين.

قال أنس: قلت: اللّهمّ اجعله رجلًا من الأنصار. وكتمته.

إذ جاء علي فقال: مَنْ هذا يا أنس؟ فقلت: عليّ.

فقام مستبشراً فاعتنقه، ثمّ جعل يمسح عرق وجهه بوجهه ويمسح عرق عليّ بوجهه. قال عليّ: يا رسول اللَّه! لقد رأيتك صنعت شيئاً ما صنعت بي من قبل.

قال: وما يمنعني وأنت تؤدّي عنّي وتسمعهم صوتي، وتبيّن لهم ما اختلفوا فيه بعدي.

رواه جابر الجعفي، عن أبي الطفيل، عن أنس نحوه».

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 116

أقول:

قد روي الحديث، عن أبي نعيم كذلك جماعة،

منهم: الحافظ ابن عساكر إذ أخرجه قائلًا: «أخبرنا أبو علي المقري ء، أنبأنا أبو نعيم الحافظ …» «1».

وأخرجه ابن عساكر بطريق آخر؛ إذ قال: «أخبرنا أبو الحسن الفرضي، أنا أبو القاسم بن أبي العلاء، أنا أبو بكر محمّد بن عمر بن سليمان بن المعدل العريني النصيبي- بها- وأبو بكر الحسين بن محمّد قالا: أنا أبو بكر أحمد بن يوسف بن خلاد، نا أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة، نا إبراهيم بن محمّد، نا علي بن عائش، عن الحارث بن حصيرة، عن القاسم بن جندب، عن أنس بن مالك …» «2».

وهذا الحديث يعدّ من أسمي مناقب سيّدنا أمير المؤمنين وفضائله الدالّة علي إمامته بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله. ولولا ذلك لما قال أنس: «اللّهم اجعله رجلًا من الأنصار» ولما كتم «3».

ومن هنا، فقد بذل المتعصّبون جهودهم في الطعن فيه،

__________________________________________________

(1) تاريخ مدينة دمشق 42/ 386.

(2) المصدر 42/ 303.

(3) كتمان أنس ما يتعلَّق بأمير المؤمنين عليه السلام لا يختصّ بهذا المورد، فله نظائر للتفصيل فيها مجال آخر.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 117

واضطربت كلماتهم في الردّ عليه، وإليك بعض الكلام في ذلك.

لقد روي الحافظ أبو نعيم هذا الحديث بطريقين، أحدهما: عن القاسم بن جندب، عن أنس، والآخر عن جابر الجعفي، عن أبي الطفيل، عن أنس …

فقال ابن الجوزي- بعد أنْ رواه بالطريق الأوّل-: «هذا حديث لا يصحّ. قال يحيي بن معين: علي بن عابس ليس بشي ء. وقد روي هذا الحديث جابر الجعفي، عن أبي الطفيل، عن أنس. قال زائدة: كان جابر كذّاباً، وقال أبو حنيفة: ما لقيت أكذب منه» «1».

فأمّا الطريق الأوّل، فقد طعن فيه من أجل: (علي بن عابس)، ولم يقل إلّا: قال يحيي بن

معين: «ليس بشي ء»؛ ممّا يدلّ علي أنّ لا إشكال في هذا الطريق إلا من ناحية «علي بن عابس».

وأمّا الطريق الثاني، فالكلام في: (جابر الجعفي).

أمّا الذهبي، فلم يذكر الحديث بترجمة (جابر) أصلًا.. وإنّما ذكره بالطريق الأوّل، لكن لا بترجمة (علي بن عابس)، بل بترجمة: (إبراهيم)، ثمّ اضطرب الأمر عليه؛ فعنون تارة: «إبراهيم بن محمد بن ميمون» وأُخري: «إبراهيم بن محمود بن ميمون»، فقال في الأوّل: «إبراهيم بن __________________________________________________

(1) كتاب الموضوعات 1/ 377.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 118

محمد بن ميمون: من أجلاد الشيعة. روي عن علي بن عابس خبراً عجيباً. روي عنه أبو شيبة بن أبي بكر وغيره» «1».

ثمّ قال في الصفحة اللاحقة: «إبراهيم بن محمود بن ميمون:

لا أعرفه. روي حديثاً موضوعاً فاسمعه: فروي محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن علي بن عابس، عن الحارث بن حصيرة، عن القاسم بن جندب، عن أنس: إنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله قال لي: أوّل مَنْ يدخل عليكَ من هذا الباب أمير المؤمنين، وسيّد المسلمين، وقائد الغرّ المحجّلين، وخاتم الوصيّين.. الحديث بطوله».

فهل هو: «إبراهيم بن محمّد بن ميمون»، أو: «إبراهيم بن محمود ابن ميمون»؟!

قال في الأوّل: «من أجلاد الشيعة»، وفي الثاني: «لا أعرفه»!!

وهل الحديث: «عجيب» أو: «موضوع»!!

وعندما نرجع إلي لسان الميزان، نجد أنّ ابن حجر يقول:

«إبراهيم بن محمّد بن ميمون: من أجلاد الشيعة. روي عن عليّ بن عابس خبراً عجيباً. روي عنه أبو شيبة بن أبي بكر وغيره. انتهي.

والحديث: قال هذا الرجل: حدّثنا علي بن عابس، عن الحارث بن __________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1/ 63.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 119

حصيرة، عن القاسم بن جندب، عن أنس: إنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله قال لي: … الحديث بطوله. رواه عنه أيضاً:

محمد بن عثمان بن أبي شيبة.

وذكره الأزدي في الضعفاء، وقال: إنّه منكر الحديث. وذكره ابن حبّان في الثقات، وقال إنّه: كندي.

وأعاده المؤلّف في ترجمة إبراهيم بن محمود، وهو هو، فقال:

لا أعرفه. روي حديثاً موضوعاً، فذكر الحديث المذكور.

ونقلتُ من خطّ شيخنا أبي الفضل الحافظ: إنّ هذا الرجل ليس بثقة. وقال إبراهيم بن أبي بكر بن أبي شيبة: سمعت عمّي عثمان بن أبي شيبة يقول: لولا رجلان من الشيعة ما صحّ لكم حديث. فقلت: مَنْ هما يا عمّ؟ قال: إبراهيم بن محمد بن ميمون، وعبّاد بن يعقوب، وذكره أبو جعفر الطوسي في رجال الشيعة» «1».

ووقع اختلاف واضطراب في اسم الراوي: هل هو «علي بن عابس»، كما ذكروا، أو: إنّه «علي بن عياش»، كما في حلية الأولياء، وقال مصحّحه: «الصحيح ما أثبتناه»، أو: «علي بن عبّاس»، أو: «علي بن عائش»، كما في روايتي ابن عساكر!!

__________________________________________________

(1) لسان الميزان 1/ 107.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 120

أقول:

إنّي أظنّ أنّ هذا التصحيف مقصود وليس بصدفة:

فإن كان: «ابن عياش»، فهو من رجال البخاري والسنن الأربعة «1».

وإن كان: «ابن عابس»، فهو من رجال الترمذي، وقد اختلفت كلماتهم فيه. فعن جماعة، كالجوزجاني والأزدي: ضعيف. وعن يحيي بن معين في رواية: كأنّه ضعيف. وفي أُخري: ليس بشي ء. وعن ابن حبّان: فحش خطأُه فاستحقّ الترك. وعن الدارقطني: يعتبر به. وعن أبي زرعة والساجي: عنده مناكير.

وعن ابن عدي: لعلي بن عابس أحاديث حِسان، ويروي عن أبان بن تغلب وعن غيره أحاديث غرائب، وهو مع ضعفه يكتب حديثه «2».

وقد أورد ابن عدي روايته الحديث عن عطية، عن أبي سعيد، قال:

لمّا نزلت: «وَآتِ ذَا الْقُرْبي حَقَّهُ» «3»

دعا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله فاطمة فأعطاها فدكاً «4».

__________________________________________________

(1) تقريب التهذيب 2/

42.

(2) الكامل 6/ 322، تهذيب الكمال 20/ 502، تهذيب التهذيب 7/ 301.

(3) سورة الإسراء: الآية 26.

(4) الكامل 6/ 324.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 121

فمن يروي مثل حديثنا- وهذا الحديث في فدك- فلابُدّ وأن يُترك عند الجوزجاني وأمثاله من النواصب!!

هذا تمام الكلام علي الطريق الأوّل.

وقد عرفت أنّ «إبراهيم بن محمّد بن ميمون» من الثقات عند ابن حبّان وغيره، ولم ينقل ابن حجر تضعيفاً له إلّاعن الأزدي، وهذا من عجائب ابن حجر؛ لأنّه تعقّب تضعيفات الأزدي غير مرّة قائلًا: «ليت الأزدي عرف ضعف نفسه» و «لا يعتبر تجريحه لضعفه هو» «1».

ولم يتكلّم فيه الذهبي إلّابقوله: «من أجلاد الشيعة»، وهذا ليس بطعنٍ؛ فقد قدّمنا غير مرّة عن الذهبي نفسه، وعن ابن حجر أنّ التشيّع غير مضرّ بالوثاقة.

وأمّا الطريق الثاني، فقد تكلّموا فيه ل (جابر بن يزيد الجعفي)، ويكفي أنْ نورد نصّ كلام الذهبي فيه في ميزان الإعتدال؛ إذ قال:

«جابر بن يزيد- د ت ق- بن الحارث الجعفي الكوفي، أحد علماء الشيعة، له عن أبي الطفيل، والشعبي، وخلق. وعنه: شعبة، وأبو عوانة، وعدّة.

قال ابن مهدي، عن سفيان: كان جابر الجعفي ورعاً في الحديث، ما

__________________________________________________

(1) مقدمة فتح الباري: 430.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 122

رأيت أورع منه في الحديث.

وقال شعبة: صدوق؛ وقال يحيي بن أبي بكير، عن شعبة: كان جابر إذا قال أخبرنا وحدّثنا وسمعت، فهو من أوثق الناس.

وقال وكيع: ما شككتم في شي ء فلا تشكّوا أنّ جابراً الجعفي ثقة.

وقال ابن عبدالحكم: سمعت الشافعي يقول: قال سفيان الثوري لشعبة، إنْ تكلّمت في جابر الجعفي لأتكلّمنّ فيك …» «1».

فإذا كان جابر من رجال ثلاثة من الصحاح، ثمّ من مشايخ أئمّةٍ، كالثوري وشعبة، وأبي عوانة، وأنّهم قالوا هذه الكلمات في توثيقه … فإنّه

يكفينا للإحتجاج قطعاً؛ إذْ ليس عندهم من المحدّثين من أجمعوا علي وثاقته إلّاالشاذ النادر، فهم لم يجمعوا حتي علي وثاقة البخاري صاحب الصحيح.

علي أنّ ما ذكروه جرحاً فيه فليس من أسباب الجرح والقدح؛ لأنّ كلمات الجارحين تتلخّص في أنّه: «كان من علماء الشيعة»، وأنّه كان:

«يحدّث بأخبار لا يُصبر عنها» في فضل أهل البيت، وأنّه: «كان يؤمن بالرجعة» … ولا شي ء من هذه الأُمور بقادح، لا سيّما بالنظر إلي ما تقدّم عن أئمّة القوم من التأكيد علي ورعه في الحديث، والنهي عن التشكيك __________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1/ 378- 384.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 123

في أنّه ثقة، حتّي أنّ مثل سفيان يقول لمثل شعبة:

«إنْ تكلّمت في جابر الجعفي لأتكلّمن فيك»!

وبما ذكرناه كفاية، لمن طلب الرشاد والهداية.

وبه تتبيّن مواضع الزور والدجل والتدليس في كلمات المفترين.

وآخر دعوانا أن الحمد للَّه رب العالمين.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 1، ص: 124

المحتويات … ص: 124

الكتاب القادم:

مقدّمة المجالس الفاخرة

في مآتم العترة الطاهرة

تأليف المجتهد الأكبر الحجّة

السيّد عبدالحسين شرف الدّين تقديم وتعليق آية اللَّه السيّد نور الدين الميلاني

المجالس الفاخرة المجلد 2

كلمة المركز … ص: 124

الحمد للَّه ربّ العالمين والصّلاة والسّلام علي محمّد وآله الطاهرين.

وبعد، فقد قرّر المركز تشكيل لجنةٍ تقوم- بإشراف وتوجيه من سيّدنا الفقيه المحقّق آية اللَّه السيد علي الميلاني- دام ظلّه- بنقد بعض البحوث المنتشرة من المعاصرين وتحقيق بعض الكتب التراثيّة الصغيرة في الحجم والكبيرة في الفائدة، في مختلف العلوم والمسائل الاسلاميّة، وإخراجها في سلسلة تحت عنوان (سلسلة النقد والتحقيق) خدمةً للعلم والدين، وإحقاقاً للحق المبين، وإحياءً لآثار العلماء المحقّقين، وتوفيراً للمصادر النافعة للباحثين، سائلين المولي الكريم المفضال أن يتقبّل منّا هذا العمل وسائر الأعمال.

مركز الحقائق الإسلامية

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 7

كلمة لجنة النقد والتحقيق … ص: 7

لا يخفي أن مسألة مأتم سيّدالشهداء أبي عبداللَّه الحسين عليه السّلام من المسائل الّتي اهتمّ بها العلماء من قديم الزّمان، والكتب المؤلَّفة في هذا الموضوع كثيرة جدّاً، ولعلّ من أحسنها ما جادت به يراعة المجتهد الأكبر آية اللَّه السيّد عبدالحسين شرف الدين العاملي رحمه اللَّه، في مقدّمة كتاب المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطّاهرة.

وقد قام المرحوم آية اللَّه السيّد نورالدين الميلاني رحمه اللَّه بطبع المقدّمة- بإذنٍ من السيّد المؤلّف- لتكون النشرة الأولي لمكتبة سيّدالشهداء الحسين عليه السّلام العامّة، الّتي أسّسها حينما كان بكربلاء المقدّسة، بمقدمةٍ وتعاليق مفيدة، في عام 1377 من الهجرة النبويّة.

وقد راجعنا الكتاب وحقّقناه وأضفنا إليه مصادر أخري من كتب سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 8

الفريقين، شاكرين العلّامة المحقق الشيخ نزار الحسن علي ما بذله من الجهد في تحقيق هذا الكتاب، وسائلين اللَّه تعالي التوفيق لرفد المكتبة الإسلاميّة بأمثاله من البحوث النافعة.

لجنة النقد والتحقيق بمركز الحقائق الاسلاميّة

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 9

مقدمةآية اللَّه السيّد نورالدين الميلاني رحمه اللَّه «1» … ص: 9

أحمدك اللهم ولا حمد لسواك، ولا ثناء إلّاعليك والأمر لك، وإيّاك أعبد وإيّاك أستعين، والصلاة علي مَن صلّيت عليه، واللعنة علي مَن حلّت عليه لعنتك.

كان من صنع الباري جلّ وعلا- المتقن- أنْ أوجد في البشر غرائز ثمينة، أفضلها الإيمان بالواقع، والخضوع له عندما حصله، وقد يبذل أجلّ ما بيده في سبيله، ويتفادي دونه متي أدركه.

فمن الغريب جدّاً، جهل الإنسان نوعاً من الحقائق، وإنكاره بعض __________________________________________________

(1) وهو والد آية اللَّه السيّد علي الميلاني. توفي سنة 1425 ودفن في قم بمقبرة شيخان.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 10

الواقعيات، أو خفاؤها عليه بعد ظهورها، ولذلك ورد في القرآن المجيد الأمر بالتدبر، والتعقل، والتفكر، والملامة علي عدم التدبر و …

ومن الغرائز المودعة في هذا الإنسان حبّه

الاستطلاع، والخبرة في التاريخ، ودرس موادّه والتعمق فيه، حتي لا يقتصر علي مفاهيمه فحسب، بل يسعي أن يدرك- بمعونة التحليل الفكري- المعارك والميادين، ليري مشاهد الأبطال، ويشهد حالة المظلومين، ومصير الظالمين وينظر إليهم كما لو كان حاضراً معهم، والسبب نفسه جعل الباحث يهمّه التفتيش عن مصارع الشهداء، والتطلّع علي ضحايا الإنسانية، وعلي ضوئه يعترف المنصف لهم ويواليهم مع الإكبار والتقديس لجهودهم، وقد «فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَي الْقاعِدينَ» «1»

ونحن إذ ننكر الكلية والإطراد في أغلب المواضيع، فلا محيص من الإقرار بها- حيث لا تقبل الاستثناء- في بعض الموارد.

فالقاعدة في إحترام الشهيد أو المظلوم مطردة عند العموم- متدينين أم غيرهم- والنصرة والترحم لهما، مبدأ يقول به إلّاالمعاند، والرأفة علي أهلهما وأيتامهما غير مستنكرة، إلّاعند المفرّط والعادل عن الحق.

__________________________________________________

(1) سورة النساء: الآية 95.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 11

وخلاصة القول: - إنّ أجمل ما يختاره الإنسان من أنواع احترام الشهيد والمظلوم، معاضدته ومناصرته، ولا أقل من الحزن والأسف عليهما، والإنكسار لهما، وأجلّ صفة يحملها الحنان علي ذويهما من قرابته ورحمه، وبالعواطف والأحاسيس يكرم الإنسان، وإلّا فهو «كَاْلأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبيلًا» «1».

فمن هنا تعقد المآتم علي الفقيد، وكلّما عزّ وخطر اتسعت واكتسبت أهميةً، وكلّما جلَّ المصاب وعظم، تمتد أيامه وتطول مدته.

أجل: جعل اللَّه هذه السُّنة المتبعة في خلقه، «وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْديلًا» «2»

، بل أنّ هذه الغريزة والخلق مما فطر اللَّه الناس عليها.

فعلي هذا الأساس، كانت الامم- في جميع الأعصار والأمصار علي اختلاف مبادئها وتنافر بعضها أحياناً- لم تزل مندفعةً عند مظلومية العترة الطاهرة صلوات اللَّه عليهم، إندفاعاً لا يمنعه التشكيك، وعنوا لمآتمهم- عليهم السلام جيلًا بعد جيل، عنايةً لا تعاكسها قوة في القرون الأولي والوسطي

إلّازادتهم نفوراً من تلك القوة، وثباتاً علي تلك المراسم، فيخدمونها من صميم القلب بشق الرؤوس وجرح الصدور، بل كادت أفئدتهم تنفطر علي مصابهم، لاسيما تجاه شهداء الطف __________________________________________________

(1) سورة الفرقان: الآية 44.

(2) سورة الأحزاب: الآية 62.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 12

ومجزرة كربلاء (عاشر محرم سنة 61 الهجرية) وعقباتها في الكوفة والشام، ولاصلة دينية أو علقة إنتماء، أو رابطة اخري تجمع بين القائمين بمظاهر الأسي والدين والعقيدة.

إذاً، لا مجال للاستغراب مهما بلغنا مما يقوم به غير الشيعة- المسلمون ومنتحلوا الديانات الأخري أو الهندوك والسيك، من التوجّع والتفجّع علي الحسين سبط رسول اللَّه صلي اللَّه عليه وآله وريحانته، والنفر الذين كرّموا بموقفهم الشهادة، وفازت بهم لمّا بذلوا مهجهم دون الحسين أرواحنا فداه.

وقد شاهدت قسماً من ذلك في رحلاتي من أرامنة تبريز- ايران- وسائر المذاهب والملل في الهند وباكستان، وسوريا ولبنان، والجموع المحتشدة والآلاف المزدحمة في يوم عاشوراء وغيره من الأيام باسم- يوم- الحسين وأسبوعه الفخم، وهم من كلّ أمّةٍ فوجاً، ووجدت الخطباء منهم والشعراء يتسابقون باحتفالهم بهذه الذكريات.

وحيث إني مختصر كلمتي هذه- من حرفها الأوّل- أحيل التفصيل إلي مجال آخر، ولعلّي أوفق- بعون اللَّه تعالي لنشر شي ء من التضحيات بدنيةً، اقتصاديةً، زمنيةً والحركات الأدبية هناك.

وكلّ يعلم أنّ ما كتب ونشر باللغات- شرقيةً وغربية- عن أسرار شهادة الحسين وأسبابها ومآتمه عليه السّلام لكثير، والذي يدلُّ علي سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 13

مكانته في الأفئدة، وعظمته في النفوس، وهوايتها له، وأنّه الرجل العالمي الوحيد، وأنّه- عليه السّلام- يُجدّد دينَ جدّه- صلي اللَّه عليه وآله- كلّ يوم بل كلّ آن، وأنّه القائد الأعلي وحده للإنسانية وطلّابها إلي الأبد.

هذا، والذي بأيدينا هو سفر علمي جليل، وبحث فني جميل،

قدّمه الزعيم سيد الطائفة ومرجعها الكبير، حامي المذهب الإمامي، وحصن الدين الإسلامي، السيد عبد الحسين شرف الدين قدس اللَّه تربته لكتابه (المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة) عنينا بطبعه كنشرةٍ أُولي لمكتبة سيد الشهداء الحسين عليه السّلام العامّة- كربلاء المقدسة، تشريفاً لها، وتسديداً للحاجة المبرمة- من الباحثين والمختبرين والمفكرين- لمثله. وإليك عنه وعن مؤلفه العظيم، والكتاب والمكتبة مايلي موجزاً:

أما المقدمة:

يغنينا عن بيان أهميتها، اهتمام الأوساط العلمية والأدبية والفقهية لها، ويلمسُ القاري ء ذلك من فصولها، وقد أُخرجت للطبع سنة 1332 (أي قبل 46 عاماً) ردعاً لإنسان-؟!- بلغ به جهله بفلسفة شهادة الحسين وأسرار مآتمه عليه السّلام وبعده عما أثبته سلفه المحدّثون والمؤرخون، حدّ الاستنكار، ونسب الشيعة إلي البدعة لبكائهم ولطمهم سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 14

علي ريحانة نبيهم- صلي اللَّه عليه وآله- ولم يدرِ أنّ الأمر بعكس مرتآه، وأنّ الشيعة لم تنفرد بهذه المراسم، بل أنّها من الأمور الثابتة من الدين، ومعترف بها عند المسلمين.

ولقد أجاد سيدنا- شرف الدين- حيث استدلّ علي مشروعيّة المآتم من كتب الفريقين، لعلّ المعترض يهتدي ويندم علي ما فرّط.

نعم، مُنيت البلاد والأمة الأسلامية بعدد من الدجّالين والمأجورين من تاريخٍ بعيد، فهدموا قواعدها، وفرّقوا كلمتها، وشتتوا جمعها، فخدموا الأجانب- الطامعين- والمستفزين حتي أحرجوا موقف سيدنا شرف الدين وزملائه قدس اللَّه أسرارهم، فجعلوا يكابدون الآلام، ويتجرّعون الغصص، إلي أن يتمكنوا من سدّ ثغرٍ أو القضاء علي نعرةٍ من النعرات المختلفة ذات الألوان! والمنحدرة من الغرب المظلم.

هكذا أعلام الدين وهكذا شأن العلماء، فإنّهم- كما ورد في الحديث- ورثة الأنبياء، وعلماء أمّتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل- دعاة كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة، يعملون في إزالة التخاصم والشقاق، ولم يألوا جهداً في سبيل تحرير العقيدة من

شتي الوساوس، وحريصون علي تخليصها والأمة الاسلامية من دسائس المدنية والحضارة المزيفة، والمتشكلة بشكل الدين، والمذهب، والحزب، والجمعيّة، وفق الميول سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 15

والأهواء والمناطق والأشخاص.

نبتهل إلي اللَّه تعالي قطع دابر الظالمين، ودفعهم بهمّة الرجال المخلصين، وقلعهم بأيدي الأبطال من أصحاب الشعور الحيّ المجردين من التقاليد العمياء والخاضعين للحق أينما وجدوه، وإليه المشتكي ولا حول ولا قوة إلّاباللَّه.

أما المؤلف:

فهو أشهر من أن يذكر، وأظهر من أي تعريف، وأكبر من أي معرِّف، وقد ملأ النفوس غبطةً وعظمة بمؤلفاته وآثاره وحركاته.

كان- رضوان اللَّه عليه- من أقطاب الأمة علماً وعملًا، تعوّل عليه في شدائدها، وتركن إليه في أمورها، وكان- قدس اللَّه تربته- مفيد وقته، ومرتضي عصره، والواقع إنّه المفيد والمرتضي طيلة أيامه المأسوف عليها.

عاش عزيز البلاد، عظيماً عند الخلق والخالق؛ لأدائه مطلوبهما والقيام بواجبهما، والجهاد في سبيلهما، ونضاله معانديهما، ومواقفه الجبارة ضد الكفرة والفسقة وأذنابهما غير مبال منهم، مهما بلغ به الأمر وكلّفه، حتي آخر ساعة من عمره الشريف …

والتفاصيل في مقدمة الطبعة الثانية والثالثة من كتابه: المراجعات.

بقلم أحد مشيخة الإسلام «1».

__________________________________________________

(1) سماحة آية اللَّه الشيخ مرتضي آل يس دام ظله الشريف- النجف الأشرف-.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 16

أمّا الكتاب:

فكان يقع في أربع مجلدات ضخمةٍ، تتضمن سيرة النبي وعترته- إلي قائمهم المهدي عجّل اللَّه فرجه- وحياتهم صلي اللَّه عليه وعليهم وبعض خطبهم، والذي جاء في المواعظ والأخلاق، وكان- كما عبّرلنا عنه السيد قدس سرّه- كتاباً اجتماعياً، سياسياً، عمرانياً، ومن أحسن ما كُتِبَ في الإمامة والسياسة.

وقد أعدّه- شرف الدين- للطبع بعد صدور (المقدمة)، ولكن شعلة الحرب العالمية الأولي (1914 م) وعلي أثرها الحركة الإسلامية ضد الاستعمار «1»، حالتا عن طبعه، بالرغم من حرصه الشديد لذلك، حتي أصبح

هو ومؤلّفاته الأُخري ما يقرب من ثلاثين مجلّداً مخطوطاً بقلمه الشريف- طعمة حريق سلطة الاحتلال الفرنسي، حيث سلّطت النار علي دار- شرف الدين- في (شحور) و بعده احتلّت داره الكبري في (صور)، وأُبيحت للأيدي الأثيمة سلباً ونهباً.

وكان أوجع ما في هذه النكبة- المشتملة علي أنواع التعذيب والصدمات علي السيّد وأهله وصحبه- تحريق مكتبته المحتوية علي أنفس الكتب وذخائرها من كلّ نوع ولا سيما الخطية، وما كانت من __________________________________________________

(1) الثورة العاملية علي الفرنسيين سنة 1920 م.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 17

ثمرات عمره الشريف وآثاره الثمينة «1».

أمّا النشر:

لهذا الكتاب، فإنا لمّا أسسنا المكتبة كتبنا إلي سماحة- شرف الدين- بعد عرض القصد من تأسيسها علي حضرته مايلي: -

فمن المناسب أن تكون نشرتها الأولي ما يتعلق بحياة من شرّفت المكتبة باسمه- الحسين عليه السّلام- لا سيما إذا كانت بقلم عبده (سيد الطائفة وزعيمها المفدّي حضرتكم) وأجابنا علي ذلك، ولكن المنيّة حالت دون المطلوب من سماحته. فاخترنا هذا السفر بل الكنز المرصود، وأعدنا طبعه معتزّين به والتوفيق الشامل بعناية اللَّه راجين ذلك لعدد كبير من الآثار نقبل تحديده، وليس علي اللَّه بمستنكر، وهو الموفق والمستعان.

__________________________________________________

(1) «لصوص شمعون تهاجم مدينة صور. تتنمّر في ظل الاحتلال الأميركي فتحرق الكلية الجعفرية. وتدمّر دار مؤسسها المرحوم الإمام شرف الدين».

تجد هذه النصوص والتفصيل في ص 3- 14/ 8/ 1958 من- يقظتنا- اليومية البغداية.

ثم فكر في القول المأثور: (الكفر ملة واحدة)، وتمسك بالقرآن وأهله واترك هواية غيرهم ولا تنخدع بغواية التمدن والحضارة (؟!) المزعومة والمحشوة من ألوان السموم بأيدي الاستعمار والاستعباد.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 18

أمّا المكتبة:

فإنها أُسست لغرض خدمة المجتمع ورفع مستوي كربلاء الثقافي، وتسديد عوز الواردين- من أقطار الدنيا- لهذه المدينة المقدسة، فهي

علي مكانتها العالمية المرموقة، كانت فاقدة لنظيرها والتي جمعت ما يقرب من ثلاثة آلاف مؤلفاً- في زمن قصير- علي بضع لغات- شرقيةً وغربيةً- في شتي العلوم والفنون، القديمة والحديثة.

وقد نشرنا- بدأ التأسيس- عنها في الصحف داخل العراق وخارجه، وأرسلنا- بالبريد- بلاغاً إلي حضرات مَن عرفنا عنوانهم في أقاليم مختلفةٍ ندعوهم للمساهمة والمعونة في تنمية هذه الخيرية الحسينية …

فجزي اللَّه الذوات الكرام، وأصحاب الغيرة والإيمان، وحملة النفوس الطيّبة المساهمين في هذا المشروع الحيوي المقدس- الذي هو من نوع الباقيات الصالحات- والمتبرعين، والمناصرين، وزملائي المحترمين- أعضاء الهيئة المؤسسة والتولية والمال والإدارة- خير جزاء المحسنين، وجعلهم «مَثَلُ الَّذينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في سَبيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ في كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَليمٌ» «1»

و أثابهم بكرمه في الدنيا والآخرة.

__________________________________________________

(1) سورة البقرة: الآية 261.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 19

وسوف ننشر- لأول فرصةٍ ماليةٍ- أسماءهم الكريمة ونطلعهم علي التفاصيل والمعلومات الكافية، في البيان الصادر عن المكتبة منذ كانت فكرةً محضةً، ثم الخطوة الاولي وتقدّمها حتي رقيّها المنتظر بهممهم الجبارة، كما أننا لاننساهم في صالح دعواتنا بعد كلّ صلاة وتحت قبة سيد الشهداء الحسين- عليه السّلام- أرواحنا له الفداء وسائر الأحوال، والسلام عليهم وعلي مَن بلغه هذا ورحمة اللَّه وبركاته من:

نجل سماحة المجتهد الكبير آية اللَّه الحاج السيد محمّد هادي الميلاني «دام ظله الشريف».

نور الدين الحسيني الميلاني كربلاء في 11 صفر سنة 1378

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 23

مقدّمة: المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة … ص: 23

اشارة

وفيها خمسة مطالب

كلمة المؤلّف … ص: 23

الحمد للَّه علي جميل بلائه، وجليل عزائه، والصلاة والسلام علي أُسوة أنبيائه، وعلي الأئمة المظلومين من أوصيائه، ورحمة اللَّه وبركاته.

أما بعد، فهذا كتاب (المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة) «1»

وضعته تقرّباً إليهم في الدنيا، وتوسلًا بهم في الآخرة، سائلًا من اللَّه سبحانه أن يكون خالصاً لوجهه الكريم، إنّه الرؤوف الرحيم.

الأصل العملي «2» يقتضي إباحة البكآء علي مطلق الموتي ورثائهم __________________________________________________

(1) راجع المقدمة بقلم السيد نور الدين الميلاني.

(2) يقصد أن الحكم الشرعي في مرحلة العمل، هكذا يقتضي … وذلك استناداً إلي قولهم أنّ الأصل في الأشياء الاباحة، وقد ذهب إليه علماؤنا- أهل الحق والتحقيق- رضوان اللَّه عليهم، واستدلوا عليه عقلًا بقبح العقاب والملامة فيما لم يمنعه الدين، ولم يرد فيه من الشرع نهي عنه أو تحريم. ونقلًا بقوله تعالي «وَما كُنَّا مُعَذِّبينَ حَتَّي نَبْعَثَ رَسُولًا» سورة الإسراء: الآية 15 وغيرها من الآيات … (الميلاني).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 24

بالقريض، وتلاوة مناقبهم ومصائبهم، والجلوس حزناً عليهم والإنفاق عنهم في وجوه البر، ولا دليل علي خلاف هذا الأصل، بل السيرة القطعية «1» والأدلّة اللّفظية حاكمان بمقتضاه، بل يستفاد من بعضها استحباب هذه الأمور، إذا كان الميت من أهل المزايا الفاضلة، والآثار النافعة، وفقاً لقواعد المدنية وعملًا بأصول العمران؛ لأنّ تمييز المصلحين يكون سبباً في تنشيط أمثالهم، وأداء حقوقهم يكون داعياً إلي كثرة الناسجين علي منوالهم.

__________________________________________________

(1)

السيرة: معناها الأمر المتداول عند عموم المسلمين، وهي بذاتها قد تفي عندالاستدلال لجواز الاقدام علي أمر مجهول الحكم وربما يدرك بها الواقع أيضاً ولكن لا تتم إلّابقيود أهمها:

الأول- أن يكون العاملون به (الأمر الذي نريده ولم نعلم حكمه) متدينين وقد أتوا به باسم الدين لا كسائر العادات محلية أو عائلية.

الثاني- أن

لا يكون المطلوب أمراً مستحدثاً بل كان عليه الماضون خلفاً عن السلف الصالح، وينتهي إلي زمان المعصومين- صلي اللَّه عليهم أجمعين-.

الثالث- لا وزن للسيرة إذا لم يحصل لنا القطع بإذن الشارع أو عدم ردعه عنها (الميلاني).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 25

وتلاوة أخبارهم ترشد العاملين إلي اقتفاء آثارهم «1» وهنا مطالب.

__________________________________________________

(1) ما أفصح كلامك وأبلغه- يا شرف الدين- فقد أتيت بالواقع الملموس وقلتَ حقاً ونطقتَ صدقاً، فإنّ الأمم سائرون علي هذا النهج ووجدناهم في رحلاتنا إلي الهند وباكستان، وسوريا ولبنان يحتفلون باسم رجالاتهم، معتزّين بسلفهم، ويعتنون بذكريات أبرارهم من حركةٍ أو عمل ويسعون في نشر ذلك والحث علي تبعية أولئك غير مبالين (مهما كلّفهم) بصرف الأموال الضخمة روماً للغاية التي نوّه عنها قدس اللَّه تربته. (الميلاني).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 29

المطلب الأول في البكاء … ص: 29

في البكاء … ص: 29

ولنا علي ما اخترناه فيه- مضافاً إلي السيرة القطعيّة- فعل النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم وقوله وتقريره.

أمّا الأوّل، فإنّه متواتر عنه في موارد عديدة:

منها: يوم أُحد، إذ علم الناس كافة بكائه يومئذٍ علي عمّه أسد اللَّه وأسد رسوله، حتي قال ابن عبدالبر في ترجمة حمزة من استيعابه: «1» لما رأي النبي (صلّي اللَّه عليه وآله) حمزة قتيلًا بكي، فلما رأي ما مثّل به شهق.

وذكر الواقدي- كما في أوائل الجزء الخامس عشر من شرح نهج البلاغة «2» للعلامة المعتزلي- إن النبي (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) كان __________________________________________________

(1) في أواخر الصفحة 378 من المجلد الثالث، طبع مصر. (المؤلف).

(2) قد اشتمل هذا الحديث علي فعل النبي صلّي اللَّه عليه وآله وتقريره، فهو حجة من جهتين، علي أنّ بكاء سيدة النساء- عليها السلام- كاف كما لا يخفي (المؤلّف).

يقصد أنّ فعل فاطمة عليها السلام يكفي للاستدلال، وهو حجة

في مثل هذا المقام، إذ أنّها معصومة عندنا، وقد أثبت علماؤنا- قدس اللَّه سرهم- ذلك من الأحاديث الصحيحة والمتواترة، ويؤيده صريح آيتي المباهلة والتطهير.

ولا يخفي علي الباحث ما في كتب التفسير، الحديث، التاريخ، السير، التراجم في هذا الشأن، مما يدل علي عظمة البتول فاطمة بضعة رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليهما) ولن يفوته ما في الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء المطبوع مع الفصول المهمة في تأليف الامة، وكلاهما لسيدنا شرف الدين. (الميلاني).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 30

يومئذٍ إذا بكت صفيّة يبكي وإذا نشجت ينشج قال: «وجعلت فاطمة تبكي، فلمّا بكت بكي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله» «1».

ومنها: يوم نعي زيداً، وذا الجناحين، وابن رواحة، فيما أخرجه البخاري في الصفحة الثالثة من أبواب الجنائز من صحيحه «2».

وذكر ابن عبدالبرّ في ترجمة زيد من إستيعابه: «إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بكي علي جعفر وزيد» وقال: «أخواي ومؤنساي ومحدّثاي» «3».

ومنها: يوم مات ولده إبراهيم، إذ بكي عليه، فقال له عبدالرحمن بن عوف (كما في الصفحة 148، من الجزء الأوّل من __________________________________________________

(1) شرح نهج البلاغة؛ للمعتزلي 15/ 17، دار إحياء الكتب العربية.

(2) صحيح البخاري 4/ 218، ط بيروت، دار الفكر، سنة 1401.

(3) الإستيعاب في معرفة الأصحاب 2/ 546.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 31

صحيح البخاري): «وأنت يا رسول اللَّه؟!».

قال: يابن عوف إنّها رحمة «1» ثم أتبعها (يعني عبرته) باخري.

فقال:

«إنّ العينَ تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول «2» إلّاما يُرضي ربّنا، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» «3».

ومنها: يوم ماتت احدي بناته (صلّي اللَّه عليه وآله) إذ جلس علي قبرها (كما في صفحة 146 من الجزء الأول من صحيح البخاري) وعيناه تدمعان.

ومنها: يوم مات صبي لاحدي بناته إذ فاضت عيناه يومئذ

(كما في الصحيحين «4» وغيرهما) فقال له سعد: «ما هذا يا رسول اللَّه؟» قال:

«هذه رحمة جعلها اللَّه في قلوب عباده، وإنّما يرحم اللَّه من عباده __________________________________________________

(1) لا يخفي ما في تسميتها رحمة من الدلالة علي حسن البكاء في مثل المقام.

(2) أراد بهذا أنّ الملامة والإثم في المقام إنّما يكونان بالقول الذي يسخط الربّ (عزّوعلا)، كالاعتراض عليه والسخط لقضائه لا بمجرّد دمع العين وحزن القلب. (المؤلّف).

(3) صحيح البخاري 2/ 85، ط دار الفكر، بيروت.

(4) أنظر: الصفحة 146 من الجزء الأول من صحيح البخاري وباب البكاء علي الميت من صحيح مسلم. وفي الطبعات الحديثة، البخاري 8/ 165 و 7/ 224 و 2/ 80 دار الفكر، وصحيح مسلم 3/ 39، دار الفكر بيروت.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 32

الرحماء» «1».

ومنها: ما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين، عن ابن عمر قال: «اشتكي سعد فعاده رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) مع جماعة من أصحابه فوجده في غشية فبكي (قال): «فلمّا رأي القوم بكاءه بكوا. الحديث» «2».

والأخبار في ذلك لا تُحصي ولا تستقصي.

وأمّا قوله وتقريره، فمستفيضان ومواردهما كثيرة:

فمنها: ما ذكره ابن عبدالبر في ترجمة جعفر من استيعابه قال: «لمّا جاء النبي (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) نعي جعفر «3»، أتي امرأته أسماء بنت عميس فعزّاها قال: ودخلت فاطمة وهي تبكي وتقول: «واعمّاه»، فقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله:

__________________________________________________

(1) دلالة قوله: (وإنما يرحم اللَّه من عباده الرحماء) علي استحباب البكاء في غاية الوضوح كما لا يخفي. (المؤلّف).

(2) أنظر: في باب البكاء عند المريض من صحيح البخاري 2/ 85، وفي باب البكاء علي الميت من صحيح مسلم، 3/ 40. ولا يخفي اشتماله علي كلٍّ من فعل النبي (صلّي اللَّه عليه وآله

وسلّم) وتقريره فهو حجة من جهتين.

(3) هذا الحديث مشتمل علي تقريره (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) علي البكاء، وأمره به علي أنّ مجرد صدوره من سيدة النساء (عليها السلام) حجة كما لا يخفي. (المؤلف).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 33

«علي مثل جعفر فلتبك «1» البواكي «2»».

ومنها: ما ذكره ابن جرير، وابن الأثير، وصاحب العقد الفريد وجميع أهل السير، وأخرجه الإمام أحمد بن حنبل من حديث ابن عمر في صفحة 40 من الجزء الثاني من مسنده قال: «رجع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله من أُحُد، فجعلت نساء الأنصار يبكين علي مَن قُتل من أزواجهنّ، فقال رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم):

«ولكن حمزة لا بواكي له».

(قال): ثم نام فاستنبه وهنّ يبكين».

(قال): «فهنّ اليوم إذا بكين يندبن بحمزة» «3».

وفي ترجمة حمزة من الاستيعاب «4» نقلًا عن الواقدي قال: «لم تبكِ امرأة من الأنصار علي ميّت بعد قول رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله) «لكن حمزة لا بواكي له» إلي اليوم إلّابدأن بالبكاء علي حمزة».

__________________________________________________

(1) هذا أمر منه (صلّي اللَّه عليه وآله) بالبكاء ندباً علي أمثال جعفر من رجال الأمّة وحسبك به حجة علي الإستحباب. (المؤلف).

(2) الإستيعاب في معرفة الأصحاب 1/ 243.

(3) مسند أحمد 2/ 40، ط بيروت، دار صادر، والمعجم الكبير للطبراني 11/ 210، وكنز العمّال 13/ 335، ح 36945، أُسد الغابة 2/ 48، وتاريخ الطبري 2/ 210، دار الفكر.

(4) للفقيه الحافظ المحدث- ابن عبدالبر القرطبي المتوفي سنة 463. (الميلاني)

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 34

وحسبك تلك السيرة في رجحان البكاء علي من هو كحمزة وإنْ بعد العهد بموته.

ولا تنس ما في قوله صلّي اللَّه عليه وآله: «لكن حمزة لا بواكي له» من البعث علي البكاء والملامة لهنّ علي

تركه، وحسبك به وبقوله «علي مثل جعفر فلتبك البواكي» دليلًا علي الإستحباب.

وأخرج الإمام أحمد من حديث ابن عباس في صفحة 335 من الجزء الأوّل من مسنده من جملة حديث ذكر فيه موت رقية بنت رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) وبكاء النساء عليها قال: «فجعل عمر يضربهن بسوطه» فقال النبي صلّي اللَّه عليه وآله: «دعهن يبكين».

ثم قال:

«مهما يكن من القلب والعين فمن اللَّه والرحمة». وقعد علي شفير القبر وفاطمة إلي جنبه تبكي».

قال: «فجعل النبي (صلّي اللَّه عليه وآله) يمسح عين فاطمة بثوبه رحمة لها «1».

وأخرج أحمد أيضاً من حديث أبي هريرة حديثاً جاء فيه أنّه: مرّ علي رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله) جنازة معها بواكي فنهرهنّ عمر.

__________________________________________________

(1) مسند أحمد بن حنبل 1/ 335، ط دار صادر.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 35

فقال له رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله:

«دعهنّ، فإنّ النفس مصابة والعين دامعة» «1».

إلي غير ذلك مما لا يسعنا استيفاؤه.

وقد بكي يعقوب إذ غيّب اللَّه ولده «وَقالَ يا أَسَفي عَلي يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظيمٌ» «2»

حتي قيل: - كما في تفسير هذه الآية من الكشاف «3» - ما جفّت عيناه من وقت فراق يوسف إلي حين لقائه ثمانين عاماً، وما علي وجه الأرض أكرم علي اللَّه منه.

وعن رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) كما في تفسير هذه الآية من الكشاف أيضاً: أنّه سُئل جبرئيل (عليه السّلام) ما بلغ وجدُ يعقوب علي يوسف قال:

«وجد سبعين ثكلي قال: فما كان له من الأجر؟ قال: أجر مأة شهيد «4»، وماساء ظنه باللَّه قط» «5».

قلت: أي عاقل يرغب عن مذهبنا في البكاء بعد ثبوته عن الأنبياء

__________________________________________________

(1) مسند أحمد 2/ 333.

(2) سورة يوسف: الآية 84.

(3)

الكشّاف 2/ 339.

(4) هذا كالصريح في استحباب البكاء إذ ليس المستحب إلّاما يترتب الثواب علي فعله كما هو واضح. (المؤلف).

(5) الكشّاف 2/ 339.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 36

«وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهيمَ إِلّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ» «1».

وأمّا ما جاء في الصحيحين من أنّ (الميت يعذب لبكاء أهله عليه)، وفي رواية: (ببعض بكاء أهله عليه)، وفي رواية: (ببكاء الحي)، وفي رواية: (يعذّب في قبره بما نيح عليه)، وفي رواية: (من يبك عليه يعذب) «2».

فإنّه خطأ من الراوي، بحكم العقل والنقل.

قال الفاضل النووي: هذه الروايات كلّها من رواية عمر بن الخطاب وابنه عبداللَّه. قال: وأنكرت عائشة عليهما ونسبتهما إلي النسيان والاشتباه واحتجّت بقوله تعالي «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْري الخ … «3».

قلت: وأنكر هذه الروايات أيضاً عبداللَّه بن عبّاس، واحتجّ علي خطأ راويها، والتفصيل في الصحيحين وشروحهما، وما زالت عائشة

__________________________________________________

(1) سورة البقرة: الآية 130.

(2) صحيح البخاري 2/ 83، 5/ 9، صحيح مسلم 3/ 41 وسنن ابن ماجة 1/ 508.

(3) عند ذكر هذه الروايات في باب الميت يُعذّب ببكاء أهله عليه من شرح صحيح مسلم، 6/ 228، ط دار الكتاب العربي، سنة 1407، وأنظر: مقدمة (العقد الثمين) للشوكاني المتوفي 1250.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 37

وعمر في هذه المسألة علي طرفي نقيض، حتّي أخرج الطبري «1» في حوادث سنة 13 من تاريخه بالإسناد إلي سعيد بن المسيب قال: «لما توفي أبو بكر أقامت عليه عائشة النوح، فأقبل عمر بن الخطاب حتي قام ببابها، فنهاهن عن البكاء علي أبي بكر، فأبين أن ينتهين، فقال عمر لهشام بن الوليد: ادخل فأخرج إليّ ابنة أبي قحافة. فقالت عائشة لهشام حين سمعت ذلك من عمر: «إني أحرج عليك بيتي»، فقال عمر لهشام:

«أدخل

فقد أذنتُ لك»، فدخل هشام وأخرج أم فروة أخت أبي بكر إلي عمر، فعلاها بالدرة، فضربها ضربات، فتفرق النوّح حين سمعوا ذلك».

قلت: كأنّه لم يعلم تقرير النبي نسآء الأنصار علي البكاء علي موتاهن، ولم يبلغه قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: (لكن حمزة لا بواكي له)، وقوله: (علي مثل جعفر فلتبكِ البواكي) وقوله: (وإنما يرحم اللَّه من عباده الرحمآء).

ولعلّه نسي نهي النبي صلّي اللَّه عليه وآله إيّاه عن ضرب البواكي يوم ماتت رقيّة بنت رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم)، ونسي نهيه إيّاه عن انتهارهن في مقام آخر مرّ عليك آنفاً.

ثم إذا كان البكاء علي الميت حراماً، فلماذا أباح لنساء بني مخزوم __________________________________________________

(1) تاريخ الطبري: ذكر وفاة أبي بكر، 2/ 614، ط بيروت الأعلمي.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 38

أن يبكين علي خالد بن الوليد؟ «1» حتي ذكر محمّد بن سلام- كما في ترجمة خالد من الاستيعاب «2» -: «إنّه لم تبقَ امرأة من بني المغيرة إلّا وضعت لمّتها- أي حلقت رأسها- علي قبر خالد» وهذا حرام بلا إرتياب واللَّه أعلم.

__________________________________________________

(1)

وبكي هو علي النعمان بن مقرن واضعاً يده علي رأسه، كما نص عليه ابن عبدالبر في ترجمة النعمان من إستيعابه 4/ 1506 وفي أوائل الجزء الثاني من العقد الفريد قال: ولما نُعي النعمان بن مقرن إلي عمر بن الخطاب وضع يده علي رأسه وصاح يا أسفاه علي النعمان.. و بكاؤه علي أخيه زيد معلوم بالتواتر.

(2) الإستيعاب في معرفة الأصحاب 2/ 431.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 41

المطلب الثاني: في رثاء الميّت بالقريض … ص: 41

في رثاء الميّت … ص: 41

ويظهر من القسطلاني في شرح البخاري «1»: إنّ الجماعة يفصّلون القول فيه، فيحرّمون ما اشتمل منه علي مدح الميّت وذكر محاسنه الباعث علي تحريك الحزن وتهييج اللّوعة، ويبيحون ما عدا

ذلك.

والحق إباحته مطلقاً، إذ لا دليل هنا يعدل بنا عن مقتضي الأصل، والنواهي التي يزعمونها إنّما يستفاد منها الكراهة في موارد مخصوصة، علي أنّها غير صحيحة بلا ارتياب.

وقد رثي آدم (عليه السّلام) ولده هابيل «2»، واستمرّت علي ذلك ذريّته إلي يومنا هذا بلا نكير.

__________________________________________________

(1)

أنظر: باب رثاء النبي (صلّي اللَّه عليه وآله) سعد بن خولي ص 298 ج 3 من إرشادالساري للقسطلاني. (المؤلف).

(2) فيما روي وقد ضعف.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 42

وأقرّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أصحابه عليه مع إكثارهم من تهييج الحزن به، وتفننهم بمدائح الموتي فيه، وتلك مراثيهم منتشرة في كتب الأخبار، فراجع من الإستيعاب- إن أردت بعضها- أحوال سيدالشهداء حمزة، وعثمان بن مظعون، وسعد بن معاذ، وشماس بن عثمان بن الشريد، والوليد بن الوليد بن المغيرة، وأبي خراش الهذلي، وأياس بن البكير الليثي، وعاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وغيرهم.

ولاحظ من الإصابة أحوال ذي الجناحين جعفر بن أبي طالب، وأبي زيد الطائي، وأبي منان بن حريث المخزومي، والأشهب بن رميلة الدارمي، وزينب بنت العوام، وعبداللَّه بن عبد المدان الحارثي، وجماعة آخرين لا تحضرني أسماؤهم.

ودونك كتاب الدرّة في التعازي والمراثي، وهو في أول الجزء الثاني من العقد الفريد، تجد فيه من مراثي الصحابة ومن بعدهم شيئاً كثيراً.

وليس شي ء مما أشرنا إليه إلّاوقد اشتمل علي ما يهيّج الحزن، ويجدد اللّوعة بمدح الميت وذكر محاسنه.

ولمّا توفي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم تنافست فضلاء الصحابة في رثائه، فرثته سيدة نسآء العالمين (عليها السلام) بأبيات سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 43

تُهيّج الأحزان، ذكر القسطلاني «1» في إرشاد الساري بيتين منها وهما قولها عليها السلام:

ماذا علي مَن شمَّ تربة أحمد أن لا يشمَّ

مدي الزمان غواليا

صُبَّت عليَّ مصائب لو أنها صُبَّت علي الأيام صرن لياليا

ورثته أيضاً بأبيات تثير لواعج الأشجان، ذكر ابن عبدربه المالكي بيتين منها في أوائل الجزء الثاني من العقد الفريد وهما:

إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها وغاب مذ غبتَ عنّا الوحيُّ والكتبُ فليت قبلك كان الموت صادفنا لما نعيت وحالت دونك الكثب ورثته عمّته صفيّة بقصيدة يائية، ذكر ابن عبدالبر في أحوال النبي (صلّي اللَّه عليه وآله) من استيعابه «2» جملة منها.

ورثاه أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب بقصيدة لاميّة، ذكر بعضها صاحبا الاستيعاب والإصابة «3» في ترجمة أبي سفيان المذكور.

ورثاه أبو ذويب الهذلي- كما يعلم من ترجمته في الإستيعاب __________________________________________________

(1) إرشاد الساري 3/ 318، باب رثاء النبي (صلي اللَّه عليه وآله) سعد بن خولي.

(2) الإستيعاب 1/ 49.

(3) المصدر 4/ 1675، الإصابة 7/ 366، رقم 10689.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 44

والإصابة «1» - بقصيدة حائية.

ورثاه أبو الهيثم بن التيهان بقصيدةٍ دالية، أشار إليها ابن حجر في ترجمة أبي الهيثم من إصابته «2».

ورثته أم رعلة القشيرية بقصيدة رائية، أشار إليها العسقلاني في ترجمة أم رعلة من إصابته «3».

ورثاه عامر بن الطفيل بن الحرث الأزدي بقصيدةٍ جيمية، أشار إليها ابن حجر في ترجمة عامر من الإصابة «4».

ومَن استوعب الإستيعاب، وتصفّح الإصابة واسد الغابة، ومارس كتب الأخبار، يجد من مراثيهم المشتملة علي تهييج الحزن بذكر محاسن الموتي شيئاً يتجاوز حدّ الأحصاء.

وقد أكثرت الخنساء- وهي صحابيّة- من رثاء أخويها صخر ومعاوية وهما كافران، وأبدعت في مدائح صخر، وأهاجت عليه لواعج الحزن فما أنكر عليها منكر.

وأكثر أيضاً متمم بن نويرة من تهييج الحزن علي أخيه مالك في __________________________________________________

(1) الإستيعاب 4/ 1650، الإصابة 7/ 111.

(2) الإصابة 7/ 366.

(3) المصدر 3/ 473.

(4) المصدر

8/ 390.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 45

مراثيه السائرة، حتي وقف مرة في المسجد وهو غاص بالصحابة أمام أبي بكر بعد صلاة الصبح واتكأ علي سية قوسه فأنشد:

نعم القتيلُ إذا الرياح تناوحت خلف البيوت قُتِلَت يا ابن الأزور

ثم أومأ إلي أبي بكر- كما في ترجمة وثيمة بن موسي بن الفرات من وفيات ابن خلكان «1» - فقال مخاطباً له:

أدعوته باللَّه ثم غدرته لو هو دعاك بذمّة لم يغدر

فقال أبو بكر: «واللَّه ما دعوته ولا غدرته» ثم قال:

ولنعم حشو الدرع كان وحاسراً ولنعم مأوي الطارق المتنور

لا يمسك الفحشاء تحت ثيابه حلو شمائله عفيف المأزر

وبكي حتي انحط عن سية قوسه، قالوا: «فمازال يبكي حتي دمعت عينه العوراء» فما أنكر عليه في بكائه ولا في رثائه منكر، بل قال له عمر:

- كما في ترجمة وثيمة من الوفيات «2» - «لوددت أنّك رثيت زيداً أخي بمثل ما رثيت به مالكاً أخاك» فرثي متمم بعدها زيد بن الخطاب فما أجاد، فقال له عمر: «لما لم ترث زيداً كما رثيت مالكاً» فقال: «إنّه واللَّه __________________________________________________

(1) وفيات الأعيان 6/ 16.

(2) المصدر.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 46

ليحرّكني لمالك ما لا يحركني لزيد».

واستحسن الصحابة ومَن تأخر عنهم مراثيه في مالك وكانوا يتمثّلون بها، كما اتفق ذلك من عائشة إذ وقفت علي قبر أخيها عبد الرحمن- كما في ترجمته من الإستيعاب «1» - فبكت عليه وتمثّلت:

وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتي قيل لن يتصدّعا

فلمّا تفرّقنا كأني ومالكاً لطول اجتماع لم نبت ليلةً معا

وما زال الرثاء فاشياً بين المسلمين وغيرهم في كلِّ عصر ومصر لا يتناكرونه مطلقاً.

__________________________________________________

(1) الإستيعاب 2/ 826 و 4/ 1638.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 49

المطلب الثالث: تلاوة الأحاديث المشتملة علي مناقب الميت ومصائبه … ص: 49

تلاوة الأحاديث المشتملة علي مناقب الميت ومصائبه … ص: 49

كما كانت عليه سيرة السلف.

وفعلته عائشة، إذ وقفت

علي قبر أبيها باكية. فقالت: كنتَ للدنيا مذلّاً بإدبارك عنها، وكنت للآخرة معزّاً بإقبالك عليها، وكان أجلّ الحوادث بعد رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) رزؤك، وأعظم المصائب بعده فقدك.

وفعله محمّد بن الحنفية، إذ وقف علي قبر أخيه المجتبي عليه السّلام فخنقته العبرة- كما في أوائل الجزء من العقد الفريد «1» - ثم نطق فقال:

«يرحمك اللَّه أبا محمّد، فإنْ عزّت حياتك فقد هدّت وفاتك، ولنعم الروح روح ضمّه بدنك، ولنعم البدن بدن ضمّه كفنك، وكيف __________________________________________________

(1) العقد الفريد 2/ 37.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 50

لا تكون كذلك؟ وأنت بقية ولد الأنبياء، وسليل الهدي وخامس أصحاب الكساء، غذّتك أكف الحق، وربيت في حجر الإسلام، فطبت حياً وطبت ميتاً، وإن كانت أنفسنا غير طيبة بفراقك، ولا شاكة في الخيار لك».

ثم بكي بكاءاً شديداً وبكي الحاضرون حتي علا نشيجهم.

ووقف أميرالمؤمنين عليه السّلام علي قبر خباب بن الأرت في ظهر الكوفة، وهو أول مَن دفن هناك- كما نص عليه ابن الأثير في آخر تتمة صفين- فقال:

«رحم اللَّه خباباً، لقد أسلم راغباً، وجاهد «1» طائعاً، وعاش مجاهداً، وابتُلي في جسمه أحوالًا، ولن يضيّع اللَّه أجرَ من أحسن عملًا» «2».

ولما توفّي أمير المؤمنين عليه السّلام، قام الخلف من بعده أبو محمّد الحسن الزكي عليه السلام خطيباً فقال: - كما في حوادث سنة 40 من تاريخ ابن جرير وابن الأثير وغيرهما-.

«لقد قتلتم الليلة رجلًا، واللَّه، ما سبقه أحد كان قبله ولا يدركه أحد يكون بعده، واللَّه إن كان رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله) ليبعثه __________________________________________________

(1) في المصدر: (هاجر).

(2) الكامل؛ لابن الأثير 3/ 198، حوادث سنة 37، ط بيروت دار الكتب العلمية.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 51

في السرية وجبريل عن

يمينه، وميكائيل عن يساره، واللَّه ما ترك صفراء ولا بيضاء … الخ» «1».

ووقف الإمام زين العابدين عليه السّلام علي قبر جدّه أمير المؤمنين عليه السّلام فقال:

«أشهد أنك جاهدت في اللَّه حق جهاده، وعملت بكتابه، و اتبعت سنن نبيه (صلّي اللَّه عليه وآله) حتي دعاك اللَّه إلي جواره فقبضك إليه باختياره، لك كريم ثوابه، وألزم أعداءك الحجة مع مالك من الحجج البالغة علي جميع خلقه» «2».

وعن أنس بن مالك- كما في العقد الفريد وغيره- قال: لما فرغنا من دفن رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) بكت فاطمة ونادت:

«يا أبتاه أجاب ربّاً دعاه، يا أبتاه مَن ربّه ما أدناه، يا أبتاه إلي جبرائيل ننعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه» «3».

__________________________________________________

(1) تاريخ الطبري 4/ 121، حوادث سنة 40، ط بيروت الأعلمي، البداية والنهاية 7/ 368، ط دار إحياء التراث العربي، الإمامة والسياسة 1/ 140، ط القاهرة 1413.

(2) كامل الزيارات: 92 و 93، باب زيارة قبر أمير المؤمنين عليه السلام وكيف يزار والدعاء عند ذلك.

(3) المجموع؛ للنووي 5/ 308، ط دار الفكر، والبخاري 5/ 144، ط دار الفكر عام 1401، والمستدرك؛ للحاكم النيسابوري 1/ 382 ط بيروت دار المعرفة عام 1406، والسنن الكبري للبيهقي 4/ 71 ط دارالفكر.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 52

ولو أردنا أن نستوفي ما كان من هذا القبيل، لخرجنا عن الغرض المقصود.

وحاصله: أنّ تأبين الموتي من أهل الآثار النافعة بنشر مناقبهم وذكر مصائبهم، مما حكم بحسنه العقل والنقل، واستمرّت عليه سيرة السلف والخلف، وأوجبته قواعد المدنية، واقتضته أصول الترقي في المعارف، إذ به تُحفظ الآثار النافعة، وبالتنافس فيه تعرج الخطباء إلي أوج البلاغة، والقول بتحريمه يستلزم تحريم قراءة التاريخ، وعلم الرجال، بل يستوجب المنع من

تلاوة الكتاب والسنة؛ لاشتمالهما علي جملة من مناقب الأنبياء ومصائبهم، ومَن يرضي لنفسه هذا الحمق، أو يختار لها هذا العمي؟ نعوذ باللَّه من سفه الجاهلين.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 55

المطلب الرابع: في الجلوس حزناً علي الموتي … ص: 55

في الجلوس حزناً علي الموتي … ص: 55

من أهل الحفائظ والأيادي المشكورة.

وحسبك في رجحان ذلك: ما تواتر عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم من الحزن الشديد علي عمّه أبي طالب وزوجته الصدّيقة الكبري أم المؤمنين عليهما السلام، وقد ماتا في عام واحد فسمّي عام الحزن، وهذا معلوم بالضرورة من أخبار الماضين «1».

وأخرج البخاري- في باب مَن جلس عند المصيبة يعرف فيه الحزن من الجزء الأول من صحيحه- بالإسناد إلي عائشة. قالت: «لما جاء النبي (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) قتل ابن حارثة وجعفر وابن رواحة جلس- أي في المسجد كما في رواية أبي داود- يعرف فيه الحزن» «2».

__________________________________________________

(1) أنظر: الكامل في التاريخ؛ لابن الأثير 1/ 606، ط دار الكتب العلمية.

(2) البخاري 2/ 83 ط دار الفكر و 5/ 87. وصحيح مسلم 3/ 45، ط دار الفكر، والسنن الكبري للبيهقي 4/ 59، سنن أبي داود.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 56

وأخرج البخاري في الباب المذكور أيضاً عن أنس قال: «قنت رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) شهراً حين قتل القرآء، فما رأيته حزن حزناً قطّ أشدّ منه. الحديث» «1».

والأخبار في ذلك أكثر من أنْ تحصي أو تستقصي.

والقول بأنّه إنّما يحسن ترتيب آثار الحزن إذا لم يتقادم العهد بالمصيبة، مدفوع بأنّ من الفجائع ما لا تخبو زفرتها ولا تخمد لوعتها، فقرب العهد بها وبعده عنها سواء. نعم، يتم قول هؤلاء اللّائمين إذا تلاشي الحزن بمرور الأزمنة ولم يكن دليل ولا مصلحة يوجبان التعبّد بترتيب آثاره، وما أحسن قول القائل في هذا المقام:

خلّي

أُميمة عن ملا مكِ ما المعزّي كالثكول ما الراقد الوسنان مثل معذَّب القلب العليل سهران من ألم وهذا نائمُ الليل الطويل ذوقي اميمة ما أذوقُ وبعده ماشئتِ قولي علي أنّ في ترتيب آثار الحزن بما أصاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم من تلك الفجائع وحلَّ بساحته من هاتيك القوارع، حكماً توجب التعبّد بترتيب آثار الحزن بسببها علي كلِّ حال. والأدلّة علي __________________________________________________

(1) البخاري 2/ 84، نيل الأوطار 2/ 297، ط بيروت.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 57

ترتيب تلك الآثار في جميع الأعصار متوفرة، وستسمع اليسير منها إنْ شاء اللَّه تعالي

وقد علمت سيرة أهل المدينة الطيّبة، واستمرارها علي ندب حمزة وبكائه مع بعد العهد بمصيبته، فلم ينكر عليهم في ذلك أحد، حتي بلغني أنهم لا يزالون إلي الآن إذا ناحوا علي ميت بدأوا بالنياحة عليه، وما ذاك إلّامواساة لرسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله بمصيبته في عمّه، وأداءً لحق تلك الكلمة التي قالها في البعث علي البكاء عليه وهي قوله: «لكن حمزة لا بواكي له» «1».

وكان الأولي لهم ولسائر المسلمين مواساته في الحزن علي أهل بيته والآقتداء به في البكاء عليهم، وقد لامَ بعض أهل البيت عليهم السلام مَن لم يواسهم في ذلك فقال:

«ياللَّه لقلب لا ينصدع لتذكار تلك الأمور، ويا عجباً من غفلة أهل الدهور، وما عذر أهل الإسلام والإيمان في إضافة أقسام الأحزان، ألم يعلموا أنّ محمّداً (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) موتور وجيع، وحبيبه مقهور صريع. قال: وقد أصبح لحمه (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) مجرّداً علي الرمال، ودمه الشريف مسفوكاً بسيوف أهل الضلال، فياليت __________________________________________________

(1) تقدّم تخريجه، فراجع.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 58

لفاطمة وأبيها عيناً تنظر إلي بناتها وبنيها، وهم

ما بين مسلوب وجريح، ومسحوب وذبيح، إلي آخر كلامه» «1».

ومَنْ وقف علي كلام أئمة أهل البيت في هذا الشان، لا يتوقف في ترتيب آثار الحزن عليهم مدي الدوران، لكنا منينا بقوم لا ينصفون، فإنّا للَّه وإنا إليه راجعون.

__________________________________________________

(1) اللهوف، للسيد ابن طاوس: 22.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 61

المطلب الخامس: في الإنفاق عن الميت … ص: 61

في الإنفاق عن الميت … ص: 61

في وجوه البرّ والإحسان.

ويكفي في استحبابه: عموم ما دلّ علي استحباب مطلق المبرات، والخيرات، علي أنّ فعل النبي صلّي اللَّه عليه وآله وقوله دالّان علي الإستحباب في خصوص المقام.

وحسبك من فعله: ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما «1» بطرق متعددة: عن عائشة، قالت: «ما غرتُ علي أحد من نساء النبي (صلّي اللَّه عليه وآله)، مثل ما غرت علي خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي (صلّي اللَّه عليه وآله)، يُكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة، ثم يقطعها

__________________________________________________

(1) فراجع من صحيح البخاري 4/ 231، باب تزويج النبي خديجة وفضلها، من صحيح مسلم: باب فضائل خديجة أم المؤمنين عليها السلام. (المؤلّف).

وللتفصيل راجع: مسند أحمد 6/ 279، والمستدرك للحاكم 4/ 175، والمعجم الكبير للطبراني 10/ 23 ح 11 وأُسد الغابة 5/ 438. (المؤلف).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 62

أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: «كأنّه لم يكن في الدنيا إلّاخديجة»، فيقول: «إنّها كانت وكانت وكان لي منها ولد».

قلتُ: وهذا يدلُّ علي استحباب صلة أصدقاء الميت وأوليائه في اللَّه عزّوجلّ بالخصوص.

ويكفيك من قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: ما أخرجه مسلم في باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه، من كتاب الزكاة، في الجزء الأول من صحيحه بطرق متعددة، عن عائشة: إنّ رجلًا أتي النبي (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) فقال: «يا رسول اللَّه إنّ أُمي افتلتت نفسها، ولم توص، أفلها أجر

إن تصدّقتُ عنها؟» قال (صلّي اللَّه عليه وآله):

«نعم!» «1».

ومثله: ما أخرجه أحمد من حديث عبداللَّه بن عباس في الصفحة 333 من الجزء الأوّل من مسنده، من أنّ سعد بن عباده قال: «إنّ ابن بكر أخابني ساعدة توفيت أُمّه وهو غائب عنها فقال: يا رسول اللَّه:

إنّ أمي توفيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها إن تصدّقت بشي ء عنها»؟

قال: «نعم» قال: «فإني اشهدك أن حائط المخرف صدقة عليها» «2».

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 3/ 81.

(2) مسند أحمد بن حنبل 1/ 333.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 63

والأخبار في ذلك متضافرة «1»، ولا سيما من طريق العترة الطاهرة «2».

__________________________________________________

(1)

المعجم الأوسط للطبراني 1/ 217، مسند أبي يعلي الموصلي 7/ 410، ح 4434، السنن الكبري، للنسائي 4/ 109 وكنز العمال/ 599: 6، ح 17053.

(2) وربما كان المنكر علينا فيما نفعله من المبرّات عن الحسين (عليه السّلام)، لا يقنع بأقوال النبي (صلّي اللَّه عليه وآله) ولا بأفعاله، وإنما تقنعه أقوال سلفه، وأفعالهم، وحينئذ نحتج عليه بما فعله الوليد بن عقبة بن أبي معيط الأموي، إذ مات لبيد بن ربيعة العامري الشاعر، فبعث الوليد إلي منزله عشرين جزوراً، فنحرت عنه، كما نصّ عليه ابن عبدالبر، في ترجمة لبيد، من الإستيعاب [3/ 1136- 1137]. (المؤلف).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 67

فصل: في مآتمنا المختصّة بسيّد الشهداء عليه السّلام … ص: 67

كلّ مَن وقف علي ما سلف من هذه المقدّمة، يعلم أنّه لا وجه للإنكار علينا في مآتمنا المختصة بسيد الشهداء عليه السّلام، ضرورة أنّه لا تشتمل إلّاعلي تلك المطالب الخمسة، وقد عرفت إباحتها بالنسبة إلي مطلق الموتي من كافة المؤمنين.

وما أدري كيف يستنكرون مآتم انعقدت لمواسات النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم؟ وأُسِّست علي الحزن لحزنه، أيبكي بأبي هو وأمي قبل الفاجعة ونحن لا نبكي بعدها؟ ما

هذا شأن المتأسي بنبيّه، والمقتصّ لأثره، إنْ هذا إلّاخروج عن قواعد المتأسين، بل عدول عن سنن النبيّين.

ألم يرو الإمام أحمد بن حنبل من حديث علي عليه السّلام، في الصفحة 85 من الجزء الأول من مسنده، بالإسناد إلي عبداللَّه بن نجيّ، عن أبيه أنّه سار مع علي (عليه السّلام)، فلما حاذي نينوي، وهو منطلق إلي صفين نادي: «صبراً أبا عبداللَّه، صبراً أبا عبداللَّه بشطّ الفرات».

قال: «قلت: وما ذاك»، قال:

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 68

«دخلتُ علي رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) ذات يوم وعيناه تفيضان، قلت: يا نبي اللَّه، ما شأن عينيك تفيضان؟ قال: قام من عندي جبرائيل قبل، فحدّثني أنّ ولدي الحسين يُقتل بشط الفرات، قال فقال: هل لك إلي أن أشمَّك من تربته؟ قال: قلت: نعم! فمدّ يده، فقبض قبضة من تراب فاعطانيها، فلم أملك عيني أن فاضتا» «1».

وأخرج ابن سعد، كما في الفصل الثالث من الباب الحادي عشر، من الصواعق المحرقة لابن حجر «2»، عن الشعبي، قال: «مرّ علي رضي اللَّه عنه بكربلاء عند مسيره إلي صفين وحاذي نينوي، فوقف وسأل عن اسم الأرض، فقيل: كربلاء؟ فبكي حتي بلّ الأرضَ من دموعه، ثم قال:

«دخلت علي رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك (بأبي أنت وأُمي) قال: كان عندي جبرائيل آنفاً، وأخبرني أنّ ولدي الحسين، يقتل بشاطي ء الفرات، بموضع يقال له __________________________________________________

(1) مسند أحمد 1/ 85، ط دار صادر، ومجمع الزوائد، للهيثمي 9/ 187، ط دار الكتب العلمية سنة 1408، مسند أبي يعلي الموصلي 1/ 298، المعجم الكبير للطبراني 3/ 105، ح 2811، كنز العمال 13/ 655، ح 37663.

(2) كل ما ننقله في هذا المقام عن الصواعق من

هذا الحديث، وغيره موجود في أثناءكلامه في الحديث الثلاثين، من الأحاديث التي أوردها في ذلك الفصل، فراجع. (المؤلف).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 69

كربلاء. (الحديث) «1».

وأخرج الملّا- كما في الصواعق أيضاً-: «إنّ علياً مرّ بموضع قبر الحسين عليهما السلام فقال:

«هاهنا مناخ ركابهم، وهاهنا موضع رحالهم، وهاهنا مهراق دمائهم، فتية من آل محمّد، يقتلون بهذه العرصة، تبكي عليهم السمآء والأرض» «2».

ومن حديث أم سلمة- كما نصَّ عليه ابن عبدربه المالكي «3»، حيث ذكر مقتل الحسين في الجزء الثاني من العقد الفريد- قالت: «كان عندي النبي (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) ومعي الحسين، فدنا من النبي (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) فأخذته، فبكي، فتركته، فدنا منه، فأخذته فبكي فتركته، فقال له جبرائيل: «أتحبّه يا محمّد»؟ قال: «نعم»! قال: «أمّا إنّ أُمتك ستقتله، وإن شئت أريتك الأرض التي يقتل بها»، فبكي النبي __________________________________________________

(1) أنظر: الصواعق المحرقة، لابن حجر: 193، عنه القندوزي في ينابيع المودّة 3/ 12.

(2) وهذا الحديث رواه أصحابنا- بكيفية مشجية- عن الباقر عليه الصلاة والسلام، ورووه عن هرثمة، وعن ابن عباس، وإن أردت الوقوف عليه، فدونك ص 108- وما بعدها إلي- ص 112 من الخصائص الحسينية للتستري، وأنظر: الصواعق المحرقة: 193.

(3) في السطر 15 من الصفحة 243 من جزئه الثاني المطبوع سنة 1305، وفي هامشه زهرالآداب.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 70

(صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) «1».

وروي الماوردي الشافعي، في باب إنذار النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بما سيحدث بعده، «2» من كتابه (أعلام النبوة) عن عروة، عن عائشة، قالت: «دخل الحسين بن علي علي رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله) وهو يُوحي إليه، فقال جبرائيل: «إنّ أمّتك ستفتتن بعدك وتقتل ابنك هذا من بعدك، ومدّ يده

فأتاه بتربة بيضاء، وقال: في هذه يقتل ابنك، اسمها الطف».

قالت: «فلمّا ذهب جبرآئيل، خرج رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) إلي أصحابه والتربة بيده، وفيهم: أبو بكر، وعمر، وعلي، وحذيفة، وعثمان، وأبو ذر، وهو بيكي» فقالوا: «ما يبكيك يا رسول اللَّه»؟ فقال:

«أخبرني جبرائيل: إنّ ابني الحسين، يقتل بعدي بأرض الطف،

__________________________________________________

(1) وأخرج البغوي في معجمه وأبو حاتم في صحيحه، من حديث أنس كما في الصواعق نحوه، وابن سعد في طبقاته ج 8 ترجمة الإمام الحسين (عليه السلام)، ح 81، والذهبي في ميزان الاعتدال 1/ 8، وفي ط ص 13 في ترجمة أبان بن أبي عياش رقم 15.

(2) وهو الباب الثاني عشر في الصفحة 23 وفي طبعةٍ الصفحة 182. من ذلك الكتاب، عنه ابن نما الحلي في كتاب ذوب النضار في شرح الثار: 21، ط قم جماعة المدرّسين، سنة 1416.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 71

وجاءني بهذه التربة، فأخبرني أنّ فيها مضجعه» «1».

وأخرج الترمذي «2» - كما في الصواعق وغيرها- «إن أم سلمة رأت النبي (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) فيما يراه النائم باكياً، وبرأسه ولحيته التراب، فسألته فقال:

«قُتِلَ الحسين آنفاً».

قال في الصواعق: «وكذلك رآه ابن عباس، نصف النهار، أشعث أغبر، بيده قارورة، فيها دم يلتقطه، فسأله، فقال:

«دم الحسين وأصحابه لم أزل أتتبعه منذ اليوم» «3».

قال: «فنظروا فوجدوه قد قُتل في ذلك اليوم».

وأما صحاحنا، فإنّها متواترة في بكآئه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم علي الحسين عليه السّلام في مقامات عديدة، يوم ولادته، وقبلها، ويوم السابع من مولده، وبعده في بيت فاطمة، وفي حجرته، وعلي منبره،

__________________________________________________

(1) أخرجه الطبراني في معجمه الكبير 3/ 107، ح 2814، والهيثمي في مجمع الزوائد 9/ 188.

(2) الترمذي في سننه 5/ 223 ح 3860، والحاكم

في المستدرك 4/ 19، والبخاري في تاريخه الكبير 3/ 324 ح 1098.

(3) وأخرجه من حديث ابن عباس أحمد بن حنبل في الصفحة 283 من الجزء الأوّل من مسنده، وابن عبدالبر، والعسقلاني في ترجمة (الإمام) الحسين (عليه السّلام) من الاستيعاب، و الإصابة. وخلق كثير. (المؤلف).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 72

وفي بعض أسفاره، تارة يبكيه وحده، ومرة هو والملائكة، وأحياناً هو وعلي وفاطمة، وربّما بكاه هو أصحابه، وكان يقبّله في نحره ويبكي، ويقبّله في شفتيه ويبكي، وإذا رآه فرحاً يبكي، وإذا رآه حزيناً يبكي، بل صح أنّه قد بكاه آدم، ونوح، وإبراهيم، و إسماعيل، وموسي وعيسي وزكريا، ويحيي والخضر، وسليمان عليهم السلام، وتفصيل ذلك كلّه موكول إلي مظانه من كتب الحديث «1».

وأما أئمة العترة الطاهرة الذين هم كسفينة نوح، وباب حطّة، وأمان أهل الأرض، وأحد الثقلين اللذين لا يضلُّ مَن تمسك بهما ولا يهتدي إلي اللَّه مَن صدَّ عنهما، فقد استمرت سيرتهم علي الندب والعويل، وأمروا أوليائهم بإقامة مآتم الحزن، جيلًا بعد جيل، فعن الصادق عليه السّلام- فيما رواه ابن قولويه في الكامل، وابن شهراشوب في المناقب، وغيرهما-:

«إنّ علي بن الحسين عليهما السلام بكي علي أبيه مدّة حياته، وما وضع بين يديه طعام إلّابكي ولا أتي بشراب إلّابكي حتي قال له أحد مواليه: جُعلت فداك، يا ابن رسول اللَّه؛ إني أخاف أن تكون من __________________________________________________

(1) أنظر: الصفحة 105 وما بعدها إلي الصفحة 232 من الخصائص الحسينية، وإن شئت أنظر: جلاء العيون، والبحار، والمنتخب للطريحي، وأسرار الشهادة للدربندي، وسيرتنا وسنتنا للعلامة الأميني.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 73

الهالكين، قال عليه السّلام: إنما أشكو بثّي وحزني إلي اللَّه وأعلم من اللَّه ما لا تعلمون» «1».

وروي ابن

قولويه وابن شهرآشوب أيضاً وغيرهما: إنّه كلّما كثر بكاؤه قال له مولاه: «أما آن لحزنك أن ينقضي»؟، فقال:

«ويحك، إن يعقوب عليه السّلام كان له اثنا عشر ولداً، فغيّب اللَّه واحداً منهم، فابيضّت عيناه من كثرة بكائه عليه، واحدودب ظهره من الغم، وابنه حي في الدنيا، وأنا نظرت إلي أبي، وأخي، وعمومتي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي، فكيف ينقضي حزني؟» «2».

وعن الباقر عليه السّلام «3» قال:

«كان أبي علي بن الحسين (صلوات اللَّه عليه) يقول: أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي عليه السّلام دمعة حتي تسيل علي خدّه، بوّأه اللَّه تعالي في الجنة غرفاً يسكنها أحقاباً؛ وأيّما مؤمنٍ دمعت عيناه حتي تسيل علي خدّه فينا، لأذي مسّنا من عدوّنا في الدنيا، بوّأه اللَّه __________________________________________________

(1) كامل الزيارات: 213 ح 1، باب 35، عنه البحار 46/ 63 ح 19، والخصال للصدوق: 518 ح 4، في باب 23.

(2) كامل الزيارات: 213 ح 2، وسائل الشيعة 3/ 283 ح 11، باب 87، العوالم، الإمام الحسين: 449.

(3) فيما أخرجه جماعة، منهم ابن قولويه في كامله [كامل الزيارات: 201 ح 1، باب 32] (المؤلفَ).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 74

في الجنة مبوّأ صدق، وأيّما مؤمن مسّه أذي فينا فدمعت عيناه حتي تسيل علي خده (من مضاضة ما أُوذي فينا) «1»، صرف اللَّه عن وجهه الأذي، وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار» «2».

وقال الرضا «3» - وهو الثامن من أئمة الهدي صلوات اللَّه وسلامه عليهم-.

«إن المحرّم شهر كان أهل الجاهليّة يحرّمون فيه القتال، فاستحلّت فيه دماؤنا، وهتكت فيه حرمتنا، وسُبيت فيه ذرارينا ونساؤنا، واضرمت فيه النار في مضاربنا، وانتهب ما فيها من ثقلنا «4»، ولم ترع لرسول اللَّه صلّي اللَّه

عليه وآله وسلّم حرمة في أمرنا، إن يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا، فعلي مثل الحسين فليبك الباكون، فإنّ البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام (ثم قال عليه السّلام:) كان أبي إذا دخل شهر المحرم، لا يري ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه».

__________________________________________________

(1)

بين القوسين من المصدر.

(2) كامل الزيارات: 201 ح 1، باب 32.

(3) فيما أخرجه الصدوق في أماليه: 111، وابن فتال النيسابوري المتوفي سنة 508 في روضة الواعظين: 169 ط قم الشريف الرضي، وابن شهرآشوب في مناقبه 3/ 238، والإقبال للسيد ابن طاوس 3/ 28، ط مكتب الإعلام.

(4) الثقل: وزان سبب: متاع المسافر، وكلّ شي ء نفيس مصون.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 75

وقال (عليه السّلام) «1»:

«مَن تذكر مصابنا وبكي لما ارتكب منّا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومَن ذكر مصابنا، فبكي وأبكي لم تبكِ عينه يوم تبكي العيون، ومَن جلس مجلساً يُحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب» «2».

وعن الريان بن شبيب- فيما أخرجه الشيخ الصدوق في العيون- قال: «دخلتُ علي الرضا عليه السّلام في أول يوم من المحرّم، فقال لي:

«يا ابن شبيب، إن المحرّم هو الشهر الذي كان أهل الجاهلية يحرّمون فيه الظلم والقتال، لحرمته، فما عرفت هذه الأمة حرمة شهرها، ولا حرمة نبيّها- صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، إذ قتلوا في هذا الشهر ذريّته، وسبوا نساءه وانتهبوا ثقله، يا ابن شبيب إنْ كنت باكياً لشي ء فابك للحسين (عليه السّلام) فإنه ذبح كما يُذبح الكبش «3»، وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر

__________________________________________________

(1) فيما أخرجه الصدوق في أماليه: 131، ح 4، المجلس السادس عشر.

(2) مكارم الأخلاق: 315، وسائل الشيعة 14/ 502

ح 4، البحار 44/ 278 ح 1 و 2.

(3) إن التعبير- كهذا- مما يدلك علي غاية همجية القوم وشقائهم، وبعدهم عن العطف الإنساني، بالإضافة علي قتلهم ريحانة الرسول الأعظم صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم وهتكهم حرمته في سبطه روحي فداه. وقد أجمل الإمام عليه أفضل الصلاة والسلام لما أدي عن الفاجعة وأهميتها بهذا الكلام القصير وأشار به إلي معني جسيم يدركه الباحث المتعمق بعد التحليل والاختبار، ويندهش- المجموع البشري- لمثل هذه الرزية عندما علم انّه لم يوجد بين تلك الجموع المحتشدة في كربلا مَن يردعهم عن موقفهم البغيض، ولا أقل مَن تسائل بعضهم، لماذا نقاتل الحسين؟ وباي عمل استحق ذلك منا؟ أو هل كان دم الحسين (عليه السّلام) مباحاً إلي حد إباحة دم الكبش؟!، ويُذبح- بأبي وأمي- بلا ملامة لائم ومن دون خشية محاسب!! والتاريخ- بأيدينا- لم يحدثنا عن وجود متردد في قتل الحسين عليه السّلام يوم عاشوراء بل اجتمعوا لذلك علي قول واحد بلا رافض منهم يتخيل أن هناك محذوراً شرعياً أو عرفيّاً فيما يصنعون. حتي أن الشهيد السعيد الحرّ بن يزيد الرياحي لما اعتزلهم- قبل أن يشرعوا بالقتال- ولحق بالحسين- روحي فداه- وعظهم وزجرهم، لم يتعظوا بكلامه ولم يهتدوا إلي خيرهم، ولم يتّبعوه وهم غير شاكين في الندامة اللاحقة بهم في مستقبلهم المظلم القريب. وقد كان لالتحاق- الحرّ- الرياحي الأثر البالغ حيث أقام الحجة بعمله هذا علي أهل الكوفة، وبرهن لهم إمكان التوبة، والرجوع إلي اللَّه، واتّباع الحق كما فعل هو- سلام اللَّه عليه- وقد استغل الفرصة ودافع عن الحسين (عليه الصلاة والسلام) واستشهد بين يديه، وسعد في الدنيا بخلود ذكره، وفاز بصحبة النبي العظيم صلّي اللَّه عليه وآله في الفردوس الأعلي (المؤلف).

سلسلة

النقد والتحقيق، ج 2، ص: 76

رجلًا ما لهم في الأرض من شبيه، ولقد بكت السموات السبع لقتله- إلي أنْ قال-: يا ابن شبيب إنْ سرّك أنْ تكون معنا في الدرجات العلي فاحزن لحزننا وافرح لفرحنا، وعليك بولايتنا. الحديث» «1».

__________________________________________________

(1) عيون أخبار الرضا 2/ 268 ح 58، إقبال الأعمال 3/ 29، وسائل الشيعة 10/ 324 ح 18، ط دار إحياء التراث العربي.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 77

وقال (عليه السّلام) فيما أخرجه الصدوق في أماليه:

«مَن ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضي اللَّه له حوائج الدنيا والآخرة، ومَن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه جعل اللَّه عزّوجلّ يوم القيامة يوم فرحه وسروره، وقرّت بنا في الجنان عينه، الحديث» «1».

وبكي صلوات اللَّه عليه إذ أنشده دعبل بن علي الخزاعي قصيدته التائية السائرة حتي أغمي عليه في أثنائها مرتين، كما نصّ عليه الفاضل العباسي في ترجمة دعبل من معاهد التنصيص «2» وغيره من أهل الأخبار.

وفي البحار وغيره: «إنّه عليه السّلام أمر قبل إنشادها بستر فضرب دون عقائله فجلسن خلفه يسمعن الرثاء، ويبكين علي جدّهن سيد الشهدآء وأنّه قال يومئذ:

«يا دعبل من بكي أو أبكي علي مصابنا ولو واحداً، كان أجره علي اللَّه. يا دعبل مَن ذرفت عيناه علي مصابنا حشره اللَّه معنا» «3».

__________________________________________________

(1) الأمالي للصدوق: 191 ح 4 المجلس 27 والعلل 1/ 227 ح 2، باب 162، روضة الواعظين: 169، والمناقب لابن شهرآشوب 3/ 239 ط النجف.

(2) معاهد التنصيص 2/ 190.

(3) البحار 45/ 257 ح 15، ط بيروت مؤسّسة الوفاء، العوالم: 545، ومستدرك الوسائل 10/ 386 ح 2.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 78

وحدث محمّد بن سهل كما في ترجة الكميت من معاهد التنصيص قال: «دخلتُ مع الكميت علي أبي

عبداللَّه جعفر بن محمّد الصادق (عليه السّلام) في أيام التشريق فقال له: «جُعلت فداك ألا أُنشدك؟» قال: «إنها أيّام عظام». قال: «إنّها فيكم»، قال: «هات» وبعث أبو عبداللَّه إلي بعض أهله، فقرب فأنشده في رثاء الحسين عليه السّلام فكثر البكاء حتي أتي علي هذا البيت:

يصيب به الرامون عن قوس غيرهم فيا آخراً أسدي له الغي أوّل قال: «فرفع أبو عبداللَّه رحمه اللَّه تعالي يديه فقال:

«اللّهم اغفر للكميت ما قدّم وما أخّر، وما أسرّ وما أعلن، وأعطه حتي يرضي «1». «2»

__________________________________________________

(1) أنظر: نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار 9/ 199.

(2) بخ بخ هنيئاً لمَن نال من أئمة الهدي بعض ذلك، وأنت تعلم أنّه عليه السّلام لم يبتهل بالدعاء للكميت هذا الابتهال إلّالما دلّ عليه بيته هذا من معرفته بحقيقة الحال، وقد أكثر الشعراء من نظم هذا المعني، فنظمه المهيار في قصيدته اللّامية، وقبل ذلك نظمه الشريف الرضي فقال:

بني لهم الماضون أساس هذه فعلوا علي أساس تلك القواعد

وكأن سيدة نساء عصرها (زينب عليها السلام) أشارت إلي هذا المعني بقولها مخاطبة ليزيد: «وسيعلم من سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين» بل أشار إليه معاوية إذ كتب إليه محمّد بن أبي بكر يلومه في تمرّده علي أمير المؤمنين عليه السّلام، ويذكر له فضله وسابقته، فكتب له معاوية في الجواب ما يتضمن الإشارة إلي المعني الذي نظمه الكميت، فراجع ذلك الجواب في كتاب صفين لنصر بن مزاحم أو شرح النهج لابن أبي الحديد أو مروج الذهب للمسعودي. وقد اعترف بذلك المعني يزيد بن معاوية إذ كتب إليه ابن عمر يلومه علي قتل الحسين فأجابه: «أمّا بعد فإنّا أقبلنا علي فرش ممهدة ونمارق منضدة»، إلي آخر الكتاب وقد نقله البلاذري

وغيره من أهل السير والأخبار، وفي كتابنا سبيل المؤمنين من هذا شي ء كثير. فحقيق بالباحثين أن يقفوا عليه. (المؤلف).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 79

وفي كامل الزيارات بالإسناد إلي عبداللَّه بن غالب قال: «دخلت علي أبي عبداللَّه عليه السّلام فانشدته مرثية الحسين عليه السّلام، فلما انتهيت إلي قولي: فيها (لبليةٍ) البيت، صاحت باكية من وراء الستر: «يا أبتآه …» «1».

وروي الصدوق في الأمالي وثواب الأعمال وابن قولويه، بأسانيد معتبرة، عن أبي عمارة قال: قال لي أبو عبداللَّه عليه السّلام: «يا أبا عمارة، أنشدني في الحسين»، فأنشدته، فبكي، ثم أنشدته فبكي. قال: «فواللَّه ما زلتُ أنشده ويبكي، حتي سمعت البكاء من الدار» فقال:

__________________________________________________

(1) كامل الزيارات: 105 ح 3، والبحار 44/ 286 ح 24، ومستدرك الوسائل 10/ 385 ح 1 والبيت هو:

(لبليّةٍ تسقو حسيناً بمسقاة الثري غير الترابِ).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 80

«يا أبا عمارة، مَن أنشد في الحسين بن علي (عليهما السلام) فأبكي خمسين فله الجنة، ومَن أنشد في الحسين فأبكي ثلاثين فله الجنة، ومَن أنشد في الحسين فأبكي عشرين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فأبكي عشرة فله الجنة، ومَن أنشد في الحسين فبكي فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فتباكي فله الجنة» «1».

وروي الصدوق في ثواب الأعمال، بالإسناد إلي هارون المكفوف قال: «دخلت علي أبي عبداللَّه الصادق عليه السّلام فقال لي: «يا أبا هارون أنشدني في الحسين عليه السّلام» فأنشدته، فقال لي: «أنشدني كما تنشدون».- يعني بالرقة- قال فأنشدته:

امرر علي جدث الحسين فقل لأعظمه الزكية

قال: فبكي ثم قال: «زدني» فأنشدته القصيدة الأخري قال: فبكي و سمعت البكاء من خلف الستر، فلما فرغت، قال:

«يا أبا هارون! من أنشد في الحسين (عليه السلام) شعراً فبكي

وأبكي عشرة، كتبت لهم الجنة، إلي أن قال: ومن ذكر الحسين عنده فخرج من عينيه مقدار جناح ذبابة، كان ثوابه علي اللَّه عزّوجلّ،

__________________________________________________

(1) كامل الزيارات: 209 ح 2 باب 33، وثواب الأعمال للصدوق: 111 ح 2، والأمالي للصدوق المجلس: 29 ح 6، والبحار 44/ 282.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 81

ولم يرض له بدون الجنة» «1».

وروي الكشي بسند معتبر عن زيد الشحام قال: «كنّا عند أبي عبداللَّه (عليه السّلام) فدخل عليه جعفر بن عفان فقرّبه وأدناه، ثم قال: «يا جعفر!» قال: «لبيك جعلني اللَّه فداك، قال: بلغني أنّك تقول الشعر في الحسين (عليه السلام) وتجيد»، فقال له: «نعم جعلني اللَّه فداك» فقال: «قل!» فأنشده، فبكي ومَن حوله حتي صارت الدموع علي وجهه ولحيته، ثم قال:

«يا جعفر، واللَّه لقد شهدك ملائكة اللَّه المقربون ها هنا يسمعون قولك في الحسين (عليه السّلام)، ولقد بكوا كما بكينا وأكثر، (إلي أن قال:) ما من أحد قال في الحسين شعراً فبكي وأبكي إلّاأوجب اللَّه له الجنة، وغفرله» «2».

وروي ابن قولويه في الكامل بسند معتبر حديثاً، عن الصادق (عليه السّلام) جاء فيه:

«وكان جدّي علي بن الحسين (عليهما السلام) إذا ذكره- يعني الحسين عليه السّلام- بكي حتي تملأ عيناه لحيته، وحتي يبكي لبكائه __________________________________________________

(1) ثواب الأعمال: 111 ح 1، ط بيروت الأعلمي.

(2) رجال الكشي 3/ 574 رقم 508 في ترجمة جعفر بن عفان الطائي؛ ط مؤسّسة آل البيت عليه السلام لإحياء التراث.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 82

رحمة له مَن رآه، وإنّ الملائكة الذين عند قبره ليبكون، فيبكي لبكائهم كلّ مَن في الهواء والسماء، وما من باكٍ يبكيه إلّاوقد وصل فاطمة وأسعدها، ووصل رسول اللَّه (صلي اللَّه عليه وآله) وأدّي حقنا، الحديث» «1».

وفي قرب الإسناد،

عن بكر بن محمّد الأزدي قال: قال أبو عبداللَّه (الصادق) عليه السّلام لفضيل بن يسار: «تجلسون وتتحدّثون؟» قال:

«نعم جعلت فداك» قال عليه السّلام:

«إنّ تلك المجالس أحبها، فأحيوا أمرنا، فرحم اللَّه مَن أحيي أمرنا، يا فضيل! مَن ذكرنا أو ذُكرنا عنده، فخرج من عينه مثل جناح الذباب «2»

__________________________________________________

(1) كامل الزيارات: 168 ح 8 باب 26، مدينة المعاجز، للسيد هاشم البحراني 4/ 167 ح 242.

(2) كانت الأمم- ولم تزل- تقيم المهرجانات لعظمائها بشتي المناسبات، فمِن واردٍيستقبلونه يهتاف وتصفيق، أو جثمان يحملونه علي الأكتاف صارخين، واعتادت الصحف- عالمية وأقليمية- بنشرها لتفاصيل تعطي قرآئها معلومات كافية عن تلك الأنباء وتطبع الصور المجناة عنها للغاية نفسها. وقد تقوم وزارة التوجيه والإرشاد بإذاعة تلك الأخبار إذا كسبت الأهمية لديها بصورةٍ مّا، وفي الساعة الأخيرة يثاب المساهمون ويجزون بالجميل فعلًا، وقد يكافئون بالأفضل كلّ علي حسبه، كما أنّ غيرهم يُحرم مما يقابل به المحسنون، آمنين كانوا أم غير آمنين، عن صميم كان عملهم أم لا، والقصد في عملهم صحيحاً كان أم خالطه خوف أو رجآء.

فإذا كان الحال عند الشعوب والقبائل والحكومات والدول- كما قدمنا- جزاء المحسن بإحسان مثل ما يؤدّيه من الواجب، أو علي قدر ما يبديه بالنسبة إلي الفقيد وذويه، وإلي أصحاب العزاء وإهمال المفرط بل عقابه أحيانا، كان علي اللَّه سبحانه أن يبذل ما يناسب وشأنه العزيز- بكرمه وجوده- للمعزّين بأبي الشهدآء- روحي له الفداء- من الغفران والجنة والرضوان، وما ذلك عليه بعزيز- والأمر والملك له- حيث أنّ الحسين ثار اللَّه- كما ورد- وأنّ معالم الدين- المحمدي (صلّي اللَّه عليه وآله) الحنيف لم تعش إلّاببركة الحسين وأهل بيته (صلّي اللَّه عليهم)، واللَّه يعلم أنّ الذي يخرج من العين لا يكون

إلّاعن حرقة، ولم يكن إلّاعند فيضان الأحاسيس وهيجان العواطف.

فالذي ورد في ثواب الباكين علي الحسين (عليه السلام)- ولو مثل جناح الذباب- مجمع عليه عند المشيخة والأعلام، بلا مناقشة في نصوص الأحاديث المروية في هذا الشأن لتواترها، وكثرتها وقوة سندها ونباهة رجالها. (الميلاني).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 83

غفر اللَّه له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر» «1».

وفي خصال الصدوق «2»: عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال:

«إن اللَّه تبارك وتعالي اطلع إلي الأرض فاختارنا، واختار لنا شيعة، ينصروننا، ويفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا، أولئك منّا وإلينا» «3».

__________________________________________________

(1) أنظر: قرب الإسناد: 36 ح 117، وثواب الأعمال: 187، ط قم الشريف الرضي، وابن إدريس في مستطرفات السرائر: 226، ط قم.

(2) الخصال: 635، ح 10، ط قم جماعة المدرّسين، البحار ج 44، ص 287، ح 26.

(3) قد يري بعضهم غموضاً في التوجيه المقصود من هذا الحديث، إذ أنّ الحزن علي مصاب الحسين (عليه السّلام) والبذل في مأتمه عند فرق المسلمين وغيرهم من الملل الأخري لا يقصران عما تأتيه الشيعة فيلزم إما التوسع في معني التشيع، وإما إهمال الباقين وحرمانهم من ثواب عملهم. والذي أرتأيه- منذ بلغني وشاهدت ما تصنعه الطوائف غير المسلمة، وبعض الفرق الإسلامية (غير الشيعة) تجاه سيد الشهداء روحي له الفداء- أنه عليه السّلام يضمن لهم السعادة الأبدية بشفاعته عنداللَّه، فلا يخرجون من الدنيا إلّامؤمنين، وفي الجنان آمنين، فيكونوا شيعة بعناية اللَّه تقديراً لما بذلوه من المال والنفس وما عملوه في سبيله (صلّي اللَّه عليه).

وهذا أمر جائز في حدّ ذاته وغير بعيد- بل واقع- ممن ملأ الكون من أحاديث جوده وكرمه مدّة حياته القدسية الإلهيّة، وقد جاء في الصحيح (إنّ الحسين مصباح الهدي

وسفينة النجاة). وأمّا كرمه بعد شهادته إلي هذا التاريخ، فقد طبق الدنيا- شرقها وغربها- من حديثه، حيث لم يخب مَن تمسك به من ذوي الحاجات، فكم من كربة دفعها بإذن اللَّه تعالي لا يفرق بين من يمّه عند مرقده الطاهر، وبين مَن توجه إليه من مكانه- مهما بعد- وناداه لمشكلته، وإنّ لهؤلاء قصصاً يحضرني الآن منها شي ء وافر ليس هذا محلّها. (الميلاني).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 84

وفي كامل الزيارات بالإسناد إلي أبي عمارة المنشد قال: «ما ذكر الحسين (عليه السّلام) عند أبي عبداللَّه (الصادق عليه السّلام) في يوم قط فرئي متبسماً في ذلك اليوم إلي الليل. قال: «وكان أبو عبداللَّه عليه السّلام يقول:

«الحسين عبرةُ كلّ مؤمن» «1».

__________________________________________________

(1) كامل الزيارات: 214 ح 2 باب 36، والبحار 44/ 280.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 85

وفيه بالإسناد إلي الصادق عليه السّلام قال:

«قال الحسين (عليه السّلام): أنا قتيل العبرة، لا يذكرني مؤمن إلّا استعبر» «1».

إلي غير ذلك من صحاح الأخبار المتواترة عن الأئمة الأبرار.

وناهيكَ بها حجة علي رجحان هذه المآتم، وإستحبابها شرعاً، فإنّ أقوال أئمة الهدي من أهل البيت عليهم السلام وأفعالهم، وتقريرهم، حجة بالغة؛ لوجوب عصمتهم بحكم العقل والنقل، كما هو مقرر في مظانه من كتب المتكلّمين من أصحابنا، والتفصيل في كتابنا: سبيل المؤمنين.

علي أنّ الاقتداء بهم في هذه المآتم وغيرها لا يتوقف- عند الخصم- علي عصمتهم، بل يكفينا فيه ما اتفقت عليه الكلمة من إمامتهم في الفتوي وأنّهم في أنفسهم لا يقصرون عن الفقهاء الأربعة، والثوري، والأوزاعي، وأضرابهم، علماً ولا عملًا.

وأنت تعلم أنّ هذه المآتم لو ثبتت عن أبي حنيفة أو صاحبيه أبي يوسف والشيباني مثلًا، لاستبق الخصمُ إليها وعكف أيام حياته عليها، فلِمَ ينكرها علينا

ويندّد بها بعد ثبوتها عن أئمة أهل البيت، يا منصفون؟!

__________________________________________________

(1) كامل الزيارات: 215 ح 3 باب 36، الأمالي للصدوق، المجلس الثامن والعشرون: 200، ح 8.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 86

أتراه يري في أئمة الثقلين أمراً يقتضي الإعراض عنهم، أو يجد فيهم شيئاً يستوجب الإنكار علي الآخذين بمذهبهم؟ أو إنّ هناك أدلّة خاصّة، تقصر الإمامة في الفتوي علي أئمة خصومنا ولا تبيح الرجوع إلي غيرهم؟ كلّاً، إنّ واقع الأمر وحقيقة الحال بالعكس.

هذا حديث الثقلين المجمع علي صحته واستفاضته، قد أنزل العترة من منزلة الكتاب، وجعلها قدوة لأولي الألباب، فراجعه: في باب فضائل علي (عليه السّلام) من صحيح مسلم، أو في الجمع بين الصحيحين، أو الجمع بين الصحاح الستة، أو في حديث أبي سعيد الخدري من مسند أحمد بن حنبل، أو خصائص علي (عليه السّلام) للإمام النسائي، أو في تفسيري الثعلبي والبيهقي، وفي حلية الحافظ الأصفهاني، أو كتب الحاكم والطبراني وغيرها من كتب الحديث، وأنا أورده لك بلفظ الترمذي «1» بحذف الإسناد قال: «قال رسول اللَّه (صلّي __________________________________________________

(1) قال ابن حجر- بعد نقله عن الترمذي- في أثناء تفسيره للآية الثانية من الآيات التي أوردها في الفصل الأوّل من الباب الحادي عشر من صواعقه ما هذا لفظه:

ثم اعلم أنّ لحديث التمسك بذلك طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابياً (قال، ومر له طرق مبسوطة في حادي عشر الشبه، وفي بعض تلك الطرق أنه قال ذلك في حجة الوداع بعرفة، وفي اخري إنّه قاله بالمدينة في مرضه وقد امتلأت الحجرة بأصحابه، وفي أخري إنّه قال ذلك في غدير خم، وفي أخري إنّه قاله لما قام خطيباً- بعد انصرافه من الطائف- (قال) ولا تنافي، إذ لا مانع من

أنّه كرّر عليهم ذلك في تلك المواطن إهتماماً بشأن الكتاب العزيز، والعترة الطاهرة [أنظر: الصواعق المحرقة: 152] (المؤلف).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 87

اللَّه عليه وآله وسلّم) «1»:

«إني تارك فيكم ما إنْ تمسكتم به لن تضلوا بعدي، (الثقلين) أحدهما أعظم من الآخر، كتاب اللَّه عزّوجلّ حبل ممدود من السمآء إلي الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتي يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما؟

وقد زاد الطبراني:

فلا تقدّموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم» «2».

قلت: لا يخفي أنّ تعليق عدم الضلال علي التمسك بهما، يقتضي بحكم المفهوم ثبوت الضلال لمَن تخلّي عن أحدهما، وناهيك به في وجوب اتّباع العترة، والإنقطاع في الدين إليها وإلي القرآن العزيز.

علي أنّ اقترانهم بالكتاب- وهو معصوم- وجعلهم في وجوب __________________________________________________

(1) أنظر: الترمذي في سننه 5/ 329 ح 3876، أحمد في مسنده 3/ 14 و 5/ 182، ط بيروت دار صادر، والبيهقي في سننه الكبري ج/ 18، ط دار الفكر، والهيثمي في مجمع الزوائد، ج/ 163، ط دار الكتب العلمية، والمصنّف لابن أبي شيبة 7/ 176 ج 5.

(2) المعجم الكبير للطبراني 3/ 66 ح 2681، ط القاهرة.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 88

التمسك بهم مثله، دليل قاطع علي حجية أقوالهم، وأفعالهم، وأنّ الرجوع في الدين إلي خلافهم ليس إلّاكترك القرآن والرجوع إلي كتاب يخالف أحكامه، ولا تنس دلالة قوله (صلّي اللَّه عليه وآله): (ولن يفترقا)، علي عدم خلو الزمان ممّن يفرغ منهم عن القرآن والقرآن يفرغ عنه «1».

ثم إنّ قوله: «فلا تقدّموهم فتهلكوا ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم» نص صريح فيما قلناه كما لا يخفي.

وكم لهذا الحديث من نظير في الدلالة علي وجوب الاقتدآء بالعترة الطاهرة،

والمنع من مخالفتها،

نستلفت الباحثين إلي ما أخرجناه من ذلك في مبحث العصمة من (سبيل المؤمنين)، وحسبك منه ما أخرجه الحاكم بسند صحّحه علي شرط البخاري ومسلم «2»: «عن رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله) قال من __________________________________________________

(1) ومثله: قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «في كلّ خلف من أمتي عدول من أهل بيتي، ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ألا وإنّ أئمتكم وفدكم إلي اللَّه عزّوجلّ، فانظروا مَن توفدون» أخرجه الملا، كما في تفسير الآية الرابعة من الآيات التي أوردها ابن حجر في الفصل الأول من الباب الحادي عشر من صواعقه. وفي هذا المعني صحاح متواترة من طريق العترة الطاهرة، بل هو من ضروريات مذهبهم عليهم السلام. (المؤلف).

(2) كما في تفسير الآية السابعة من الآيات التي أوردها ابن حجر في الفصل الأول من الباب الحادي عشر من صواعقه، ونقله حاكماً بصحته أيضاً في باب الأمان ببقائهم من أواخر الصواعق.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 89

جملة حديث:

«وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب- في بعض أحكام الدين- اختلفوا- في فتاويهم- فصاروا حزب إبليس» «1».

أليس هذا نصّاً في وجوب اتّباعهم، وحرمة مخالفتهم؟ وهل في لغة العرب أو غيرها عبارة أبلغ منه في إنذار مخالفيهم؟

وأخرج أحمد بن حنبل وغيره «2» بالإسناد إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله قال:

«النجوم أمان لأهل السماء، فإذا ذهبت ذهبوا، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض» «3».

وفي رواية:

«فإذا هلك أهل بيتي جاء أهل الأرض من الآيات ما كانوا يوعدون» «4».

__________________________________________________

(1) الحاكم في مستدركه 4/ 75، ط دار المعرفة 1406.

(2) كما نص عليه ابن حجر في باب الأمان ببقائهم من صواعقه.

(3) وأخرجه

الحاكم في المستدرك 2/ 448، والطبراني في المعجم الأوسط 5/ 237، ط دار الحرمين.

(4) السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام): للدكتور محمد بيومي مهران الأستاذ في جامعة أمّ القري: 45، ط السفير 1418.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 90

وفي هذا المعني صحاح متضافرة من طريق العترة الطاهرة، ومتي كانوا أماناً لأهل الأرض، فكيف يستبدل بهم، وأنّي يعدل عنهم؟؟؟

وجاء من طرق عديدة يقوّي بعضها بعضاً- كذا قال ابن حجر «1» - إنّه (صلّي اللَّه عليه وآله) قال:

«إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا» «2».

قال ابن حجر: وفي رواية مسلم: «ومَن تخلّف عنها غرق» «3».

(قال) وفي رواية: «هلك وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل مَن دخله غفر له» «4».

(قال) وفي رواية: «غفر له الذنوب».

ولا يخفي أنّ المراد من تمثيلهم بسفينة نوح، إنما هو إلزام الأمة باتّباع طريقتهم، والتمسك بالعروة الوثقي من ولايتهم، وليس المراد من __________________________________________________

(1) في تفسير الآية السابعة من الآيات التي أوردها في الفصل الأوّل من الباب الحادي عشر من صواعقه، وفي باب الأمان ببقائهم من أوآخر الصواعق أيضاً.

(2) مجمع الزوائد 9/ 168، والمعجم الصغير للطبراني 1/ 139، ط دار الكتب العلمية، وأيضاً في معجمه الصغير 2/ 22، وكنز العمال 12/ 98 ح 34169، و ح 34170.

(3) الحاكم في مستدركه 3/ 151، والهيثمي في مجمع الزوائد 9/ 168. والطبراني في الكبير 3/ 45 ح 2637.

(4) الطبراني في معجمه الصغير 2/ 22، والهيثمي في مجمع الزوائد 9/ 168، والقندوزي 1/ 93 ح 2 و ح 4.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 91

النجاة بذلك إلّارضوان اللَّه عزّوجلّ، والجنة، كما أنّ المراد (بغرق المتخلفين عنهم أو هلاكهم) إنما هو سخط اللَّه سبحانه والنار،

والمراد من تمثيلهم (بباب حطة) إنما هو بعث الأمة علي التواضع للَّه عزّوجلّ بالأقتداء بهم والاستسلام لأوامرهم ونواهيهم، وهذا كله ظاهر كما تري

قال ابن حجر- بعد إيراد هذه الأحاديث في تفسير الآية السابعة من الآيات التي أوردها في الفصل الأول من الباب الحادي عشر من الصواعق- ما هذا لفظه:

«ووجه تشبيههم بالسفينة- فيما مرّ- أنّ مَن أحبهم وعظّمهم شكراً لنعمة مشرّفهم (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) وأخذ بهدي علمآئهم نجا من ظلمة المخالفات، ومَن تخلّف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم، وهلك في مفاوز الطغيانَ … وبباب حطة (يعني ووجه تشبيههم بباب حطّة) إنّ اللَّه تعالي جعل دخول ذلك الباب الذي هو باب إريحاء أو بيت المقدس مع التواضع والاستغفار سبباً للمغفرة، وجعل لهذه الأمة مودة أهل البيت سبباً لها»، إلي آخر كلامه.

ولو أردنا إستيفاء ماجاء من صحاح السّنة في وجوب اتّباع أئمة أهل البيت، والإنقطاع في الدين إليهم عن العالمين؛ لطال المقام وخرجنا عن موضوع هذه المقدمة. وحاصله:

إنّ مآتمنا بما فيها من الجلوس بعنوان الحزن علي مصائب سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 92

أهل البيت، والإنفاق عنهم في وجوه البر، وتلاوة رثائهم ومناقبهم، والبكاء رحمة لهم، سيرة قطعية قد استمرّت عليها أئمة الهدي من أهل البيت، وأمروا بها أوليآءهم علي مر الليالي والأيام، فورثناها منهم، وثابرنا عليها، عملًا بما هو المأثور عنهم، فكيف- والحال هذه- تنكرونها علينا، وتقولون فيها ما تقولون؟، واللَّه يعلم أنّها ليست كما تظنون.

دع بكاء الأنبياء والأوصياء، ودع عنك ما كان من ملائكة السماء، وقل لي: هل جهلت نوح الجن في طبقاتها؟ ورثاء الطير في وكناتها؟ و بكاء الوحش في فلواتها؟ ورسيس حيتان البحر في غمراتها؟ وهل نسيت الشمس وكسوفها، والنجوم

وخسوفها، والأرض وزلزالها، وتلك الفجائع وأهوالها؟ أم هل ذهلت عن الأحجار ودمائها، والأشجار وبكائها، والآفاق وغبرتها، والسماء وحمرتها، وقارورة أم سلمة وحصياتها «1» وتلك الساعة وآياتها؟!

__________________________________________________

(1) أشرنا بهذا إلي ما رواه الملّا في سيرته وابن أحمد في زيادة المسند، كما في الصواعق عن أم سلمة، قالت من حديث: «ثم ناولني كفاً من تراب أحمر وقال: إنّ هذا من تربة الأرض التي يقتل بها (ولدي) فمتي صار دماً فاعلمي أنّه قد قتل، قالت: فوضعته في قارورة، وكنت أقول: إنّ يوماً يتحوّل فيه دماً ليوم عظيم» وفي رواية أخري كما في الصواعق أيضاً- «أنّ جبرائيل جآء بحصيات فجعلهن النبي (صلّي اللَّه عليه وآله) في قارورة، قالت أم سلمة: فلما كانت ليلة قتل الحسين سمعت قائلًا يقول:

أيها القاتلون جهلًا حسيناً إبشروا بالعذاب والتنكيل قد لُعنتم علي لسان ابن داود وموسي وصاحب الإنجيل قالت: فبكيت وفتحت القارورة فإذا الحصيات قد جرت دماً».

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 93

ألم يرو الملّا عن أم سلمة- كما في الصواعق «1» وغيرها-: أنها قالت: «سمعت نوح الجن علي الحسين؟» «2».

وروي ابن سعد- كما في الصواعق أيضاً-: «إنها بكت حينئذ حتي غُشي عليها».

وأخرج أبو نعيم الحافظ في الدلائل عنها- كما نقله السيوطي «3» - قالت: «سمعت الجن تبكي علي الحسين وتنوح عليه».

وأخرج ثعلب في أماليه- كما في تاريخ الخلفاء أيضاً-، عن أبي خباب الكلبي قال: أتيت كربلاء، فقلت لرجل من أشراف العرب:

«أخبرني بما بلغني أنكم تسمعونه من نوح الجن» فقال: «ما تلقي أحداً إلّا أخبرك أنّه سمع ذلك»، قال: «فأخبرني بما سمعت أنت» قال: سمعتهم __________________________________________________

(1) كلّما ننقله هنا عن الصواعق موجود في أثناء كلامه في الحديث الثلاثين من الأحاديث التي أوردها في الفصل الثالث

من الباب الحادي عشر. (المؤلف).

(2) أنظر: تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي 2/ 218، قم وابن أعثم الكوفي في فتوحه 5/ 122، وابن شهراشوب في مناقبه 4/ 70، في آياته بعد وفاته، والطبراني في معجمه الكبير 3/ 122 رقم 2869.

(3) في أحوال يزيد، من كتابه تاريخ الخلفاء: 166، (المؤلف).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 94

يقولون:

مسحَ الرسولُ جبينه فله بريقٌ في الخدودِ

أبواه من عليا قريش وجدّه خيرُ الجدودِ «1»

وأخرج أبو نعيم الحافظ- في كتابه دلائل النبوة-، عن نصرة الأزدية قالت: «لما قتل الحسين بن علي أمطرت السماء دماً، فأصبحنا وحبابنا وجرارنا مملوءة دماً».

قال ابن حجر- بعد إيراده في الصواعق-: «وكذا روي في أحاديث غير هذه (قال) ومما ظهر يوم قتله من الآيات أيضاً: إنّ السماء اسودّت اسوداداً عظيماً حتي رؤيت النجوم نهاراً» (قال): «ولم يرفع حجر إلّا وجد تحته دم عبيط» «2».

وأخرج أبو الشيخ- كما في الصواعق أيضاً-: «إنّ السماء احمّرت لقتله (عليه السّلام) وانكسفت الشمس حتي بدت الكواكب نصف النهار وظن الناس أنّ القيامة قد قامت» «3».

قال: «ولم يرفع حجر في الشام إلّارؤي تحته دم عبيط» «4».

__________________________________________________

(1) تاريخ الخلفاء: 166.

(2) الصواعق المحرقة: الفصل الثالث: 194 باب 11.

(3) أنساب الأشراف، للبلاذري 3/ 209 رقم 211، وابن عساكر: 301، 362، ترجمة الإمام الحسين (عليه السلام).

(4) الطبقات الكبري: 90- 91 ح 323- 325، ترجمة الإمام الحسين (عليه السلام).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 95

وأخرج عثمان بن أبي شيبة- كما في الصواعق وغيرها-: «إن الشمس مكثت بعد قتله (عليه السّلام) سبعة أيام تري علي الحيطان كأنّها ملاحف معصفرة من شدّة حمرتها وضربت الكواكب بعضها بعضاً» «1».

قال في الصواعق: ونقل ابن الجوزي عن ابن سيرين: «إنّ الدنيا اظلمّت ثلاثة أيام ثم ظهرت هذه

الحمرة في السماء» «2».

قال: وقال ابن سعيد: «ما رفع حجر من الدنيا إلّاوتحته دم عبيط ولقد مطرت السماء دَماً بقي. أثره في الثياب حتي تقطّعت» «3».

قال: وأخرج الثعلبي: «إنّ السماء بكت وبكاؤها حمرتها» «4».

وقال غيره: «احمرّت آفاق السماء ستة أشهر بعد قتله، ثم لا زالت الحمرة تري بعد ذلك».

وإنّ ابن سيرين قال: «أخبرنا أنّ الحمرة التي مع الشفق لم تكن قبل قتل الحسين (عليه السّلام)» «5».

__________________________________________________

(1) أنظر أيضاً: تذكرة الخواص 2/ 232.

(2) تذكرة الخواص 2/ 231.

(3) ابن سعد في طبقاته: 90 ح 321، ترجمة الإمام الحسين، والصواعق: الفصل 3 باب 11 ص 194، وبغية الطلب في تاريخ حلب 6/ 263.

(4) الثعلبي في تفسير الآية 29 من سورة الدخان.

(5) ابن سعد في طبقاته: 91 ح 326، والصواعق: فصل 3 باب 11 ص 194.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 96

قال: «وذكر ابن سعد: إنّ هذه الحمرة لم تر في السمآء قبل قتله».

إلي آخر ما هو مذكور في كتب السنة، مما يدلّك علي انقلاب الكون بمقتله عليه السّلام وأنّه قد بكته السماء، وصخور الأرض دماً.

ولو فرضنا الخصم جاهلًا بما في تلك الكتب مما سمعت بعضه، فهل يجهل ما قام به ابن نباته خطيباً علي أعواده وتركه سنة الخطباء المسلمين في الجمعة الثانية من المحرم في كلّ سنة؟ وإليك ما اشتملت عليه تلك الخطبة بعين لفظه:

«بكت لموته الأرض والسموات، وأمطرت دماً، واظلمّت الأفلاكُ من الكسوف، واشتد سواد السماء ودام ذلك ثلاثة أيام، والكواكب في أفلاكها تتهافت، وعظمت الأهوال حتّي ظن أنّ القيامة قد قامت». قال:

«كيف لا؟ وهو ابن السيدة فاطمة الزهراء، وسبط سيد الخلائق دنياً وآخرة، وكان عليه الصلاة والسلام مِن حبّه في الحسين يقبّل شفتيه «1»، ويحمله كثيراً علي كتفيه،

فكيف لو رآه ملقي علي جنبيه، شديد العطش والمآء بين يديه، وأطفاله يصيحون بالبكاء عليه؟ لصاح عليه الصلاة والسلام وخرّ مغشياً عليه». قال: «فتأسفوا رحمكم اللَّه علي هذا السبط السعيد الشهيد، وتسلّوا بما أصابه عمّا سلف لكم من موت الأحرار

__________________________________________________

(1) الاختصاص للشيخ المفيد: 207، ومدينة المعاجز: 3/ 300، ط مؤسّسة المعارف.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 97

والعبيد، واتقوا اللَّه حق تقواه» قال: وفي الحديث: «إذا حُشِر الناس في عرصات القيامة، نادي منادٍ من وراء حجب العرش: يا أهل الموقف:

غضّوا أبصاركم حتي تجوز فاطمة بنت محمّد، فتجوز وعليها ثوب مخضوب بدم الحسين، وتتعلق بساق العرش وتقول:

«أنت الجبار العدل، إقض بيني وبين من قتل ابني، فيقضي اللَّه بينها وبينه». ثم تقول: «اللهم شفّعني فيمَن بكي علي مصيبتي» «1». فيشفّعها اللَّه تعالي فيهم» إلي آخر كلامه.

فهل- بعد هذا كلّه- تقول: إن البكاء علي مصائب أهل البيت بِدعة؟! وهب أنّك لا ترجو شفاعة الزهراء، ولا تبكي لبكاء الأنبياء والأوصياء، فابكِ لبكاء الشمس والقمر، ولا يكن قلبك أقسي من الحجر، إبك لبكاء عمر بن سعد، أو عمرو بن الحجاج، والأخنس بن زيد، ويزيد بن معاوية، أو خولي، والسالب لحليّ فاطمة بنت الحسين! إبكِ لبكاء العسكر بأجمعه، فقد شهدتْ كتب السير ببكائهم، مع خبث امهاتهم وآبائهم، أيحسن منك- وأنت مسلم- أن يصاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله بهذه الفجائع، وتحلّ بساحته تلك القوارع، ثم تتخذها ظهرياً، وتكون عندك نسياً منسياً ما هذا شأن أهل الوفاء، ولا بهذا تكون المواساة لسيد الأنبياء!

__________________________________________________

(1) نور العين في مشهد الحسين، لأبي إسحاق الاسفراييني: 83، ط المنار تونس، الأمالي للشيخ المفيد: 130، المجلس 15.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 98

ثم إنّ ذلك الإنقلاب الهائل وتلك الأحوال المدهشة- من

الخسوف والكسوف ورجفة الأرض، وظلمة الأفق، وتهافت النجوم، وحمرة السماء، وبكاء الصخر الأصم دماً «1» - لم تكن إلّاإظهاراً لغضب اللَّه عزّوجلّ، وتنبيهاً علي فظاعة الخطب، وتسجيلًا لتلك النازلة في صفحات الأفق، لئلّا تنسي علي مرَّ اللّيالي والأيام، وفيها مَن بعث الناس علي استشعار الحزن، وادّثار الكآبة ما لا يخفي علي أُولي الألباب.

__________________________________________________

(1)

وخير مرجعٍ نرجع إليه في هذا المجال ذلك الكتاب القيّم (كامل الزيارات)؛ لمؤلّفه الثقة الثبت أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه المتوفي 368.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 101

فصل: فلسفة مآتمنا المختصّة بأهل البيت عليهم السّلام … ص: 101

علم الباحثون من مدققي الفلاسفة: أنّ في مآتمنا المختصّة بأهل البيت عليهم السلام أسراراً شريفة «1» تعود علي الأمة بصلاح آخرتها

__________________________________________________

(1) نبهك إلي بعضها، حكيم الغربيين، وفيلسوف المستشرقين: الدكتور (جوزف) الفرنسي في كتابه: (الإسلام والمسلمون)، والمسيو (ماربين) الألماني في كتابه (السياسة الإسلامية)، وقد ترجمت جريدة (حبل المتين) الفارسية في 82 من أعدادها الصادرة في سنة 17 فصلين، من ذينك الكتابين النفيسين يحتويان علي أسرار شهادة الحسين، وفلسفة مآتمه (عليه السّلام)، فكان لهما دوي في العالم الإسلامي وأخذا في الشرق دوراً مهماً، وترجما بالتركية، والهندية، وعرّبهما سيدنا الشريف العلامة الباحث السيد صدر الدين الموسوي نجل الإمام الكبير حجة الإسلام وآية اللَّه في الأنام، قدوتنا المولي السيد إسماعيل الصدر أبقاه اللَّه، فنشرت مجلة العلم أحد الفصلين، ومجلة العرفان نشرت الآخر، وإليك ما ذكره الدكتور (جوزف) تحت عنوان الشيعة وترقياتها المحيرة للعقول- قال من جملة كلام له طويل: لم تكن هذه الفرقة (يعني الشيعة) ظاهرة في القرون الأولي الإسلامية كأختها، ويمكن أن تنسب قلتهم إلي سببين/ أحدهما/ إن الرياسة والحكومة التي هي سبب إزدياد تابعي المذهب سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 102

----------------

__________________________________________________

كانت بيد الفرقة الأخري والسبب الآخر

هو القتل والغارات التي كانت تتوالي عليهم، ونظراً لحفظ نفوس الشيعة حكم أحد أئمتهم في أوائل القرن الثاني عليهم بالتقية، فزادت في قوتهم لعدم تمكن العدو القوي الشكيمة من قتلهم، والإغارة عليهم، بعد أن لم يكونوا ظاهرين، وصاروا يعقدون المجالس سرّاً ويبكون علي مصائب الحسين، واستحكمت هذه العاطفه في قلوبهم علي وجه لم يمض زمان قليل إلّاوارتقوا، حتي صار منهم الخلفاء والسلاطين والوزراء، وهؤلاء بين مَن أخفي مذهبه وتشيعه، وبين مَن أظهره، و بعد أمير تيمور حيث رجعت السلطنة في إيران إلي الصفوية، صارت إيران مركز فرقة الشيعة، وبمقتضي تخمين بعض سوّاح فرنسا: إنّ الشيعة فعلًا: سدس المسلمين أو سبعهم، ونظراً إلي هذا الترقي الذي حازته فرقة الشيعة في زمان قليل، من دون جبر وإكراه، يمكن ان يقال: إنهم سيفوقون سائر فرق الإسلام بعد قرن، أو قرنين، والسبب في ذلك هو إقامة عزاء الحسين الذي قد جعله كلّ واحد منهم داعياً إلي مذهبه، ولا يوجد اليوم مكان فيه الواحد أو الإثنان من الشيعة إلّاويقيمان فيه عزاء الحسين، ويبذلان في هذا السبيل الأموال الكثيرة، فقد رأيت في نزل (مارسل) شيعياً عربياً من أهالي البحرين يقيم مأتم الحسين وهو منفرد، ويرقي المنبر ويقرأ في كتاب ويبكي، ثم يقسم ما أحضر من الطعام علي الفقراء. هذه الطائفة تبذل الأموال في هذا السبيل علي وجهين:

فبعضهم يبذلها من خالص أمواله في كلّ سنة بقدر استطاعته، وصرفيات هذا القسم تزيد علي ملايين فرنك. وبعضهم يعين أوقافاً لهذا المشروع لخصوص هذه الطائفة وهذا القسم أضعاف الأول. ويمكن أنّ يقال: إن جميع فرق الإسلام من حيث المجموع لا يبذلون في سبيل تأييد

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 103

__________________________________________________

مذهبهم بمقدار ما تبذله هذه الفرقة في

سبيل ترقيات مذهبها، وموقوفات هذه الفرقة ضعفا أوقاف سائر المسلمين، أو ثلاثة أضعافها، كلّ واحد من هذه الفرقة هو في الحقيقة داع إلي مذهبه من حيث يخفي علي سائر المسلمين، بل أن الشيعة أنفسهم لا يدركون هذه الفائدة المترتبة علي عملهم، وليس في نظرهم إلا الثواب الاخروي، ولكن حيث أن كلّ عمل في هذا العالم، لابد وأن يكون له أثر طبيعي في العالم الإجتماعي، قصده الفاعل أو لم يقصده، لم تحرم هذه الفرقة فوائد هذا العمل الطبيعية في هذا العالم، ومن المعلوم أنّ مذهباً دعاته خمسون أو ستون مليوناً، لابدّ وأن يرتقي أربابه علي وجه التدريج إلي ما يليق بشأنهم، حتي أنّ الرؤساء الروحانيين من هذه الفرقة وسلاطينها ووزرائها، لم يخرجوا عن صفة كونهم دعاة، وسعي الفقراء والضعفاء في محافظة إقامة عزاء الحسين من حيث انتفاعهم من هذا الباب أكثر من الآعيان والآكابر، لأنّهم يرون في ذلك خير الدنيا والآخرة، لهذا تري جماعة كثيرين من عقلاء هذه الفرقة قد تركوا سائر أشغالهم المعاشية، وتفرّغوا لهذا العمل وهم يكابدون المشاق في تحرّي العبارات الرائقة، والجمل الواضحة، عند إلقاء فضائل رؤساء دينهم ومصائب أهل البيت، علي المنابر في المجالس العمومية، ولأجل هذه المشقات التي اختارتها هذه الجماعة فاق خطباء هذه الفرقة علي خطباء جميع فرق المسلمين، وحيث إنّ تكرار الأمر الواحد يوجب اشمئزاز القلوب ومللها وعدم التأثير تسعي هذه الجماعة في ذكر تمام المسائل الإسلامية الراجعة إلي مذهبهم بهذا العنوان علي المنابر، حتي آل الأمر إلي عوام الشيعة بفضل هؤلاء الخطباء أن أصبحوا أعرف بمسائل مذهبهم من معرفة كلّ فرقة من فرق المسلمين بمذهبها، كما أنّ اكتساب الشيعة واحترافهم بهذه الوسيلة وسائر الوسائل الراجعة إليها أيضاً أكثر

من سائر

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 104

__________________________________________________

المسلمين، ولو نظرنا اليوم في أقطار العالم، نري أنّ الأفراد التي هي أولي بالمعرفة والعلم والصنعة والثروة إنما توجد بين الشيعة، والدعوة التي قام بها الشيعة أولي بالمعرفة والعلم والصنعة، والثروة إنما توجد بين الشيعة، والدعوة التي قام بها الشيعة إلي مذهبهم أو سائر الفرق الإسلامية غير محدودة، بل إنّ آحاد وأفراد الطائفة دعاة وما دخلوا بين أمّة إلّاوسري هذا الأثر في قلوبها، وليس العدد الذي نراه اليوم في الهند من الشيعة إلّاهو أثر إقامة هذه المآتم. الشيعة لم تؤيد دينها بقوة ولا سيف، حتي في زمن الصفوية، بل إنّهم بلغوا هذه الدرجة من الترقي المحير للعقول بقوة الكلام والدعوة التي أثرها أمضي من السيف. ولقد بلغ اهتمام هذه الفرقة في أداء مراسم مذهبها مبلغاً عظيماً حتي جعلت ثلثي المسلمين من أتباع سيرتها، بل اشترك معها كثير من الهنود والمجوس وسائر المذاهب، ومن المعلوم أنّ بعد مضي قرن ووصل هذه الأعمال بالأرث إلي أبناء أولئك الطوائف يذعنون بها، ويصدّقون هذا المذاهب، وبما أنّ فرقة الشيعة تعتقد بأنّ جميع المطالب والمقاصد موكول نجاحها إلي أكابر مذهبهم، وهم يفزعون إليهم في قضاء الحوائج، ويستمدون منهم عند الشدائد، سرت هذه الروح أيضاً إلي سائر الفرق التي اشتركت معهم في تلك الأعمال والأفعال، ومن المعلوم أنّ بمجرد قضاء حاجتهم وبلوغ آمالهم، تزداد عقيدتهم بهذا المذهب رسوخاً. من هذه القرائن والأسباب، يمكننا أن نقول: لا يمضي علي هذه الفرقة زمان قليل إلّاوتفوق سائر المسلمين من حيث العدد، وكانت هذه الفرقة قبل قرن أو قرنين، تلازم التقية فيما عدا إيران، نظراً لقلّتهم، وعدم قدرتهم علي إظهار شعائر مذهبهم، ولكن من يوم استولت الدول الغربية علي

الممالك الشرقية، ومنحت جميع المذاهب الحرية قامت هذه الفرقة تقيم شعائر مذهبها علناً في كلّ مكان، واستفادوا من هذه الحريّة فائدة تامة حتي أنّهم تركوا التقية.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 105

__________________________________________________

لهذه الأسباب المذكورة كانت هذه الفرقة أعرف من غيرها بمقتضيات العصر الحاضر، وأكثر سعياً باكتساب المعاش وتحصيل المعارف، لذلك تري العمال في هذه الفرقة أكثرمما تراه في سائر فرق المسلمين؛ لاشتغال الغالب منهم المستلزم لمتابعة غير الغالب، مضافاً إلي أنّ مثابرتهم علي العمل مما توجب إحتياج الغير إليهم، كما أنّ اختلاطهم مع سائر الفرق وصلاتهم الودادية مع غيرهم تلازم غالباً اشتراك الغير في مجالسهم ومحافلهم، فيسمعون أصول مذهبهم، ويصغون إلي كلماتهم وعباراتهم، وبتكرار ذلك يأنسون بطريقتهم ومذهبهم، وهذا هو عمل الدعاة. والأثر الذي يترتب علي هذه السيرة هو الأثر الذي يتطلّبه جميع ساسة الغرب في رقي دين المسيح مع تلك المصارف الباهضة. ومن جملة الأمور السياسية التي أظهرها أكابر فرقة الشيعة بصبغة مذهبية منذ قرون، وأوجبت جلب قلب البعيد والقريب هو: قاعدة التمثيل باسم الشبيه في مآتم الحسين، وقد قرر حكماء الهند التمثيل؛ لأغراض ليس هذا موضع ذكرها وجعلوه من أجزاء عباداتهم، فأخذته أورباو أخرجته بمقتضي السياسة بصورة التفرج، وصارت تمثل الأمور المهمة السياسية في دور التمثيل الخاصة والعامة، وجلبت القلوب بسببه وأصابت بسهم غرضين: تفريج النفوس، وجلب القلوب في الأمور السياسية، والشيعة قد استفادت من ذلك فوائد كاملة، وأظهرته بصبغة دينية. ويمكن القول: بأن الشيعة قد أخذت ذلك من الهنود، وكيف كان، فالأثر الذي ينبغي أن يعود من التمثيل إلي قلوب الخواص والعوام قد عاد، ومن المعلوم أنّ تواتر إقامة المآتم وذكر المصائب الواردة علي أكابر دينهم والمظالم التي وردت علي الحسين (عليه السّلام)

مع تلك الأخبار

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 106

__________________________________________________

الواردة في فضل البكاء علي مصائب آل محمّد (صلّي اللَّه عليه وآله) إذا انضمّت إلي تمثيل تلك المصائب تكون شديدة الأثر، وتوجب رسوخ عقائد خواص هذه الفرقة وعوامها فوق ما يتصور. وهذا هو السبب الذي لم يسمع من ابتداء ترقي مذهب الشيعة إلي الآن أن ترك بعضهم دين الإسلام أو دخل في سائر الفرق الإسلامية. هذه الفرقة تقيم التمثيل علي أقسام مختلفة، فتارة في مجالس خصوصية وأمكنة معينة، و حيث أنّ الفرق الأخري قلما تشترك معهم في المجالس، اخترعوا تمثيلًا خاصاً وصاروا يدورون به في الأزقة والطرقات وبين جميع الفرق، فتتأثر قلوب جميع الفرق من القريب والبعيد عين الأثر الذي يحصل من التمثيل، ولم يزل هذا العمل يزداد إليه توجه الأنظار من الخاص والعام حتي قلد الشيعة فيه بعض الفرق الإسلامية والهنود واشتركوا معهم في ذلك، وهو في الهند أكثر رواجاً من جميع الممالك الإسلامية، كما أنّ سائر فرق الإسلام هناك أكثر اشتراكاً مع الشيعة في هذا العمل من سائر البلاد، ويغلب علي الظن أنّ أصول التمثيل بين الشيعة قد تداول في زمن الصفوية الذين هم أوّل من نال السلطنة بقوة المذهب، و أجاز العلماء والرؤسآء الروحانيون هذه الأصول. ومن جملة الأمور التي أوجبت رقي هذه الفرقة وشهرتهم- في كلّ مكان- هو تعرفهم، بمعني أنّ هذه الطائفة قد جلبت إليها قلوب سائر الفرق من حيث الجاه والقوة، والشوكة والاعتبار بواسطة المجالس والمآتم والشبيه واللطم والدوران وحمل الرايات والألوية في عزاء الحسين. إنّ من المعلوم أنّ كلّ جمعية وجماعة تجلب إليها الأنظار والخواطر بدرجة ما، مثلًا لو كان في بلد عشرة آلاف متفرقين، وفي محلّ ألف نفس مجتمعة، كانت

شوكة الألف المجتمعين وابّهتهم في أنظار الخاصة والعامة أكثر من العشرة آلاف المتفرقين، مضافاً إلي أنّهم اجتمع ألف نفس انضم إليهم من غيرهم،

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 107

__________________________________________________

مثل عددهم، إما للتفرّج، أو لأجل صداقة ورفاقة، أو لأغراض اخري وبهذا الانضمام تزيد شوكة الألف وقوتهم في الأنظار وتتضاعف. ومن الأمور الطبيعية المؤيدة لفرقة الشيعة في تأثير قلوب سائر الفرق هو: إظهار مظلومية أكابر دينهم، وهذا التأثير من الأمور الفطرية؛ لأنّ كلّ أحد بالطبع يأخذ بيد المظلوم ويحب نصرة الضعيف والمظلوم علي القوي، والطبائع البشرية أميل إلي الضعيف والمظلوم ولو كان مبطلًا من الظالم وإن كان محقاً، ولا سيما إذا مرّت عليه السنون والأعوام، وهؤلاء مصنفوا أوروبا الذين ذكروا في كتبهم تفصيل مقاتلة الحسين وأصحابه وقتله مع أنّهم لا يعتقدون بهم يذعنون بالمظلومية لهم ويعترفون بظلم وتعدّي قاتليهم وعدم رحمتهم، ولا يذكرون أسماءهم إلّامشمئزين، وهذه الآمور الطبيعية لا يقف أمامها شي ء، وهذا السرّ من المؤيدات الطبيعية لفرقة الشيعة. وقال (المسيومار بين) حكيم الألمان وفيلسوف المستشرقين ما هذا نصّ تعريبه: إنّ عدم معرفة بعض مؤرخينا بحقيقة الحال، أوجب أن ينسبوا في كتبهم طريقة إقامة الشيعة لعزاء الحسين إلي الجنون! ولكن جهلوا مقدار تغيير هذه المسألة وتبديلها في الإسلام، فإنّا لم نر في سائر الأقوام ما نراه في شيعة الحسين مِن الحسيات السياسية والثورات المذهبية بسبب إقامة عزاء الحسين، وكلّ من أمعن النظر في رقي شيعة علي الذين جعلوا إقامة عزاء الحسين شعارهم في مدة مائة سنة، يذعن أنّهم فازوا بأعظم الرقي، فإنّه لم يكن قبل مائة سنة من شيعة علي والحسين في الهند إلّاما يعد بالأصابع، واليوم هم في الدرجة الثالثة من حيث الجمعية إذا قيسوا بغيرهم،

وكذلك هم في سائر نقاط الأرض، وإذا قسنا دعاتنا مع تلك المصارف الباهضة والقوة الهائلة، والشيعة تري دعاتنا لم يحظوا بعشر ترقيات هذه الفرقة، وإن كان قسسنا يحزنون القلوب بذكر

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 108

__________________________________________________

مصائب المسيح، ولكن لا بذلك الشكل والأسلوب المتداول بين شيعة الحسين، ويغلب علي الظن أنّ سبب ذلك هو: إنّ مصائب الحسين أشد حزناً وأعظم تأثيراً من مصائب المسيح. فعلي مؤرخينا أن يعرفوا حقيقة رسوم الأغيار وعاداتهم ولا ينسبوها إلي الجنون، وإني أعتقد بأنّ بقاء القانون الإسلامي وظهور الديانة الإسلامية وترقي المسلمين هو مسبب عن قتل الحسين وحدوث تلك الوقائع المحزنة، وهكذا ما تراه اليوم بين المسلمين من حسن السياسة، وإباء الضيم، ما هو إلّابواسطة عزاء الحسين، وما دامت في المسلمين هذه الملكة والصفة لا يقبلون ذلّاً ولا يدخلون في أسر أحد. ينبغي لنا أن ندقق النظر في ما يذكر من النكات الدقيقة الحيوية في مجالس إقامة عزاء الحسين، ولقد حضرت دفعات في المجالس التي يذكر فيها عزاء الحسين في اسلامبول مع مترجم، وسمعتهم يقولون: - الحسين الذي كان إمامنا، ومقتدانا، ومَن تجب طاعته ومتابعته علينا، لم يتحمل الضيم، ولم يدخل في طاعة يزيد، وجاد بنفسه، وعياله، وأولاده، وأمواله في سبيل حفظ شرفه وعلو حسبه ومقامه، وفاز في قبال ذلك بحسن الذكر والصيت في الدنيا، والشفاعة يوم القيامة، والقرب من اللَّه، وأعداؤه قد خسروا الدنيا والآخرة … فرأيت بعد ذلك وعلمت أنّهم في الحقيقة يدرس بعضهم بعضاً علناً بأنّكم إن كنتم شيعة الحسين، وأصحاب شرف، إنْ كنتم تطلبون السيادة والفخر، فلا تدخلوا في طاعة أمثال يزيد، ولا تتحملوا الذل، بل اختاروا الموت بعزة علي الحياة بذلة حتي تفوزوا بحسن الذكر في الدنيا

والآخرة، وتحظوا بالفلاح. من المعلوم حال الأمة التي تلقي عليها أمثال هذه التعاليم من المهد إلي اللّحد، في أي درجة تكون في الملكات العظيمة، والسجايا العالية، نعم هكذا أمة تحوي كلّ نوع من أنواع السعادة والشرف، ويكون جميع أفرادها جنداً مدافعين عن عزّهم وشرفهم، هذا هو التمدن الحقيقي اليوم، هذا هو طريق تعليم الحقوق، هذا هو معني تدريس أصول السياسة. (المؤلف).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 109

ودنياها، أنبّهك إليها بذكر بعضها واوكِل الباقي إلي فطنتك:

فمنها: إنّها جامعة إسلامية، ورابطة إمامية، باسم النبي وآله صلوات اللَّه عليهم أجمعين، ينبعث عنها الاعتصام بحبل اللَّه عزّوجلّ، والتمسك بثقلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، وفيها من اجتماع القلوب علي أداء أجر الرسالة بمودة القربي وترادف العزائم علي إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام ما ليس في غيرها.

وحسبك في رجحانها ما يتسني بها للحكيم من إلقاء المواعظ والنصائح، وإيقاف المجتمعين علي الشؤون الإسلامية، والأمور الإمامية ولو إجمالًا، وبذلك يكون أمل العاملي، نفس أمل إخوانه في العراق وفارس والبحرين والهند وغيرها من بلاد الإسلام.

ولا تنس ما يتهيأ للمجتمعين فيها من الإطلاع علي شؤونهم، والبحث عن شؤون إخوانهم النائين عنهم، وما يتيسر لهم حينئذ من تبادل الآراء فيما يعود عليهم بالنفع، ويجعلهم كالبنيان المرصوص، يشدّ بعضه بعضاً، أو كالجسد الواحد، إذا اشتكي منه عضواً أنَّت له سائر

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 110

الأعضاء، وبذلك يكونون مستقيمين في السير علي خطةٍ واحدة يسعون فيها وراء كلّ ما يرمون إليه.

ومنها: إنّ هذه المآتم دعوة إلي الدين بأحسن صورة وألطف أسلوب، بل هي أعلا صرخة للإسلام توقظ الغافل من سباته، وتنبّه الجاهل من سكراته، بما تشربه في قلوب المجتمعين، وتنفثه في آذان المستمعين، وتبثّه في

العالم وتصوره قالباً لجميع بني آدم، من أعلام الرسالة، وآيات الإسلام، وأدلة الدين، وحجج المسلمين، والسيرة النبوية، والخصائص العلوية، ومصائب أهل البيت في سبيل اللَّه، وصبرهم علي الأذي في إعلاء كلمة اللَّه.

فأولوا النظر والتحقيق، يعلمون أنّ خطباء هذه المآتم كلّهم دعاة إلي الدين من حيثُ لم يقصدوا ذلك، بل لا مبشّر بالإسلام علي التحقيق سواهم. وأنت تعلم: أنّ الموظفين لهذا العمل الشريف لا يقصرون في أنحاء البسيطة عن الألوف المؤلّفة، فلو بذلَ المسلمون شطر أموالهم ليوظّفوا دعاةً إلي دينهم بعدد أولئك الخطباء، ما تيسر ذلك لهم، ولو تيسّر فلا يتيسر مَن يستمع الدعوة علي ممر الدهور استماع الناس لما يتلي في هذه المآتم بكلّ رغبة وإقبال.

ومنها: ما قد أثبته العيان وشهد به الحس والوجدان، من بث روح المعارف بسبب هذه المآتم، ونشر أطراف من العلوم ببركتها، إذ هي سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 111

- بشرط كونها علي أصولها- أرقي مدرسة للعوام، يستضيئون فيها بأنوار الحكم من جوامع الكلم، ويلتقطون منها درر السير، ويقفون بها علي أنواع العبر، ويتلقّون فيها من الحديث والتفسير والفقه ما يلزمهم حمله ولا يسعهم جهله، بل هي المدرسة الوحيدة للعوام في جميع بلاد الإسلام.

وقد تفنن خطباؤها في ما يصدعون به أولًا علي أعوادها، ثم يتخلصون منه إلي ذكر المصيبة وتلاوة الفاجعة.

فمنهم: مَن يشنف المسامع، ويشرّف الجوامع بالحكم النبوية، والمواعظ العلوية، أو يتلوا أوّلًا من كلام أئمة أهل البيت ما يقرّب المستمعين إلي اللَّه ويأخذ بأعناقهم إلي تقواه.

ومنهم: مَن يتلو أوّلًا من سيرة النبي صلّي اللَّه عليه وآله وتاريخ أوصيائه عليهم السلام ما يبعث المستمعين علي مودّتهم ويضطرهم إلي بذل الجهد في طاعتهم.

ومنهم: مَن ينبّه الأفكار أوّلًا إلي فضل رسول اللَّه صلّي

اللَّه عليه وآله ومقام أوصيائه عليهم السلام بما يسرده من الأحاديث الصحيحة والآيات المحكمة الصريحة.

ومنهم: مَن يتلو أوّلًا من الأحكام الشرعية والعقائد الدينية ما تعم به البلوي للمكلّفين ولا مندوحة عن معرفته لأحد من العالمين.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 112

هذه سيرتهم المستمرة أيّام حياتهم، فهل تري بجدك- للعوام مدرسة تقوم مقامها في جسيم فوائدها وعظيم قاصدها؟؟ لا وسرّ الحكماء الذين بعثوا شيعتهم عليها، وحكمة الأوصياء الذين أرشدوا أوليائهم إليها.

ومنها: الارتقاء في الخطابة، والعروج إلي منتهي البراعة، كما يشهد به الوجدان، ولا نحتاج فيه إلي برهان.

ومنها: العزاء عن كلِّ مصيبة، والسلوة لكلّ فادحة، إذ تهون الفجائع بذكر فجائعهم، وتنسي القوارع بتلاوة قوارعهم، كما قيل في رثائهم (عليهم السلام):

أنستْ رزيّتكم رزايانا التي سلفت وهوّنت الرزايا الآتية

ومنها: إنعاش أهل الفاقة، وإثلاج أكباد حرّا من أهل المسكنة علي الدوام، بما ينفق في هذه المآتم من الأموال في سبيل اللَّه عزّوجلّ، وما يُبذل فيها لأهل المسغبة وغيرهم، وأنت تعلم أنّه لا وسيلة لقرّاء تلك المآتم في التعيش غالباً إلّاهذه الوظيفة، وهم من الرجال والنساء- بقطع النظر عمّن يقومون بنفقته- ألوف مؤلّفة يعيشون ببركة أهل البيت ويتنعمون بيمن مآتمهم (عليهم السلام).

ومنها: إنّ المصلحة التي استشهد الحسين- بأبي وأمّي- في سبيلها وسُفك دمه الزكي تلقاءها، تستوجب استمرار هذه المآتم، وتقتضي سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 113

دوامها إلي يوم القيامة.

وبيان ذلك: إن المنافقين حيث دفعوا أهل البيت عن مقامهم، وأزالوهم عن مراتبهم التي رتبهم اللَّه فيها، ظهروا للناس بمظاهر النيابة عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، وأظهروا التأييد لدينه، والخدمة لشريعته، فوقع الالتباس، واغترَّ بهم أكثر الناس، ولما ملكوا من الأمة أزمّتها، واستسلمت لهم برمّتها، حرّموا- والناس في سِنةٍ عن سوء

مقاصدهم- من حلال اللَّه ماشاؤا، وحلّلوا من حرامه ما أرادوا، وعاثوا في الدين وحكموا فيه القاسطين، فسملوا أعين أولياء اللَّه، وقطعوا أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلبوهم علي جذوع النخل، ونفوهم عن عقر ديارهم، حتي تفرّقوا أيدي سبا، ولعنوا أميرالمؤمنين عليه السّلام وكنوا به عن أخيه الصادق الأمين (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم).

فلو دامت تلك الأحوال- وهم أولياء السلطة المطلقة والرئاسة الروحانية- لما أبقوا للإسلام عيناً ولا أثراً، لكن ثار الحسين عليه السّلام فادياً دين اللَّه عزّوجلّ بنفسه وأحبائه، حتي وردوا حياض المنايا ولسان حاله يقول:

إنْ كان دين محمّد لم يستقم إلّا بقتلي يا سيوف خذيني فاستنقذ الدين من أيدي الظالمين، وانكشف الغطاء بوقوع تلك الرزايا عن نفاق القوم، حتي تجلّت عداوتهم للَّه عزّوجلّ وظهر انتقامهم سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 114

من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، إذ لم يكتفوا بقتل الرجال من بنيه عطاشاً والماء تعبث فيه خنازير البرّ وكلابه، ولم يقنعوا بذبح الأطفال من أشباله أحياء، وقد غارت أعينهم من شدة العطش، ولا اكتفوا باستئصال العترة الطاهرة ونجوم الأرض من شيبة الحمد، حتي وطأواجثثهم بسنابك الخيل، وحملوا رؤسهم علي أطراف الأسنّة، وتركوا أشلائهم الموزعة عارية بالعراء مباحة لوحوش الأرض وطير السماء، ثم أبرزوا ودائع الرسالة وحرائر الوحي مسلّبات وطافوا البلاد بهن سبايا كأنهن من كوافر البربر، حتي أدخلوهن تارة علي ابن مرجانة، وأخري علي ابن آكلة الأكباد، أوقفوهنّ علي درج الجامع في دمشق حيث تباع جواري السبي، فلم تبقَ بعدها وقفة في عداوتهم للَّه، ولا ريبة بنفاقهم في دين الإسلام.

وعلم حينئذ أهل البحث والتنقيب من أُولي الألباب: أن هذه أمور دُبّرِتْ بليل، وأنّها عن عهد السلف بها إلي خلفه، وما كانت ارتجالًا

من يزيد.

«وما المسبب لو لم ينجح السبب».

ثم لم تزل أنوار هذه الحقيقة تتجلّي لكل مَن نظر نظراً فلسفياً في فجائع الطف، وخطوب أهل البيت، أو بحث بحث مدققٍ عن أساس تلك الضوارع وأسباب هاتيك الفظائع.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 115

وقد علم أهل التدقيق من أُولي البصائر: أنّه ما كان لهذا الفاجر أنْ يرتكب من أهل البيت ما ارتكب، لولا ما مهّده سلفه من هدم سورهم، وإطفاء نورهم، وحمله الناس علي رقابهم، وفعله الشنيع يوم بابهم.

وتاللَّه، لولا مابذله الحسين عليه السّلام في سبيل إحياء الدين من نفسه الزكية، ونفوس أحبائه بتلك الكيفية، لأمسي الإسلام خبراً من الأخبار السالفة «1»، وأضحي المسلمون أمة من الأمم التالفة، إذلو بقي __________________________________________________

(1) كما شهد به العظماء من فلاسفة الغرب، وإليك ما ذكره (المسيو ماريين) في كتابه (السياسة الإسلامية) بعين لفظ المعرب قال من جملة كلام طويل: لا يشكُّ صاحب الوجدان إذا دقق النظر في أوضاع ذلك العصر وكيفية نجاح بني أميّة في مقاصدهم واستيلائهم علي جميع طبقات الناس وتزلزل المسلمين، أنّ الحسين قد أحيا بقتله دين جدّه وقوانين الإسلام، وإن لم تقع تلك الواقعة ولم تظهر تلك الحسيات الصادقة بين المسلمين؛ لأجل قتل الحسين، لم يكن الإسلام علي ما هو عليه الآن قطعاً، بل كان من الممكن ضياع رسومه وقوانينه حيث كان يومئذٍ حديث العهد، عزم الحسين إنجاح هذا المقصود، وإعلان الثورة ضد بني أمية من يوم توفي والده، فلما قام يزيد مقام معاوية خرج الحسين من المدينة وكان يظهر مقصده العالي، ويبث روح الثورة في المراكز المهمة الإسلامية كمكة والعراق وأينما حلَّ، فازداد نفرة قلوب المسلمين التي هي مقدمة الثورة من بني أمية، ولم يكن يجهل يزيد مقاصد الحسين،

وكان يعلم أنّ الثورة إذا أُعلنت في جهة والحسين قائدها مع تنفر المسلمين عموماً من حكومة بني أميّة، وميل القلوب وتوجه الأنظار إلي الحسين عمت جميع البلاد وفي ذلك زوال ملكهم وسلطانهم، فعزم يزيد قبل كلّ شي ء من يوم بويع علي قتل الحسين، ولقد كان هذا العزم أعظم خطأ سياسي صدر من بني امية الذي جعلهم نسياً منسيّاً ولم يبقَ منهم أثر ولا خبر.

وأعظم الأدلّة علي أنّ الحسين أقدم علي قتل نفسه، ولم تكن في نظره سلطنة ولا رئاسة هو: إنّه مضافاً إلي ما كان عليه من العلم والسياسة والتجربة التي وقف عليها زمن أبيه وأخيه في قتال بني أميّة، كان يعلم أنّه مع عدم تهيئة الأسباب له واقتدار يزيد، لا يمكنه المقاومة والغلبة وكان يقول من يوم توفي والده إنّه يقتل، وأعلن يوم خروجه من المدينة أنّه يمضي إلي القتل، وأظهر ذلك لأصحابه والذين اتبعوه من باب إتمام الحجة حتي يتفرق الذين التفوا حوله طمعاً بالدنيا، وطالما كان يقول: (خيّر لي مصرع أنا ملاقيه). ولو لم يكن قصده ذلك ولم يكن عالماً عامداً لجمع الجنود ولسعي في تكثير أصحابه وزيادة استعداده، لا أن يفرق الذين كانوا معه، ولكن لما لم يكن له قصد إلّاالقتل مقدمة لذلك المقصد العالي، وإعلان الثورة المقدسة ضد يزيد، رأي أنّ خير الوسائل إلي ذلك الوحدة والمظلومية، فإن أثر هكذا مصائب أشد وأكثر في القلوب.

من الظاهر أنّ الحسين مع ما كانت له من المحبوبية في قلوب المسلمين في ذلك الزمان لو كان يطلب قوةً واستعداداً لأمكنه أن يخرج إلي حرب يزيد جيشاً جراراً، ولكنه لو صنع ذلك لكان قتله في سبيل طلب السلطنة والإمارة، ولم يفز بالمظلومية التي انتجت تلك

الثورة العظيمة، هذا هو الذي سبب أن لا يبقي معه أحداً إلّاالذين لايمكن انفكاكهم عنه، كأولاده، وإخوانه، وبني إخوته، وبني أعمامه وجماعة من خواص أصحابه، حتي أنّه أمر هؤلاء أيضاً بمفارقته، ولكنهم أبوا عليه ذلك، وهؤلاء أيضاً كانوا من المعروفين بين المسلمين بجلالة القدر وعظم المنزلة وقتلهم معه، مما يزيد في عظم المصيبة وأثر الوقعة، نعم! إنّ الحسين بمبلغ علمه وحسن سياسته بذل كمال جهده في إفشاء ظلم بني أمية وإظهار عداوتهم لبني هاشم وسلك في ذلك كلّ طريق، لما كان يعلم عداوة بني أمية له ولبني هاشم، ويعرف أنّهم بعد قتله يأسرون عياله وأطفاله، وذلك يؤيد مقصده ويكون له أثر عظيم في قلوب المسلمين، سيما العرب كما وقع ذلك، حملهم معه وجاء بهم من المدينة.

نعم، إنّ ظلم بني أمية وقساوة قلوبهم في معاملاتهم مع حرم محمّد وسباياه، أثّر في قلوب المسلمين تأثيراً عظيماً لا ينقص عن أثر قتله وأصحابه، ولقد أظهر في فعله هذا عقيدة بني أمية في الإسلام وسلوكهم مع المسلمين سيما ذراري نبيّهم، لهذا كان الحسين يقول في جواب أصحابه والذين كانوا يمنعونه عن هذا السفر: إني أمضي إلي القتل. ولما كانت أفكار المانعين محدودة وأنظارهم قاصرة لا يدركون مقاصد الحسين العالية، لم يألوا جهدهم في منعه، وآخر ما أجابهم به أنْ قال لهم: (شاء اللَّه ذلك، وجدي أمرني به)، فقالوا: إنْ كنت تمضي إلي القتل فما وجه حملك النسوة والأطفال فقال: (إن اللَّه شاء أن يراهن سبايا) ولما كان بينهم رئيساً روحانياً لم يكن لهم بدٌّ عن السكوت.

ومما يدلّ علي أنّه لم يكن له غرض إلّاذلك المقصد العالي الذي كان في نفسه ولم يتحمل تلك المصائب لسلطنة وإمارة، ولم يقدم علي

هذا الخطر من غير علم ودراية كما تصوره بعض المؤرخين منا، أنّه قال لبعض ذوي النباهة قبل الواقعة بأعوام كثيرة علي سبيل التسلية: إنّ بعد قتلي وظهور تلك المصائب المحزنة، يبعث اللَّه رجالًا يعرفون الحق من الباطل، يزورون قبورنا، ويبكون علي مصابنا، ويأخذون بثارنا من أعدائنا، أولئك جماعة ينشرون دين اللَّه وشريعة جدّي وأنا وجدي نحبّهم وهم يحشرون معنا يوم القيامة.

ولو تأمل المتأمل في كلام الحسين وحركاته، يري أنّه لم يترك طريقاً من السياسة إلّاسلكه في إظهار شنائع بني أمية وعداوتهم القلبية لبني هاشم ومظلومية نفسه، وهذا مما يدلّ علي حسن سياسته وقوة قلبه وتضحية نفسه في طريق الوصول إلي المقصد الذي كان في نظره، حتي أنّه في آخر ساعات حياته عمل عملًا حيّر عقول الفلاسفة ولم يصرف نظره عن ذلك المقصد العالي مع تلك المصائب المحزنة والهموم المتراكمة، وكثرة العطش والجراحات، وهو قصة الرضيع، لما كان يعلم أنّ بني أمية لا يرحمون له صغيراً رفع طفله الصغير تعظيماً للمصيبة علي يده أمام القوم وطلب منهم أنْ يأتوه شربةً من الماء فلم يجيبوه إلّابالسهم، ويغلب علي الظن أنّ غرض الحسين من هذا العمل تفهيم العالم بشدة عداوة بني أمية لبني هاشم، وأنّها إلي أي درجة بلغت، ولا يظن أحد أنّ يزيد كان مجبوراً علي تلك الإقدامات الفجيعة لأجل الدفاع عن نفسه؛ لأنّ قتل الطفل الرضيع في ذلك الحال بتلك الكيفية ليس هو إلّاتوحش وعداوة سبعية منافية لقواعد كلّ دين وشريعة. ويمكن أنْ تكون هذه الفاجعة كافية في افتضاح بني أمية، ورفع الستار عن قبائح أعمالهم ونياتهم الفاسدة بين العالم سيما المسلمين، وأنّهم يخالفون الإسلام في حركاتهم بل يسعون بعصبية جاهلية إلي اضمحلال آل محمّد وجعلهم

بالأيدي سبايا.

ونظراً لتلك المقاصد العالية التي كانت في نظر الحسين، مضافاً إلي وفور علمه وسياسته التي كان لا يشك فيها إثنان لم يرتكب امراً يوجب مجبورية بني أمية للدفاع حتي مع ذلك النفوذ والإقتدار الذي كان له في ذلك العصر، لم يسعَ في تسخير البلاد الإسلامية وضمّها إليه، ولا هاجم ولاية من ولايات يزيد، إلي أنْ حاصروه في وادٍ غير ذي زرع، قبل أن تبدو منه أقل حركة عدائية، أو تظهر منه ثورة ضد بني أمية.

لم يقل الحسين يوماً: سأكون ملكاً أو سلطاناً، وأصبح صاحب سلطة، نعم كان يبث روح الثورة في المسلمين بنشره شنائع بني أمية واضمحلال الدين إنْ دام ذلك الحال، وكان يخبر بقتله ومظلوميته وهو مسرور، ولما حوصر في تلك الأرض القفراء أظهر لهم من باب إتمام الحجة بأنّهم لو تركوه لرحل بعياله وأطفاله، وخرج من سلطة يزيد، ولقد كان لهذا الإظهار الدالّ علي سلامة نفس الحسين في قلوب المسلمين غاية التأثير.

قُتل قبل الحسين ظلماً وعدواناً كثير من الرؤساء الروحانيين، وأرباب الديانات وقامت الثورة بعد قتلهم بين تابعيهم ضد الأعداء، كما وقع مكرراً في بني إسرائيل وقصة يحيي من أعظم الحوادث التأريخية، ومعاملة اليهود مع المسيح لم ير نظيرها إلي ذلك العهد، ولكن واقعة الحسين فاقت الجميع.

لم يرشدنا التاريخ إلي أحد من الروحانيين وأرباب الديانات أنّه أقدم علي قتل نفسه عالماً عامداً لمقاصد عالية لا تنجح إلّابقتله، فإنّ كلّ واحد من أرباب الديانات الذين قتلوا، ثار عليهم أعداؤهم وقتلوهم ظلماً، وبمقدار مظلوميتهم قامت الثورة بعدهم ومقاصد الحسين كانت علي علم وحكمة وسياسة، وليس لها نظير في التاريخ، فإنّه لم يزل يوالي السعي في تهيئة أسباب قتله نظراً لذلك المقصد العالي، ولم نجد

في التاريخ رجلًا ضحّي حياته عالماً عامداً لترويج ديانته من بعده إلّاالحسين.

المصائب التي تحمّلها الحسين في طريق إحياء دين جدّه تفوق علي مصائب أرباب الديانات السابقين، ولم ترد علي أحد منهم، نعم: إنّ هناك رجالًا قتلوا في طريق إحياء الدين، ولكنهم لم يكونوا كالحسين، فإنه ضحّي نفسه العزيزة في طريق إحياء دين جدّه، وفداه بأولاده، وإخوانه، وأقربائه، وأحبابه، وأمواله، وعياله، ولم تقع هذه المصائب دفعة واحدة حتي تكون في حكم مصيبة واحدة، بل وقعت متتالية واحدة بعد أخري ويختص الحسين دون غيره بتواتر أمثال هذه المصائب، كما يشهد له التاريخ.

لم تنته المصائب التي وردت علي الحسين من قتله وقتل أصحابه، وتسيير نسائه وبناته إلّاوانكشف الغطاء عن سرائر بني أمية، وقبائح أعمالهم، وظهرت بين المسلمين الحسيات السياسية، وتوطدت أسباب الثورة ضد سلطنة يزيد وبني امية وعلم الجميع أنّ بني أمية مخربوا الإسلام، وصار الجميع يرفض بدعهم وتقولاتهم وعرفوا بالظلم والغصب بالعكس من بني هاشم، فإنهم عرّفوا بالمظلومية، وأنّ لهم الرئاسة الروحانية بالإستحقاق، وإليهم تنتمي الحقيقة الروحانية.

كأنّ المسلمين- بعد قتل الحسين- قد دخلوا في دور جديد، وظهرت الروحانية الإسلامية بأجلي مظاهرها، وتجددت بعد أنْ كانت مندرسةً غائبة عن أذهان المسلمين، وكما لا يشك إثنان في تفوّق مصائب الحسين علي جميع مصائب روحاني السلف، فكذلك لا يشك في الثورة التي حدثت بعده، بأنّها فاقت سائر الثورات السالفة، وإنّ امتدادها وأثرها أكثر، وإنْ بها ظهرت للعالم مظلومية آل محمّد.

فكانت أوّل نتيجة هذه الثورة اختصاص الرئاسة الروحانية التي لها أهمية عظمي في عالم السياسة ببني هاشم وخصوصاً في أولاد الحسين، فكان منهم أئمة الشيعة. وإلي حال التاريخ ينظر عموم المسلمين إلي بني هاشم سيما أولاد الحسين نظرهم إلي الروحانيين،

ولم يطل العهد حتي نزعت تلك السلطنة من بني أمية وزالت السلطة والقدرة من آل يزيد في أقل من قرن، واندرست آثارهم علي وجه لم يبق منهم عين ولا أثر، وأينما ذكرت أسماؤهم في متون الكتب قرنها المسلمون بكلمة الشماتة، وكلّ ذلك نتيجة سياسة الحسين الذي يمكن أن يقال: إنّه لم يأت في أرباب الديانات والروحانيين رجل عرف عواقب الأمور مع بعد نظر وحسن سياسة كالحسين، والتاريخ لم يرشدنا.

قبل أن تصل سبايا الحسين إلي الشام قامت الثورة ضد يزيد، وظهرت بمظلومية الحسين سرائر بني أمية، وكشفت الغطاء عن نياتهم، وتوجه اللوم علي يزيد حتي من أهل داره وحرمه، وصار يزيد يسمع تقديس الحسين وأولاد علي وعظمتهم ومظلوميتهم، بعد أن لم يكن يمكن ذكرهم عنده بخير، وكان يصعب عليه ذلك إلّاأنّه لم يكن له بدّ غير السكوت، ولما أراد تبرأة نفسه من تلك الأعمال، ألقي المسؤولية علي عمّاله، ولم يزل يسمع محامد الحسين، قال ذات يوم: إنّ سلطنة الحسين كانت أهون عليَّ من هذا المقام العالي الذي فاز به آل علي (عليه السّلام) وبنو هاشم …

وبالأخير، فشيعة الحسين لم يزالوا يستفيدون من هذه الثورات، وتزيد قوة بني هاشم وعظمتهم حتي لم يمض أقل من قرن إلّاوصارت السلطنة الإسلامية الوسيعة في بني هاشم من دون مزاحم، وأبادوا بني أمية علي وجه لم يبق منهم اسم ولا رسم، غير أفراد تسلّموا زمام السلطنة في الأندلس إلي كم قرن، ولم يبق فعلًا من تلك العظمة التي سيطرت علي المسلمين قروناً عديدة أثر ولم يوجد من أؤلئك شخص، ولو تحت ستر الخفاء، ولو وجد فلا يمكنه إظهار نسبه نظراً لشناعة ذلك، ولما انتهت السلطنة بعد قرن إلي بني هاشم كانت

في أولاد عم الحسين دون أولاده، لأنّهم اعتزلوا الناس وأذعن الجميع لهم بالرئاسة الروحانية، نعم: نال أولاد عم الحسين هذه السلطة، وتوفقوا بسبب ثورات شيعة الحسين للقبض علي زمامها، ولكنهم بعد أن استلموا زمام الأمور وانقاد لهم الجمهور، صاروا في صدد منع تلك الثورات التي نالوا السلطة ببركتها خوفاً من رجوع السلطنة الإسلامية إلي أولاد الحسين وانتزاعها من أيديهم كما انتزعت من بني أمية، فقلّت تلك الثورات يوماً فيوماً لمنع هؤلاء أوّلًا، ولإضمحلال بني أمية ثانياً، فلما رأي عقلاء شيعة علي ذلك عرفوا أنّ تلك الثورات لا تقاوم سلطنة أولاد عمهم لزيادة اقتدارهم وتفرّق الآراء والأهواء العمومية، تركوها بحسب الظاهر ولكنهم في الحقيقة غيّروا شكلها، وأظهروها بصورة اخري أعني بالأجتماع وعقد الاجتماعات وذكر الوقائع المحزنة والمصائب المؤلمة التي وردت علي الحسين حفظاً لروح الثورة، وتمهيداً لأسباب النهضة، وصوناً لها عن الإضمحلال والإندراس. (المؤلف).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 122

المنافقون علي ما كانوا عليه من الظهور للعامة بالنيابة عن رسول اللَّه والنصح لدينه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وهم أولياء السلطة المطلقة والإرادة المقدسة، لغرسوا من شجرة النفاق ما أرادوا، وبثوا من روح الزندقة ما شائوا، وفعلوا بالدين ما توجبه عداوتهم له، وارتكبوا من الشريعة كلّ أمر يقتضيه نفاقهم.

وأمّا شيبة الحسين المخضوبة بدمه الطاهر، لولا ما تحمّله سلام اللَّه عليه في سبيل اللَّه ما قامت لأهل البيت عليهم السلام- وهم حجج اللَّه- قائمة، ولا عرفهم- وهم أولوا الأمر- ممّن تأخر عنهم أحد، لكنه- بأبي وأمي- فضح المنافقين، وأسقطهم من أنظار العالمين، واستلفت الأبصار بمصيبته إلي سائر مصائب أهل البيت، واضطر الناس بحلول هذه القارعة إلي البحث عن أساسها، وحملهم علي التنقيب عن أسبابها،

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص:

123

والفحص عن جذرها وبذرها، واستنهض الهمم إلي حفظ مقام أهل البيت عليهم السلام، وحرّك الحميّة علي الإنتصار لهم؛ لأنّ الطبيعة البشرية والجبلّة الإنسانية، تنتصر للمظلومين وتنتقم بجهدها من الظالمين، فاندفع المسلمون إلي موالات أهل البيت حتي كأنّهم قد دخلوا- بعد فاجعة الطف- في دور جديد، وظهرت الروحانيّة الإسلاميّة بأجلي مظاهرها، وسطع نور أهل البيت بعد أن كان محجوباً بسحائب ظلم الظالمين، وانتبه الناس إلي نصوص الكتاب والسنّة فيهم عليهم السلام، فهدي اللَّه بها مَن هدي لدينه، وضلَّ عنها مَن عمي عن سبيله.

وكان الحسين- بأبي وأمي- علي يقين من ترتب هذه الآثار الشريفة علي قتله، وانتهاب رحله، وذبح أطفاله، وسبي عياله، بل لم يجد طريقاً لإرشاد الخلق إلي الأئمة بالحق، واستنقاذ الدّين من أئمة المنافقين- الذين خفي مكرهم، وعلا في نفوس العامة أمرهم- إلّا الاستسلام لتلك الرزايا والصبر علي هاتيك البلايا، وما قصد كربلاء إلّا لتحمل ذلك البلاء، عهد معهود عن أخيه عن أبيه عن جدّه عن اللَّه عزّوجلّ.

ويرشدك إلي ذلك- مضافاً إلي أخبارنا المتواترة من طريق العترة الطاهرة- دلائل أقواله وقرائن أفعاله، فإنّها نص فيما قلناه، وحسبك منها

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 124

جوابه لأمّ سلمة إذ قالت له- كما في البحار وجلاء العيون وغيرهما-: «يا بنيّ لا تحزن بخروجك إلي العراق، فإني سمعتُ جدّك صلّي اللَّه عليه وآله يقول: «يُقتل ولدي الحسين بأرض يقال لها كربلاء» فقال لها:

«يا امّاه، وأنا واللَّه أعلم ذلك وأنّي مقتول لا محالة وليس لي منه بدّ، وقد شاء اللَّه أن يراني مقتولًا ويري حرمي مشردين وأطفالي مذبوحين» «1».

وجوابه لأخيه عمر، إذ قال له حين امتنع من البيعة ليزيد: «حدّثني أخوك أبو محمّد عن أبيه» ثم بكي حتي علا شهيقه فضمّه

الحسين إليه وقال- كما في الملهوف وغيره-: «حدّثك أنّي مقتول» قال: «حوشيت يا ابن رسول اللَّه»، فقال: «بحق أبيك بقتلي خبّرك؟» قال: «نعم، فلو بايعت» فقال عليه السّلام:

«حدثني أبي أنّ رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) أخبره بقتله وقتلي وأنّ تربتي تكون بقرب تربته، أتظن أنّك علمت ما لم أعلم؟» «2».

والرؤيا التي رآها في مسجد جدّه صلّي اللَّه عليه وآله حين ذهب ليودّعه، وقول النبي له فيها كما في أمالي الصدوق وغيره:

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار 44/ 331، والعوالم: 17، وينابيع المودّة للقندوزي: 405.

(2) اللهوف: 20، ط قم.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 125

«بأبي أنت، كأني أراك مرمّلًا بدمك بين عصابة من هذه الأمة ما لهم عنداللَّه من خلاق» «1».

وكتابه إلي بني هاشم لمّا فصل من المدينة، وقوله فيه- كما في الملهوف نقلًا عن رسائل ثقة الإسلام-:

«أمّا بعد، فإنّ من لحق بي منكم استشهد ومَن تخلّف لم يبلغ الفتح» «2».

وخطبته ليلة خروجه من مكة، وقوله فيها- كما في الملهوف وغيره-:

«كأنّي بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء».

إلي أن قال:

«ومَن كان باذلًا فينا مهجته موطّناً علي لقاء اللَّه نفسه، فليرحل معنا فإنّي راحل مصبحاً إن شاء اللَّه تعالي «3».

وقوله- كما في الملهوف وغيره-:

«لولا تقارب الأشياء وهبوط الأجل، لقاتلتهم بهؤلاء، ولكني أعلم يقيناً أن هناك مصرعي ومصرع أصحابي، لا ينجو منهم إلّا

__________________________________________________

(1) الأمالي للصدوق: 217، المجلس الثلاثون ح 1.

(2) اللهوف: 41.

(3) المصدر: 126.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 126

ولدي علي» «1».

وجوابه لأخيه محمّد بن الحنفية، إذ قال له- كما في الملهوف وغيره-: «يا أخي ألم تعدني النظر فيما سألتك؟» قال:

«بلي، ولكن أتاني رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله) بعد ما فارقتك فقال: يا حسين أُخرج، فإن اللَّه قد شاء

أن يراك قتيلا».

فقال ابن الحنفية: «إنّا للَّه وانا إليه راجعون، فما معني حملك هذه النسوة وأنت تخرج علي مثل هذه الحال؟» فقال له:

«قال لي: إنّ اللَّه شاء أن يراهن سباياً» «2».

وجوابه لابن عباس وابن الزبير إذ أشارا عليه بالإمساك. فقال لهما:

- كما في الملهوف وغيره-:

«إنّ رسول اللَّه أمرني بأمرٍ وأنا ماضٍ فيه».

«فخرج ابن عباس وهو يقول: «واحسيناه» «3».

وجوابه لعبداللَّه بن جعفر ويحيي بن سعيد إذ حاولا منه الرجوع فأبي وقال لهما- كما في تاريخي ابن جرير وابن الأثير وغيرهما-:

«رأيت رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله) في المنام وأمرني بما أنا

__________________________________________________

(1) اللهوف: 126.

(2) المصدر: 128.

(3) المصدر: 22.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 127

ماض له» «1».

وقوله- في كلام له مع ابن الزبير، كما في تاريخي ابن جرير وابن الأثير وغيرهما-:

«وأيم اللَّه لو كنتُ في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتي يقضوا فيَّ حاجتهم، وواللَّه ليعتدن كما اعتدت اليهود في السبت» «2».

وقوله في مقام آخر- كما في كامل ابن الأثير وغيره-:

«واللَّه لا يدعونني حتي يستخرجوا هذه العَلَقة من جوفي، فإذا فعلوا ذلك سلّط اللَّه عليهم مَن يذلّهم حتي يكونوا أذل من فرام المرأة (يعني من خرقة الحيض) «3».

وقوله لأبي هرة- كما في تاريخ ابن جرير وغيره-:

«وأيم اللَّه لتقتلني الفئةُ الباغية» «4».

ورؤياه التي رآها لما ارتحل من قصر بني مقاتل- كما في تاريخ الطبري وغيره- فقال حين انتبه: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون الحمد للَّه ربّ __________________________________________________

(1) الكامل في التاريخ 3/ 402، حوادث سنة 60.

(2) تاريخ الطبري 4/ 289، حواث سنة 60، والطبراني في معجمه الكبير 3/ 98، ح 2783.

(3) الكامل في التاريخ 3/ 401، حوادث سنة 60.

(4) مثير الأحزان لابن نما الحلي: 33، والبحار 44/ 368، اللهوف: 43.

سلسلة

النقد والتحقيق، ج 2، ص: 128

العالمين- مرّتين أو ثلاثاً- قال: فأقبل عليه «1» ابنه علي فقال: «يا أبتاه جُعلت فداك مما حمدتَ اللَّه واسترجعت»؟ فقال: «يا بني، خفقت برأسي فعنَّ لي فارس فقال: القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم، فعلمت أنّها أنفسنا نعيت إلينا» فقال: «يا أبت لا أراك اللَّه سوءاً، ألسنا علي الحق؟» قال: «بلي والذي إليه مرجع العباد» قال: «إذاً لا نبالي، نموت محقّين».

فقال له: «جزاك اللَّه من ولد خير ما جزي ولداً عن والده» «2».

وقوله لما أُخبر بقتل قيس بن مسهر الصيداوي- كما في تاريخ الطبري وغيره-:

«فمنهم من قضي نحبه ومنهم مَن ينتظر وما بدّلوا تبديلًا» «3».

إلي غير ذلك من أقواله الصريحة بأنه كان علي يقين مما انتهت إليه حاله، وأنّه ما خرج إلّاليبذل في سبيل اللَّه نفسه وجميع ما ملكته يده، ويضحي في إحياء دين اللَّه أولاده وإخوته، وأبناء أخيه، وبني عمومته وخاصة أوليائه، والعقائل الطاهرات من نسائه.

إذ لم يرالسبط للدين الحنيف شفاً إلّا إذا دمه في نصره سفكا

وما سمعنا عليلًا لا علاج له إلّا بنفس مداويه إذا هلكا

__________________________________________________

(1) في المصدر: (إليه).

(2) تاريخ الطبري 4/ 308، حوادث سنة 61 ومقتل أبي مخنف: 92، ط قم.

(3) المصدر 4/ 306، حوادث سنة 61.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 129

بقتله فاح للإسلام طيب هديً فكلّما ذكرته المسلمون ذكا

وصانَ ستر الهدي عن كلِّ خائنة ستر الفواطم يوم الطف إذ هُتِكا

نفسي الفداء لفاد شرع والده بنفسه وبأهليه وما ملكا

قد آثر الدين أنْ يحيي فقحمها حيث استقام القنا الخطبي واشتبكا «1»

علي أن الأمر الذي انتهت إليه حاله كان من الوضوح بمثابة لم تخف علي أحد، وقد نهاه عن ذلك الوجه- جهلًا بمقاصده السامية- كثير من الناس وأشفقوا عليه وأنذروه بلؤم

بني أمية وغدر أهل العراق:

فقال له أخوه محمّد بن الحنفية- كما في الملهوف وغيره-: «يا أخي، إنّ أهل الكوفة من قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفتُ أن يكون حالك كحال مَن مضي، فإنْ رأيت أنْ تقيم فإنّك أعزّ مَن في الحرم وأمنعه، فإنْ خفت فسر «2» إلي اليمن أو بعض نواحي البرّ، فإنّك أمنع الناس به ولا يقدر عليك».

فردّه الحسين- عليه السّلام- برأفة ورفق، وقال: «انظر فيما قلت» «3».

__________________________________________________

(1) هذه الأبيات من قصيدة للشريف الفاضل السيد جعفر الحلّي يرثي بها جدّه عليه السّلام. (المؤلف).

(2) في المصدر: (فصر).

(3) اللهوف: 128، ط قم.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 130

وأتاه ابن عباس فقال: «يا ابن عم، قد أرجف الناس أنك سائر إلي العراق، فبيّن لي ما أنت صانع؟» قال: «إني قد أجمعت السير في أحد يوميَّ هذين إنْ شاء اللَّه تعالي ، فقال له ابن عباس- كما في تاريخي الطبري وابن الأثير وغيرها-: «أعيذك باللَّه من ذلك، أتسير إلي قوم قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم؟ فإنْ كانوا فعلوا ذلك فسر إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم، وعماله تجبي بلادهم، فإنّما دعوك إلي الحرب والقتال، ولا آمن عليك أنْ يغروك، ويكذِّبوك ويخالفوك ويخذلوك، وإن يستنفروا إليك، فيكونوا أشدّ الناس عليك».

فردّه الحسين عليه السّلام ردّ رحمة وحنان فقال له: «أستخير اللَّه وأنظر ما يكون» «1».

فخرج ابن عباس.

ثم جاءه مرةً أخري فقال له- كما في تاريخي الطبري وابن الأثير وغيرهما-: «يا ابن عم، إنّي أتصبَّر ولا أصبر، إني أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك والإستئصال، إنّ أهل العراق قوم غدر فلا تقربّنهم، أقم بهذا البلد فإنّك سيد أهل الحجاز، فإن كان أهل العراق يريدونك كما

__________________________________________________

(1) مقتل أبي

مخنف: 64، الكامل في التاريخ 3/ 399، ذكر مسير الحسين إلي الكوفة.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 131

زعموا، فاكتب إليهم فلينفوا (عاملهم) «1» وعدوّهم ثم اقدم عليهم، فإنْ أبيت إلّاأن تخرج، فسر إلي اليمن فإنّ بها حصوناً وشعاباً، ولأبيك بها شيعة، فتكتب إلي الناس وتبثّ دعاتك، فإني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحب في عافية».

فقال له الحسين عليه السّلام: «يا ابن عم، إني لأعلم واللَّه أنّك ناصح مشفق، ولكن قد أزمعت وأجمعت علي المسير» «2».

ودخل عليه عمر بن عبدالرحمن المخزومي فقال له- كما في تاريخي الطبري وابن الأثير وغيرهما-: «إني مشفق عليك، إنك تأتي بلداً فيه عمّاله وأمراؤه، ومعهم بيوت الأموال، وإنما الناس عبيد الدينار والدرهم، فلا آمن عليك أنْ يقاتلك مَن وعدك نصره».

فقال له الحسين عليه السّلام:

«جزاك اللَّه خيراً يا ابن عم، فقد علمتُ أنك مشيتَ بنصح، وتكلّمت بعقل، ومهما يقض من أمرٍ يكن» «3».

وكتب إليه عبداللَّه بن جعفر بعد خروجه من مكة- كما في تاريخي الطبري وابن الأثير وغيرهما-: «أما بعد، فإني أسألك باللَّه لما

__________________________________________________

(1) بين القوسين من المصدر.

(2) الكامل في التاريخ 3/ 401، حواث سنة 60.

(3) المصدر 3/ 399.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 132

انصرفت حين تقرأ كتابي هذا، فإنّي مشفق عليكَ من هذا الوجه أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، وإنْ هلكتَ اليوم طُفِي ءَ نور الأرض، فإنك علم المهتدين ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالسير فإني في إثر كتابي. والسلام» «1».

وقام عبداللَّه بن جعفر إلي عمرو بن سعيد- وهو عامل يزيد يومئذ بمكة- فقال له: «اكتب للحسين كتاباً تجعل له الأمان فيه، وتمنّيه فيه البر والصلة واسأله الرجوع». ففعل عمرو ذلك وأرسل الكتاب مع أخيه يحيي بن سعيد وعبداللَّه بن جعفر، فلحقاه وقرأ

عليه الكتاب، وجهدا أن يرجع، فلم يفعل «2». وقال له عبداللَّه بن مطيع- إذ اجتمع به في الطريق علي بعض مياه العرب- كما في تاريخ الطبري وغيره-: - أذكرك اللَّه يا ابن رسول اللَّه وحرمة الإسلام أن تنهتك، أنشدك اللَّه في حرمة رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله)، أنشدك اللَّه في حرمة العرب، فواللَّه لأن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك، ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحداً أبداً «3» واللَّه إنها

__________________________________________________

(1) الكامل في التاريخ: 402، وتاريخ الطبري 4/ 291.

(2) المصدر 3/ 402.

(3) وكان كما قال فدونك التراجم والمعاجم واطلب تفصيل ما جري من الوقائع في أيام يزيد بن معاوية القصيرة، والفضائع التي ارتكبها بعد فاجعة الطف والتي سوّد بها تاريخ المسلمين، بل تاريخ الإنسان العام. (الميلاني).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 133

لحرمة الإسلام تنهتك، وحرمة قريش، وحرمة العرب، فلا تفعل ولا تأت الكوفة ولا تعرض لبني أمية».

قالوا: فأبي إلّاأن يمضي «1». إنجازاً لمقاصده السامية.

ولقيه أحد بني عكرمة ببطن العقبة- كما في تاريخ الطبري وغيره- فقال له: «أنشدك اللَّه لما انصرفت، فواللَّه لا تقدم إلّاعلي الأسنة وحدّ السيوف، فإنّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤنة القتال ووطؤا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأياً، فأما علي هذه الحال فإني لا أري لك أن تفعل» فقال له:

«يا عبداللَّه، إنّه ليس يخفي عليّ، الرأي ما رأيت، ولكن اللَّه لا يغلب علي أمره» «2».

ولقيه بعض بني تميم قريباً من القادسية- كما في تاريخ الطبري وغيره-: فقال له: «إرجع فإني لم أدع لك خيراً أرجوه» «3».

وكان قد لقيه الفرزدق بن غالب الشاعر في الصّفاح- كما في تاريخ __________________________________________________

(1) تاريخ الطبري 4/ 298.

(2) تاريخ الطبري 4/ 301.

(3) المصدر 2/ 304.

سلسلة

النقد والتحقيق، ج 2، ص: 134

الطبري وغيره- فقال له: «قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أمية» «1».

وما التقي في الطريق بأحد إلّاالتمسه علي الرجوع إشفاقاً عليه من لؤم بني أمية وغدر أهل العراق، وما كان ليخفي عليه ما ظهر لأغلب الناس، لكنه وهؤلاء كما قيل: - أنت بوادٍ والعذول بوادي.

ما نزل- بأبي وأمي- منزلًا ولا ارتحل منه- كما في الإرشاد وغيره- إلّا ذكر يحيي بن زكريا وقتله.

وقال يوماً:

«من هوان الدنيا علي اللَّه إنّ رأس يحيي بن زكريا أُهدي إلي بغي من بغايا بني إسرائيل» «2».

فهل تراه أراد بهذا غير الإشارة إلي أن سبيله في هذا الوجه إنما هو سبيل يحيي عليهما السلام؟

وأخبره الأسديان وهو نازل في الثعلبية- كما في تاريخ الطبري «3» وغيره- بقتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة، وأنهما يجرّان بأرجلهما في الأسواق بلا نكير.

فهل يُمكن بعد هذا أن يبقي له أمل بنصرة أهل الكوفة، أو طمع في __________________________________________________

(1) تاريخ الطبري 4/ 290.

(2) مثير الأحزان، لابن نما الحلي: 29، ط الحيدرية النجف 1950 م.

(3) تاريخ الطبري 4/ 285.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 135

شي ء من خيرهم؟؟. واللَّه ما جاءهم إلّايائساً منهم عالماً بكلّ ما كان منهم عليه.

وقد كتب وهو نازل بزبالة كتاباً قُرِأ بأمره علي الناس وفيه:

«بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم: أما بعد، فإنه قد أتانا خبر فظيع: قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبداللَّه بن يقطر، وقد خذلتنا شيعتنا، فمَن أحبَّ منكم الإنصراف فلينصرف ليس عليه منا ذمام» «1».

قال محمّد بن جرير الطبري- في تاريخ الأمم والملوك-: «فتفرق الناس عنه تفرّقاً، فأخذوا يميناً وشمالًا حتي بقي في أصحابه الذين جاؤا معه من المدينة» قال: «وإنّما فعل ذلك لأنّه ظنّ إنّما اتبعه الأعراب؛ لأنهم ظنوا

أنّه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله، فكره أن يسيروا معه إلّا وهم يعلمون علي ما يقدمون» قال: «وقد علم أنهم إذا بيّن لهم لم يصحبه إلّا من يريد مواساته والموت معه» «2».

وذكر أهل الأخبار: أنّ الطرماح بن عدي لما اجتمع به في عذيب الهجانات دنا منه فقال له- كما في تاريخ الطبري وغيره-: «واللَّه إني لأنظر فما أري معك أحداً، ولو لم يقاتلك إلّاهؤلاء الذين أراهم __________________________________________________

(1) تاريخ الطبري 4/ 300.

(2) المصدر.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 136

ملازميك- يعني الحر «1» وأصحابه- لكان كفي بهم. وقد رأيت قبل خروجي من الكوفة إليك بيوم ظهر الكوفة وفيه من الناس ما لم تر عيناي في صعيد واحد جمعاً أكثر منه فسألت عنهم فقيل: اجتمعوا ليعرضوا ثم يسرحوا إلي حرب الحسين، فأنشدك اللَّه إنْ قدرت أن لا تقدم عليهم شبراً إلّافعلت، فإن أردت أن تنزل بلداً يمنعك اللَّه به حتي تري من رأيك ويستبين لك ما أنت صانع، فسر حتي أنزلك مناع جبلنا الذي يدعي «أجاء» امتنعنا- واللَّه- به من ملوك غسان وحمير ومن النعمان بن المنذر، ومن الأسود والأحمر، واللَّه ما دخل علينا فيه ذل قط، فأسير معك حتي أنزلك القرية، ثم نبعث إلي الرجال ممن ب «أجاء» و «سلمي» من طي ء، فواللَّه لا يأتي عليك عشرة أيام حتي تأتيك طي ء رجالًا وركباناً، ثم أقم فينا ما بدا لك، فإن هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم، واللَّه لا يوصل إليك أبداً ومنهم عين تطرف».

فقال له: «جزاك اللَّه وقومك خيراً» «2»

. وأبي أن ينصرف عن مقصده.

__________________________________________________

(1) أنظر: هامش ص 62 تجد ما يعجبك من الحر رحمه اللَّه ولا يخلو من دقة وإناقة. (الميلاني).

(2)

مقتل الحسين، لأبي مخنف: 89.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 137

وأنت تعلم أنّه لو كان له رغبة في غلبة أو ميل إلي سلطان، لكان لكلام الطرماح وقع في نفسه عليه السّلام ولظهر منه الميل إلي ما عرضه عليه، لكنه- بأبي وأمي- أبي إلّاالفوز بالشهادة، والموت في إحياء دين الإسلام، وقد صرّح بذلك فيما تمثل به إذ قال له الحر: «أذكرك اللَّه في نفسك فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ». فقال (عليه السّلام) كما في تاريخ الطبري وغيره:

سأمضي وما بالموت عار علي الفتي إذا ما نوي حقاً وجاهد مسلماً

وواسي الرجال الصالحين بنفسه وفارق مثبوراً وخالف مجرماً «1»

وحسبك في إثبات علمه من أول الأمر بما انتهت إليه حاله: ما سمعته من إخبار النبي صلّي اللَّه عليه وآله بقتله في شاطي ء الفرات بموضع يقال له كربلاء، وبكائه عليه، ونداء أميرالمؤمنين عليه السّلام لما حاذي نينوي وهو منصرف إلي صفين:

«صبراً أبا عبداللَّه، صبراً أبا عبداللَّه بشاطي ء الفرات» «2».

__________________________________________________

(1) روضة الواعظين 179 ط قم بحار الانوار 44/ 379 مقتل أبي مخنف 87.

(2) تقدم تخريجه سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 138

وقوله إذ مرّ بكربلاء:

«هاهنا مناخ ركابهم، وهاهنا موضع رحالهم، وهاهنا مهراق دمائهم» «1».

وقول الحسين عليه السّلام لأخيه عمر:

«حدثني أبي أن رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله) أخبره بقتله وقتلي، وإن تربتي تكون بقرب تربته» «2».

وقول الحسن للحسين عليهما السلام كما في أمالي الصدوق وغيرهما من جملة كلام كان بينهما:

«ولكن لا يوم كيومك «3» يا أبا عبداللَّه يزدلف إليك ثلاثون الف رجل، فيجتمعون علي قتلك وسفك دمك وانتهاك حرمتك وسبي ذراريك ونسائك، وانتهاب ثقلك، فعندها يحل اللَّه ببني أمية اللعنة» «4».

__________________________________________________

(1) قرب الإسناد للحميري: 26 ح 87، والبحار 44/ 258 ح 8.

(2) مرَّ تخريجه.

(3)

هذا مما علمه اللَّه تعالي وقد أطلع أوليائه بعض ما خُفي علي عباده- من الغيب قاله عند وفاته، وكان كما قال- سلام اللَّه عليه- حيث لم يأت- بعد فاجعة يوم عاشوراء- يوم يشابه يوم الحسين- روحي فداه- وقد مضت علي تلك الرزية ثلاثة عشر قرناً، هذا وإنّ الأمور التي عدّها الحسن (عليه السّلام) لوقتها وحلَّ ما حلَّ علي مستحقيه، وما أعد اللَّه من العذاب والنكال أشد وأخزي. (الميلاني).

(4) الأمالي للصدوق: المجلس: 24 ح 3، المناقب لابن شهراشوب 4/ 86، ومثير الأحزان: 23، والبحار 45/ 218.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 139

إلي غير ذلك من الأخبار الدالة علي أنّ قتل الحسين عليه السّلام كان معروفاً عند أهل البيت منذ أخبر اللَّه به نبيه صلّي اللَّه عليه وآله.

بل صريح أخبارنا أنّ ذلك مما أوحي إلي الأنبياء السابقين، وقد سمعت ما أشرنا إليه من بكائهم عليهم السلام.

ويظهر من بعض الأخبار أنّ قتل الحسين كان معروفاً عند جملة من الصحابة والتابعين حتي أنّهم ليعلمون أنّ قاتله عمر بن سعد، وحسبك ما نقله ابن الأثير حيث ذكر مقتل عمر بن سعد في كامله عن عبداللَّه بن شريك قال: «أدرك أصحاب الأردية المعلّمة، وأصحاب البرانس السود من أصحاب السواري، إذا مرّبهم عمر بن سعد قالوا: هذا قاتل الحسين وذلك قبل أن يقتله». قال: «وقال ابن سيرين: «قال علي لعمر بن سعد:

«كيف أنت قمت مقاماً تخير فيه بين الجنة والنار، فتختار النار؟ «1»» «2».

__________________________________________________

(1) تمتاز الإمامية- الاثني عشرية- عن غيرهم من الشيعة والفرق الإسلامية الأخري باعترافهم- واعتقادهم- بأنّ للإمام عليه السّلام الولاية الكبري (كشعبة من الولاية المطلقة الإلهية) منحها الباري لهم إبقاءاً للنظام الديني والتشريعي والتكويني العام وتستلزم هذه معرفة الإمام عليه السّلام

بأسرار الكون ومشتملاته، ودقائق الأمور ومختفياتها وحقائق الأشياء وما أودع فيها ووقوفه بسريرة الأشخاص وسرائرهم، وما تحويه ضمائرهم وعرفانه بالمستقبل وما يجري فيه، وعلمه بما يكون إلّاما أخفاه اللَّه عنهم والذي خصه لذاته الربوبية جلّ شأنها، ولنا علي ما اخترناه- كليّه وجزئيّه، كبر أم صغر (كما يصطلحون)- أدلة عقلية مشفوعة بنصوص الكتاب والسنة سهلة التناول لروّادها.

فعليه لا مانع- عند المحصّلين وطلاب ما قدمناه- من علم الحسن أو أخيه الحسين وأبيهما أمير المؤمنين عليهم السلام بما جري عليهم أو غير ذلك، بل هو بالنسبة إلي ما لديهم- وما أحاطوا بعلمه بمشية اللَّه- ليس بشي ء، والذي خاطب به الإمام عليه السّلام عمر بن سعد من هذا القبيل، ولا غرابة.

وكم لعلي سلام اللَّه عليه من هذا النوع والإخبار عن الحوادث الكونية المرتبطة بالخلفاء والأمراء والذي يتعلق ببعض الفرق الإسلامية أو الامة والمجتمع والأفراد، ما أملاه الرواة، وأثبته المحدثون، والمؤرخون وملأ الموسوعات الضخمة!!

نعم هو كما قال عليه الصلاة والسلام: - لولا آية في كتاب اللَّه لأخبرتكم بما يكون إلي يوم القيامة وهو قوله تعالي «يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ». فمن كلامه عليه السّلام هذا وغيره من الأدلة، قالت الإمامية ب (البداء) وبه امتازت أيضاً عن غيرها. (الميلاني).

(2) كنز العمال 13/ 674 ح 37723، تاريخ مدينة دمشق 45/ 49، تهذيب الكمال للمزّي 21/ 359، رقم 4240.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 140

أتري الحسين (عليه السّلام) كان جاهلًا بما عليه أصحاب السواري؟ كلّا واللَّه، ما علم أصحاب البرانس السود ذلك إلّامنه، أو من أخيه، أو من جدّه، أو من أبيه.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 141

وقد أطلنا الكلام في هذا المقام، إذ لم نجد مَن وفاه حقه، وخرج من

عهدة التكليف بإيضاحه، والحمد للَّه علي التوفيق لتحرير هذه المسألة، وتقرير شواهدها وأدلتها، علي وجه تركن النفس إليه، ولا يجد المنصف بدّاً من البناء عليه، بل لا أظن أحداً يقف علي ما تلوناه ثم يرتاب فيما قررناه. والآن نشرع في الكتاب متوكلين علي اللَّه عزّوجلّ وقد جعلناه أربعة أجزاء.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 142

المحتويات … ص: 142

الكتاب القادم:

تفسير

سورتي الجمعة والتغابن للمرجع الكبير آية اللَّه العظمي السيّد محمّد هادي الحسيني الميلاني علّق عليه نجله العلامة الحجة

السيّد محمّد علي الحسيني الميلاني

تفسير سورتي الجمعة والتغابن المجلد 3

كلمة المركز … ص: 5

الحمد للَّه ربّ العالمين والصّلاة والسّلام علي محمّد وآله الطاهرين.

وبعد، فقد قرّر المركز تشكيل لجنةٍ تقوم- بإشراف وتوجيه من سيّدنا الفقيه المحقّق آية اللَّه السيد علي الميلاني- دام ظلّه- بنقد بعض البحوث المنتشرة من المعاصرين وتحقيق بعض الكتب التراثيّة الصغيرة في الحجم والكبيرة في الفائدة، في مختلف العلوم والمسائل الاسلاميّة، وإخراجها في سلسلة تحت عنوان (سلسلة النقد والتحقيق) خدمةً للعلم والدين، وإحقاقاً للحق المبين، وإحياءً لآثار العلماء المحقّقين، وتوفيراً للمصادر النافعة للباحثين، سائلين المولي الكريم المفضال أن يتقبّل منّا هذا العمل وسائر الأعمال.

مركز الحقائق الإسلامية

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 7

كلمة لجنة النقد والتحقيق … ص: 7

هذا هو العدد الثالث من (سلسلة النقد والتحقيق) ارتأينا نشره بمراجعة مصادره المعتمدة في المتن والهوامش، وتصحيحه وتنظيمه من جديد.

وإنما وقع اختيارنا علي هذا الكتاب لامور:

الأول: إنه تفسيرٌ للقرآن الكريم، فإنه وإنْ كان تفسيراً لسورتين فقط، لكنّه علي صغره في الحجم فيه البحث ولو بإيجاز أو الاشارة إلي قضايا مهمّة في الدين في اصوله وفروعه.

الثاني: كونه من إفادات فقيه من كبار فقهاء الطّائفة وأحد المراجع العظام … في محاضرات ألقاها علي ثلّةٍ من الأفاضل من الحوزة العلمية بمدينة كربلاء المقدّسة حيث نزل بها فترةً من الزمن.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 8

الثالث: إنه يظهر لمن يقارن هذا التفسير الوجيز بتفسير السورتين في أغلب التفاسير من الخاصّة والعامّة تفوّقه عليها من حيث التحقيق في ألفاظ الآيات المباركة والتدبّر في زكاتها والشموليّة للمعاني المختلفة والدقائق الحكميّة والأدبيّة وغيرها.

هذا، وقد طبع هذا الكتاب للمرّة الاولي مع فوائد أضافها في الهوامش سماحة العلامة الحجة الحاج السيد محمّد علي الميلاني دامت بركاته.

هذا، ولا يخفي أنّا لم نضف علي الهوامش شيئاً، كما أنّ ما يجده القارئ من الاختلاف في الاسلوب في السّورتين،

فسببه أنّ مقرّر سورة التغابن غير مقرّر سورة الجمعة من تلامذة سماحة السيد قدّس سرّه.

وقد عني بتحقيق الكتاب في هذه الطبعة بمراجعة المصادر وتطبيق النصوص بقدر الإمكان، حضرة الفاضل السيد محمّد المرعشي حفظه اللَّه.

لجنة النقد والتحقيق سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 9

مقدّمة الطبعة الأولي … ص: 9

الحمد للَّه ربّ العالمين والصّلاة والسّلام علي خير خلقه محمّد وآله الطّيّبين الطّاهرين.

يحتلّ التّفسير مكانةً ساميةً بين العلوم الإسلاميّة، وذلك لأنّ أهميّة كلّ علم بأهميّة موضوعه، وإذ كان موضوع علم التّفسير: هو القرآن الكريم، معجزة السّماء الخالدة، يدور حوله ليستجلي غوامضه ويزيل مكامن الخفاء فيه، صار من أجلّ العلوم الإسلاميّة وأولاها بالعناية والإهتمام.

هذا، وقد صرف علماؤنا الأبرار جهوداً ضخمة في حقل التفسير، وصدرت من رشحات أقلامهم المجلّدات الضخمة والدورات المفصّلة بهذا الشأن، جزاهم اللَّه عن كتابه خيراً.

وإذ كان التخصص في الفقه وأصوله يستوعب أكثر وقت الفقيه،

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 10

وذلك في سبيل استقصاء أدلّة الأحكام وتمحيصها، ومناقشة الآراء والنظريات الفقهيّة في المسألة الواحدة، واستفراغ الوسع لاستنباط الحكم الشّرعي من أدلّته التّفصيليّة، فقد كرّس الفقهاء جلّ نشاطهم لتحقيق هذا الجانب من العلوم الإسلامية. علي أنّهم لم يغفلوا عن سائر تلك العلوم.

ولقد برز سيّدنا الوالد تغمّده اللَّه من بين فقهاء الإماميّة في العصر الحاضر- بشهادة القريب والبعيد- متّسماً بسعة الأفق، وأصالة الرؤية، والدّقة في التحقيق … ممّا جعله يُشار إليه بالبنان في الحوزات العلمية أيّدها اللَّه ورعاها.. ولم يكن (قدّس اللَّه نفسه الزّكية) محقّقاً بارعاً ومجتهداً بصيراً في الفقه والأصول فقط، بل كانت له اليد الطولي في الفلسفة وعلم الكلام والتفسير وعلم الأخلاق وسائر العلوم الإسلاميّة.

وإذ هاجر (قدّس سرّه) لأسباب صحية من النجف الأشرف إلي كربلاء المقدّسة، ولبّي رغبة العلماء والفضلاء في الإقامة ببلدة

سيّد الشّهداء عليه السّلام، بدأ بتدريس البحث الخارج في الفقه والأصول، لكن هذا لم يرو ظمأ طلّاب العلم وروّاد المعرفة في تلك الحوزة المقدّسة، فراحوا يطلبون منه درساً في التفسير وعلم الكلام أيضاً.

بناءً علي ذلك، فقد قام سيّدنا الوالد (قدّس سرّه) بتدريس هذين العلمين في كربلاء المقدّسة بين عامي 1360 و 1372 الهجريين، وقد كان الأفاضل من ملازمي بحثه وطلّابه، يكتبون تلك الأبحاث ثمّ يقرأونها عليه. وربما أبدي عليها ملاحظاته وأجري عليها بعض التعديلات.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 11

والكتاب الذي بين يديك نموذج من تلك الكتابات التي دوّنها بعض الفضلاء من تلامذة السيّد الوالد من مجلس بحثه الشريف، في تلك الفترة.

وإذ هاجر السيّد الوالد الي مشهد المقدّسة عام 1373 لغرض زيارة الإمام الرّضا عليه آلاف التّحية والثّناء، حال العلماء والفضلاء في مشهد دون عودته إلي كربلاء، واستجاب لرغبتهم في حطّ رحاله بهذه البلدة المقدّسة. فراح يلقي أبحاثه العالية في الفقه والأصول علي رواد التحقيق والبحث الخارج …

إلي أن فاضت روحه الطّاهرة إلي بارئها في رجب 1395 هجرية، ودُفن في المرقد الرضوي المطهّر، في المكان الذي يسمي ب (دار الفيض).

فيما يتعلق بالأبحاث الأصوليّة التي دوّنها السيد الوالد وناولها إلي خواص تلاميذه، لم يصل بيد الأسرة إلّاأجزاء مبعثرة، وأمّا فيما يتعلق بالأبحاث الفقهية فقد استطاع ابن أخي حجة الاسلام السيد الفاضل الميلاني من تنظيم مجموعة منها عن طريق الأشرطة المسجلة ومذكرات السيد نفسه، وتحقيقها.

وقد وفّقه اللَّه إلي طبع أبواب الزكاة والخمس وصلاة المسافر في أربعة أجزاء، وأمّا كتاب البيع فهو تحت الطبع.

ومساهمةً منّي في إحياء هذا التراث ونشره إلي الملأ العلمي، فقد قمت باختيار مائة وعشر أسئلة من مجموعة سبع دفاتر، حاوية لشتات سلسلة النقد والتحقيق، ج 3،

ص: 12

المسائل المستفتاة من السيّد الوالد، وراعيت في الإختيار أن تكون المسائل غير فقهية في الغالب، بل تتعلق بالعقائد، والحكمة في التشريع، والجذور المذهبية، وقد أضفت إليها بعض التحقيقات والتعليقات النافعة إكمالا للفائدة، وقدمتها للطبع.

وإذ فرغت من المشروع الأوّل فكرت في تنقيح تفسير سورتي الجمعة والتغابن، فأعدت النظر في ذلك، وأضفت إليه بعض التحقيقات النافعة والتعليقات المفيدة، حتّي خرج بهذا الشكل الذي يجده القاري ء، وأنا أقدم هذا المجهود هدية متواضعة إلي اعتاب سيّدنا الإمام الحجّة المهديّ المنتظر عجّل اللَّه فرجه، راجياً تفضّله بالقبول.

وأعود فأوجه ندائي إلي الفضلاء الذين يحتفظون عندهم ببعض الآثار العلمية للسيّد الوالد، كي يتفضّلوا علينا بالمساهمة والمؤازرة في نشر تلك الآثار، خدمة للعلم والدّين.

وفي الختام أنوّه بدور ابن أخي العلّامة المفضال السيّد عليّ الميلاني، حيث كان يرغب القيام بتحقيق هاتين السورتين وطبعهما، جزاه اللَّه عن عمّه خير الجزاء.

أخذ اللَّه بأيدي العاملين لخدمة الدّين الحنيف ونشر علوم أهل البيت عليهم السّلام، ووفّقنا لمرضاته، إنّه سميع مجيب.

مشهد المقدّسة

13 رجب 1401 هجريّة

السيّد محمّد عليّ الميلاني سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 15

تفسير سورة الجمعة … ص: 15

سورة الجمعة … ص: 15

[1]»

[1] سورة الجمعة مدنيّة، نزلت بعد الصّف- كما في مصحف الإمام الصّادق عليه السّلام- قيل السنة الخامسة من الهجرة، من المسبّحات «1».

وقال صدر المتألهين: «سورة الجمعة مشتملة علي أمّهات المقاصد الإيمانيّة، محتوية علي أصول الحقائق العرفانيّة، من معرفة اللَّه سبحانه، وحقيقة المبدأ والمعاد، وكيفيّة البعث والإرسال، والتعليم والإنزال، وماهيّة الكتاب والرّسول، والهداية للعقول» «2».

__________________________________________________

(1) الإتقان للسيوطي: 13، وتاريخ القرآن للزنجاني: 56، والتفسير الحديث: محمّد عزة دروزة 7/ 277، وتاريخ قرآن راميار: 250.

(2) تفسير صدر المتألهين 7/ 140.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 16

«بِسْمِ اللَّهِ الرّحمنِ الرّحيمِ [1]»

«يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي اْلأَرْضِ الْمَلِكِ

الْقُدُّوسِ الْعَزيزِ الْحَكيمِ».

الحمد للَّه الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا اللَّه، والصّلوة والسّلام علي الصّادع بالرّسالة الموحي إليه بالقرآن الكريم محمّدٍ خاتم النّبيين وآله الطيّبين الطّاهرين.

وبعد: فهذا جزء من المعارف الإلهيّة في تفسير سورة الجمعة، قال عزّ من قائل «يُسَبِّحُ» [2] هذا هو التّسبيح التّكويني، أي أنّها

[1] عن عبداللَّه بن سنان قال: «سألت أبا عبداللَّه عن تفسير بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم، قال عليه السّلام: الباء بهاء اللَّه، والسّين سناء اللَّه، والميم مجد اللَّه- وروي بعضهم: الميم ملك اللَّه- واللَّه إله كلّ شي ء، الرّحمن بجميع خلقه، والرّحيم بالمؤمنين خاصّة» «1».

[2] قال المحدّث القمي: «إنّ جميع المصنوعات والممكنات بصفاتها ولوازمها وآثارها، دالّة علي صانعها وبارئها ومصوّرها، وعلمه وحكمته شاهدة بتنزّهه عن صفاتها المستلزمة للعجز والنّقصان، مطيعة لربّها فيما خلقها له وأمرها من مصالح عالم الكون، موجّهة إلي ما خلقت __________________________________________________

(1) أصول الكافي 1/ 89، باب معاني الأسماء واشتقاقها.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 17

تسبّح بذواتها ووجوداتها، فإنّ معني التّسبيح: التّنزيه، والأشياء كلّها بذواتها منزّهة للَّه تعالي، تنزّهه عن الشريك، لأنّه لو كان له سبحانه شريك لما وجد شي ء، أو وجد من كلّ شي ء اثنان متماثلان بتمام التماثل وبجميع الخصوصيّات.

أمّا وجودها، فبالضرورة، وأمّا عدم المماثلة، فلأنّه بديهي، إذ بعد ملاحظة الأفراد من الجنس الواحد أو النوع الواحد كالتمرتين أو الحنطتين أو الحجرين أو الشّجرتين أو الحيوانين كشاتين وفرسين وإنسانين، وغيرها من سائر المخلوقات، يري المايز بينهما وعدم المماثلة من جميع الجهات، وهذا لا يختص بزمان دون زمان، ومكان دون مكان، فإن جزئياً، كزيد المعيّن من جميع الجهات بعد التأمل في وجوده بعد إن لم يكن، يدلّ علي أنّ له موجداً وأنّه واحد.

له، فسكون الأرض خدمتها وتسبيحها، وصرير

الماء وجريه تسبيحه وطاعته، وقيام الأشجار والنباتات ونموّها، وجري الرّياح وأصواتها، وهذه الأبنية وسقوطها، وتحريق النّار ولهيبها، وأصوات الصواعق، وإضائة البروق، وجلاجل الرعود، وجري الطيور في الجوّ ونغماتها، كلّها طاعة لخالقها وسجدة وتسبيح وتنزيهٌ له سبحانه» «1».

__________________________________________________

(1) سفينة البحار 1/ 594.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 18

أمّا الأوّل، فواضح.

وأمّا الثاني، فإنّه لو صدر عن اثنين، فإن استقلّا في التأثير فيه كاملًا، لزم تعدده مع أنّه واحد، وإن اشتركا، فلو أثّر كلّ في بعضه لزم تركّب الوجود مع أنّه بسيط [1]، ولو أثّر المجموع فيه بنحو كانا جزئي العلّة، لم يكن واحد منهما علّة تامّة، وذلك نقص فيهما. مضافاً إلي أنّه لا يخلو كونهما كذلك: إمّا لعدم القدرة، أو لمغلوبيّة كلّ للآخر المزاحم له، أو عبثا … والكلّ باطل.

فكلّ موجود يدلّ علي أنّ موجده واحد لا شريك له.

أمّا إثبات أنّ موجد كلّ طائفة من الممكنات عين موجد الأخري، فهو بإجراء ما تقدّم، من أنّه لولا ذلك، فاختصاص كلّ بما خلق: إمّا لعدم تمكّنه من غيره، أو لمغلوبيّته للآخر، أو عبثاً وبخلًا عن إصدار الفيض … والكلّ باطل، وجميع ذلك مستحيل. وعليه، يجب أن يفيض كلّ منهما في كلّ طائفة وفي كلّ موجود، فيلزم أن يكون كلّ ما يفرض واحداً اثنين، مع أنّه لا يوجد اثنان متماثلان في جميع [1] لما تقرّر في محلّه من أنّه لا يوجد مفهوم أعمّ من الوجود حتي يكون جنساً له، وإذا لم يكن للوجود جنس، فليس له فصل، لأنّ الفصل يميّز بعض أفراد الجنس عن البعض الآخر، وقد فرض انتفاء الجنس عن الوجود. وكلّ ما ليس له جنس وفصل، فهو بسيط.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 19

الخصوصيّات، بحيث لا يكون بينهما مائز أصلًا.

وكما

أنّ جميع الموجودات تنزه اللَّه عن الشريك، فإنّها تنزّهه عن العجز، لأنّه لو كان عاجزاً لما تمكن من خلقها. وتنزّهه عن الجهل، فإنّ وجودها يدلّ علي علمه تعالي، حيث إن خلق شي ء لا يكون بلا علم، كما قال عزّ من قائل «أَ لايَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ» «1»

فينفي عنه الجهل، وكذلك بالدلالة علي كلّ محمدة ينفي ضدّها ونقيضها عنه سبحانه وتعالي فتنزّهه وتسبّحه. وبعبارة أخري: إنّ كلّ ما يشاهد في الممكنات من الصفات الوجودية، وكلّها محمودة وجميلة، مثل كونها ذوات حياة ومشيّة وسمع وبصر وإدراك وتدبير، إلي غير ذلك، يدلّ علي ثبوتها بنحو أكمل وأتمّ وأعلي وأرفع لخالقها، إذ كلّ ذلك منه، والفاقد لشي ءٍ لا يعقل أن يعطيه، وعليه، فإنّ جميع الموجودات تنزّهه وتسبّحه وتنفي عنه إضداد هذه الصفات ونقائضها، فالممكنات تثني علي خالقها وتحمده ابتداءً، وبوسيلة هذا الثناء والحمد تسبّحه، فالكلّ يسبّحونه بحمده بألسنتهم الوجودية [1]،

[1] قال علي عليه السّلام: مُسْتَشْهداً بكليّة الأجناس علي ربوبيّته، وَبعَجْزها علي قدرته، وبفطورها علي قدمته، وبزوالها علي بقائه، فلا لها

__________________________________________________

(1) سورة الملك، الآية: 13.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 20

ويضيف بعضهم إلي ذلك التسبيح والتحميد بالألسنة الخارجية. ولمّا كان تسبيح المخلوقات لازم وجوداتها لا ينفك عنها، كما تقدّم من أنّ ذواتها مسبّحة للَّه تعالي، أتي بالفعل المضارع الدال علي الدوام والإستمرار، وفي إتيانه في بعض الموارد بالفعل الماضي نكتة [1] ستجي ء في محلّها إن شاء اللَّه تعالي.

محيصٌ عن إدراكه، ولا خروج عن إحاطته بها، ولا احتجاب عن إحصائه لها، ولا امتناع من قدرته عليها، كفي بإتقان الصنع لها آية وبمركب الطّبع عليها دلالة، وبحدوث الفَطْر عليها قدمةً، وبأحكام الصّنعة لها عبرةً، فلا إليه حدّ منسوبٌ ولا له مثل مضروبٌ ولا شي ء

عنه محجوبٌ، تعالي عن ضرب الأمثال والصّفات المخلوقة علوّاً كبيراً» «1».

[1] قال الفخر الرازي: أنّه تعالي قال في البعض من السّور «سَبَّحَ لِلَّهِ» وفي البعض «يُسَبِّحُ لِلَّهِ» وفي البعض «سَبّحْ» بصيغة الأمر، ليعلم أنّ تسبيح حضرة اللَّه تعالي دائم غير منقطع، لما أنّ الماضي يدلّ عليه في الماضي من الزّمان، والمستقبل يدلّ عليه في المستقبل من الزمان، والأمر يدلّ عليه في الحال «2».

__________________________________________________

(1) نهج السعادة 3/ 11.

(2) تفسير الفخر الرازي 29/ 310.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 21

«لِلَّهِ» [1] قيل: إنّه علم للذات الواجب الوجود المستجمع وقال صدر المتألهين: وإنّما قال مرّة «سبّح للَّه» بصيغة الماضي، ومرّة «يسبّح للَّه» بصيغة المضارع، ليكون تنبيهاً للنّاظر الخبير والأديب الأريب علي دوام وقوع تنزيهه عن صفات الموجودات المتغيرات وعن سمات الممكنات الثابتات فيما سبق وفيما لحق، أي:

سَبَّحَ له سوابق الممكنات، ويسبّح له لواحق الكائنات ممّا في الأرض والسماوات من جهة أسبابها وعللها السابقة وعوارضها ونتائجها اللّاحقة «1».

[1] قال شارح المواقف: إنّ اسم «اللَّه» لفظ مخصوص، والمسمّي هو الذي وضع اللّفظ في قباله والخلاف في تعقّل كنه ذاته، ووضع الإسم لا يتوقّف عليه، إذ يجوز أن يعقل ذات ما بوجه ما، ويوضع الإسم لخصوصيّة ويقصد تفهيمها باعتبار ما، لا بكنهها، ويكون ذلك الوجه مصحّحاً للوضع وخارجاً عن مفهوم الإسم، كما في لفظ «اللَّه» فإنّه اسم علم له موضوع لذاته من غير اعتبار معني فيه «2».

وقال الطريحي عن بعض المحقّقين: الأسماء بالنّسبة إلي ذاته __________________________________________________

(1) تفسير صدر المتألّهين 7/ 141.

(2) لغتنامه دهخدا 4/ 2488.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 22

المقدّسة علي أقسام ثلاثة:

الأوّل: ما يمنع اطلاقه عليه تعالي، وذلك كلّ اسم يدلّ علي معني يبجلّ العقل نسبته إلي ذاته الشريفة، كالأسماء الدالّة

علي الأمور الجسمانيّة أو ما هو مشتمل علي النّقص.

الثّاني: ما يجوز عقلًا إطلاقه عليه، وورد في الكتاب العزيز والسنّة الشريفة تسميته به، فذلك لا حرج في تسميته به بل يجب امتثال الأمر الشرعي في كيفيّة اطلاقه بحسب الأحوال والأوقات والتعبّدات إمّا وجوباً أو ندباً.

الثالث: ما يجوز اطلاقه عليه ولكن لم يرد ذلك في الكتاب والسنّة، كالجوهر، فإنّ أحد معانيه كون الشي ء قائماً بذاته غير مفتقر إلي غيره، وهذا المعني ثابت له تعالي، فيجوز تسميته به، إذ لا مانع في العقل من ذلك، لكنّه ليس من الأدب، لأنّه وإن كان جائزاً عقلًا ولم يمنع منه مانع، لكنّه جاز أن لا يناسبه من جهة أخري لا نعلمها، إذ العقل لم يطّلع علي كافّة ما يمكن أن يكون معلوماً، فإنّ كثيراً من الأشياء لا نعلمها إجمالًا ولا تفصيلًا، وإذا جاز عدم المناسبة ولا ضرورة داعية إلي التسمية، فيجب الإمتناع من جميع ما لم يرد به نصّ شرعي من الأسماء،

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 23

لجميع الصفات الكمالية، وقيل: علم جنس منحصر في واحد، ولما كان معناه علي القولين الذات المستجمعة لجميع الصفات الكمالية [1]، كان مستحقّاً لأن يسبّحه:

«ما فِي السَّماواتِ وَما فِي اْلأَرْضِ» من المجردات والماديات وهذا قول العلماء إنّ أسماءه تعالي توقيفية، يعني موقوفة علي النّص والإذن في الإطلاق «1».

وفي الكافي عن الحسن بن راشد، عن أبي الحسن موسي بن جعفر عليه السّلام قال: «سئل عن معني «اللَّه» فقال عليه السّلام:

استولي علي ما دقّ وجلّ (وهو استيلاؤها علي دقيق الأشياء وجليلها) «2».

[1] قال السيّد المدني: «اللَّه» أصله أَلَهَ حُذف الهمزة وعوّض منها حرف التعريف، ثمّ جعل علماً للذّات المقدّسة الجامعة لصفات الكمال، وزعم بعض أنّه إسم جنس موضوع

لمفهوم الواجب الوجود لذاته، المستحق للعبودية، وكلّ منها كلّي انحصر في فرد «3».

__________________________________________________

(1) مجمع البحرين كلمة (سما).

(2) أصول الكافي 1/ 89، باب معاني الأسماء واشتقاقها.

(3) الحدائق النديّة في شرح الصمديّة: 3.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 24

والجواهر والأعراض والنامي وغيرها [1]. والمراد بالسموات، الجهات العليا، وبالأرض، الجهات السفلي، ليشمل السماء والأرض، أو المراد بهما المصطلحان ويشملهما الحكم أيضا بالدلالة العرفية، كقولك: ما في البلد للسلطان، فإنّه يشمل نفس البلد أيضاً.

تكملة:

قد ظهر ممّا ذكر أنّ تسبيح الممكنات، هو بجهاتها الوجودية التي تكون بها حامدة ومادحة لبارئها، فإنّ الفعل الجميل بنفس وجوده يعرّف جمال الفاعل ويحمده، مثلًا: إذا رأيت صنعاً دقيقاً، فهو يدلّك علي مهارة صانعه ويرشدك إلي كماله، فكما أنّ الفاعل [1] عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام قال: «لو اجتمع أهل السماء والأرض أن يصفوا اللَّه بعظمته لم يقدروا» «1».

قال الطنطاوي: كلّ شي ءٍ في السموات والأرض إذا نظرت إليه، دلّلت علي وحدانيّة خالقه وعلي تنزيهه وجميع الأشياء مسخّرة له مقهورة، فالتّسبيح إمّا دلالة للعقلاء وإمّا حصول الآثار في الأشياء المسخّرة للَّه تعالي «2».

__________________________________________________

(1) الكافي: 1/ 79.

(2) تفسير الجواهر 24/ 170.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 25

يحمد نفسه بإيجاد فعله الجميل- ولذا نقول: أنّه سبحانه وتعالي أوّل حامد لنفسه، حيث أنّه تبارك وتعالي أوجد الكائنات المحفوفة باللطائف والدقائق التي لا تحصي- كذلك الموجودات تحمده وتمدحه، وتعرّف علمه وقدرته وحكمته وربوبيّته واستجماعه لجميع صفات الكمال والجمال [1]، وفي أثر هذا الحمد تسبّحه وتقدّسه وتنزّهه عن صفات النقص وتجلّه عنها. ومن هنا تبيّن معني قوله تعالي: «وَإِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» «1»

أي متلبّساً بالحمد، يكون مسبّحاً. ثمّ إنّ ما ذكرنا كلّه راجع إلي الموجودات بما لها من اللّسان التكويني، بل

الموجود هو بكلّه لسان لا أنّ لسانه جزء منه.

وربما يقال: إنّ جميع الموجودات حتّي الذرات لها جهة شعور وإدراك ولها ألسنة تناسبها، فإن كان الأمر كذلك، إجتمع هناك تسبيحان، كما هو كذلك في المسبّح من الإنسان، فإنّه يسبّح بلسان الحال والقال.

[1] قال المظفّر: عقيدتنا في صفاته تعالي ونعتقد أنّ من صفاته تعالي الثبوتية الحقيقية الكماليّة التي تسمّي بصفات الجمال والكمال، كالعلم والقدرة والغنيّ والإرادة والحياة- وهي كلّها عين ذاته ليست هي __________________________________________________

(1) سورة الإسراء، الآية: 44.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 26

صفات زائدة عليها، وليس وجودها إلّاوجود الذّات، فقدرته من حيث الوجود حياته، وحياته قدرته، بل هو قادر من حيث هو حيّ، وحيّ من حيث هو قادر، لا اثنينية في صفاته ووجودها، وهكذا الحال في سائر صفاته الكمالية، نعم هي مختلفة في معانيها ومفاهيمها لا في حقائقها ووجوداتها، لأنّه لو كانت مختلفة في الوجود وهي بحسب الفرض قديمة وواجبة كالذات، لزم تعدّد واجب الوجود ولانثلمت الوحدة الحقيقية، وهذا ما ينافي عقيدة التوحيد. وأمّا الصفات الثبوتية الإضافية كالخالقيّة والرازقيّة والتقدّم والعليّة، فهي ترجع في حقيقتها إلي صفة واحدة حقيقية، وهي القيوميّة لمخلوقاته، وهي صفة واحدة تنتزع منها عدّة صفات باعتبار اختلاف الآثار والملاحظات. وأمّا الصفات السلبيّة التي تسمّي بصفات الجلال فهي ترجع جميعها إلي سلب واحد هو سلب الإمكان عنه، فإن سلب الإمكان لازمه بل معناه سلب الجسمية والصورة والحركة والسكون والثقل والخفّة وما إلي ذلك، بل سلب كلّ نقص، ثمّ إنّ مرجع سلب الإمكان في الحقيقة إلي وجوب الوجود، ووجوب الوجود من الصّفات الثبوتية الكمالية، فترجع الصفات الجلالية (السلبيّة) آخر الأمر إلي الصفات الكمالية (الثبوتية) واللَّه تعالي واحد من جميع الجهات لا تكثر في ذاته

المقدسة ولا تركيب في حقيقة

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 27

«الْمَلِكِ» [1] أي السلطان المطلق للعالم العلوي وما فيه، من الملك والكواكب والشمس والقمر وغيرها، والعالم السفلي وما اشتمل عليه من الإنس والجنّ والشياطين وما سواها، وما فوقهما وما تحتهما.

الواحد الصّمد «1».

[1] قال الشيخ الطّوسي قدّس سرّه: «الملك» يعني المالك للأشياء كلّها، ليس لأحد منعه منها، «القدوّس» المستحق للتعظيم بتطهير صفاته من كلّ صفة نقصٍ، «العزيز» معناه القادر الذي لا يقهر ولا يغلب، «الحكيم» في جميع أفعاله «2».

وقال الفخر الرازي: «الملك» إشارة إلي إثبات ما يكون من الصفات العالية ولفظ «القدّوس» هو إشارة إلي نفي ما لا يكون منها، وعن الغزالي (القدّوس) المنزّه عمّا يخطر ببال أوليائه» إلي أن قال «الثاني القدّوس من الصّفات السلبيّة، وقيل: معناه المبارك «3».

وقال العلّامة الطباطبائي: التسبيح تنزيه الشي ء، ونسبته إلي __________________________________________________

(1) عقائد الإماميّة: 16.

(2) التبيان في تفسير القرآن 10/ 3- 4.

(3) مفاتيح الغيب/ التفسير الكبير للفخر الرازي 30/ 537.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 28

واختص هذا الوصف وما بعده بالذكر، لأنّ تسبيح الأشياء له تعالي بها أظهر، كما لا يبعد ذلك.

«الْقُدُّوسِ» أي المنزّه غاية التنزه حتي عن الإحتياج إلي المؤثّر، فإنّ غيره وإن كان مجرّداً عن عالم المادة بتوابعها، وعن الجسمية ولوازمها، لكنّه مع ذلك لا غناء له عن كثير من الحاجات، ولا أقلّ ممّا تستلزمه جهة إمكانه، فالمنزّه عن جميع الجهات ليس إلّا هو جلّ وعزّ.

«الْعَزيزِ» العزّة لا تحصل لشي ءٍ إلّابأمرين: قلّة وجوده، واحتياج الغير إليه ليستفيد منه، فالكثير وجوده وإن احتاج الكلّ إليه ليس عزيزاً، كما تري في الماء والهواء، فكلاهما من المحتاج إليهما غاية الإحتياج، لكن كثرتهما سبب لعدم عزّتهما، وكذلك غير المحتاج إليه وما لا فائدة يعتد بها فيه،

وإن قلّ وجوده غاية القلّة حتي الطهارة والنزاهة من العيوب والنقائص، والتعبير بالمضارع للدلالة علي الإستمرار، و «الملك» هو الإختصاص بالحكم في نظام المجتمع، و «القدوس» مبالغة في القدس وهو النّزاهة والطهارة، و «العزيز» هو الذي لا يغلبه غالب، و (الحكيم) هو المتقن فعله فلا يفعل عن جهل أو جزاف «1».

__________________________________________________

(1) الميزان في تفسير القرآن 19/ 263.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 29

انحصر في فرد، كما هو واضح.

وهو سبحانه فرد متفرّد لا ندّ له، محتاج إليه غاية الإحتياج، فإنّ الأشياء كلّها في الآنات جميعها محتاجة إليه، فهو تعالي عزيز بقول مطلق، وعزّة ما سواه حاصلة منه، كما هو ظاهر.

«الْحَكيمِ» ذو الحكمة البالغة الكاملة، وهو العالم بالأشياء وترتيبها وتنظيمها علي أحسن وجه وأكمل ترتيب، فإنّ الحكمة- كما تحقّق في محلّه- نظريّة وعمليّة، والحكيم المطلق هو الحائز لهما، فيعلم ما ينبغي أن يعلم، ويعمل ما ينبغي أن يعمل، وهو سبحانه وتعالي عالمٌ بتدبير الأمور في الكائنات من السّموات والأرضين وما بينهنّ وما فوقهنّ وما تحتهنّ، وجاعلٌ لها علي أحسن ما يكون وأتمّ ما يتصوّر. وبهذا تبيّن الوجه في قوله عزّ من قائل (الحكيم) دون العليم والقدير، إذ الحكمة المطلقة تستلزم العلم والقدرة دون العكس، ومن شؤن هذه الحكمة بعث الرّسل، كما سنذكره.

واعلم أنّ تنزيه الأشياء- بالمعني المتقدّم في قوله «يسبّح للَّه» تعالي بالملك والنّزاهة والعزّة والحكمة، أظهر وأوضح من تنزيهها له تعالي ببعض صفاته الجلاليّة أو الجماليّة الخارجة عن هذه الصفات كما لا يخفي [1]. أمّا مثل عدم التركيب (أعني الواحديّة)

[1] قال صدر المتألّهين في الفرق بين صفات الذّات وصفات سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 30

الفعل: «كلّ ما هو صفة الذّات، فهو أزلي غير مقدور، وكلّ ما

هو صفة الفعل، فهو ممكن مقدور، وبهذا يعرف الفرق بين الصفتين. فإذن نقول لمّا كان علمه تعالي بالأشياء ضروريّاً واجباً بالذّات، وعدم علمه بها محالًا ممتنعاً بالذّات، فلا يجوز أن يقال: يقدر أن يعلم ولا يقدر أن لا يعلم، لأنّ أحد الطرفين واجب بالذّات والآخر ممتنع بالذّات، ومصحّح المقدورية هو الإمكان، وكذا الكلام في صفة الملك والعزّة والحكمة والجود والمغفرة والغفران وغيرها من صفات الذّات، كالعظمة والكبرياء والجلال والجمال والجبروت وأمثالها، وهذا بخلاف صفات الفعل، فإنّه يجوز أن يقال: أنّه يقدر أن يثيب ويعاقب، ويقدر أن لا يثيب ولا يعاقب، ويقدر أن يحيي ويقدر أن يميت، ويقدر أن يهدي ويقدر أن يضلّ، وهكذا في سائر صفات الأفعال. فمن هذا السّبيل يعلم الفرق بين صفة الذّات وصفة الفعل» «1».

وقال العلّامة الطباطبائي في صفات الذّات والفعل: «وتحقّق أنّ وجوده صرف بسيط واحد بالوحدة الحقة، فليس في ذاته تعدّد جهة، ولا تغاير حيثية، فكلّ كمال وجودي مفروض فيه عين ذاته، وعين __________________________________________________

(1) شرح أصول الكافي، كتاب التوحيد، باب الإرادة، ذيل الحديث السّابع.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 31

وعدم الشركة (أعني الأحديّة) فظاهرٌ من الملكيّة المطلقة، فإنّ المالك المطلق لا يمكن أن يكون أكثر من واحد. بل يمكن أن يقال بأنّ الأوصاف الأربعة المذكورة في الآية، مستلزمة لجميع الصفات الجماليّة والكمالية [1]

الكمال الآخر المفروض له.

فالصفات الذّاتية التي للواجب بالذّات كثيرة مختلفة مفهوماً، واحدة عيناً ومصداقاً وهو المطلوب … ولا ريب أنّ للواجب بالذّات، صفات فعليّة مضافة إلي غيره، كالخالق والرازق والمعطي والجواد والغفور والرّحيم إلي غير ذلك، وهي كثيرة جدّاً يجمعها القيّوم، ولمّا كانت مضافة إلي غيره تعالي، كانت متوقفة في تحققها إلي تحقّق الغير المضاف إليه، وحيث كان كلّ

غير مفروض معلوماً للذّات المتعالية، متأخّراً عنها، كانت الصّفة المتوقفة عليه متأخّرة عن الذّات، زائدة عليها، فهي منتزعة من مقام الفعل منسوبة إلي الذّات المتعالية» «1».

[1] وتسمّي في عرف الكلاميّين بالصّفات الثبوتيّة والسّلبية أيضاً، أمّا الصّفات الثبوتيّة، فهي كالعلم والقدرة والحياة والإرادة وغيرها.

وأمّا الصّفات السلبيّة الجلالية للَّه تعالي فهي الشريك والتركيب __________________________________________________

(1) نهاية الحكمة: 251 و 253.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 32

والإمكان والرؤية، والإحتياج إلي ما سواه، وامتناع القبح عليه، ونفي الجسميّة عنه، وعدم حلوله في مكان، جلّ جلاله عن هذه الصّفات.

قال آية اللَّه العظمي الشيخ محمد حسين الأصفهاني في الصفات الثبوتيّة والسّلبية والجماليّة والكماليّة:

صفاته الكاملة العليّة إمّا ثبوتيّة أو سلبيّة

بها تجلّت لأولي الكمال مراتب الجلال والجمال والحقّ ذو الجلال والإكرام بالإعتبارين بلا كلام ثمّ الثبوتيّة من صفاته إمّا شؤون فعله أو ذاته فما يكون من شؤون الذّات كالعلم والقدرة والحياة

هي الحقيقيّة عند الحكماء وتلك عين الذات أيضاً فاعلها

وما يكون من شؤون فعله فإنّهُ كخلقه وجعله هي الإضافيّة وهي واحدة وهي علي الذّات لديهم زائدة

لا توجب السّلوب كثرة ولا حدّاً لها وإن تكن بشرط لا

بل هي سلب مطلق النقصان كسلب الإفتقار والإمكان كلّ كمال كان للموجود فثابت لواجب الوجود

وما يسمّي صفة الجمال لا شكّ أنّه من الكمال سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 33

ولهذا اختصّت بالذّكر، فَتَدبّرَ [1].

ومثله فيه تعالي شأنه يكفيه في وجوبه إمكانه كيف ولا كمال للذّوات بلا وجود كامل بالذّات [1] أقول: هذه الصّفات غير الصّفات التي ذكرها أمير المؤمنين علي عليه السلام، حيث قال: «أوّل الدّين معرفته، وكمال معرفته التّصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصّفات عنه، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف،

وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصّفة، فمن وصف اللَّه سُبحانه فَقَدْ قَرَنَهُ» «1».

قال السيّد القزويني الحائري:

التوحيد علي أربعة مراتب 1- توحيد الذّات 2- توحيد الصّفات 3- توحيد الأفعال 4- توحيد العبادة؛

والمقصود من التّوحيد هنا هو: توحيد الذّات أي يعتقد العبد إنّ اللَّه وحده لا شريك له، وتوحيد الصّفات هو: أنّ صفات اللَّه عين ذاته وذاته عين صفاته، وسيأتيك التّفصيل في المستقبل القريب إن شاء اللَّه تعالي، وتوحيد الأفعال هو: إنّ اللَّه خلق الموجودات الأوليّة كالسّموات __________________________________________________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 1.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 34

والأرضين وغيرها بلا معين ولا آلة، وتوحيد العبادة هو: أن يعبد العبد ربّه خالصاً ولا يشرك بعبادة ربّه أحداً، والقسم الأخير هو النّوع الكامل، كما قال عليه السّلام: «وكمال توحيده الإخلاص له»، وقيل: المقصود من الإخلاص، هو جعله خالصاً من النّقائص، كالجسم والعرض وما شاكل من النّقائص، فهذه المراتب الأربع كاملة بالنّسبة إلي ما قبلها، ناقصة بالنّسبة إلي ما بعدها، وكمال الإخلاص له نفي الصّفات عنه، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصّفة، أشار عليه السّلام إلي توحيد الصّفات.

فنقول: كلّ موجود في العالم موصوف بصفة من الصّفات، كالعلم، والحياة وغيرهما من ملايين الصّفات، فهناك فرق بين الصّفة والموصوف، مثلًا علم الإنسان غير الإنسان نفسه، أو حلاوة التّمر غير التّمر، فالصّفة غير الموصوف والموصوف غير الصّفة والفرق بينهما كثير، لأنّ الصّفة عرض والموصوف جوهر، لكن صفات اللَّه تعالي عين ذاته وذاته عين صفاته، وبعبارة أخري: إنّ اللَّه وصفاته شي ء واحد، لا فرق بينهما في الوجود والحقيقة، وقد سبق في كلامه عليه السّلام إنّه ليس لصفته حدّ محدود، فإذا كانت الصّفة عين الذّات فكذلك الذّات سلسلة النقد والتحقيق، ج 3،

ص: 35

غير محدودة، وأدني مراتب الإخلاص في العبادة قصد القربة إلي اللَّه تعالي، وعدم قصد الرّياء والسمعة، وأعلي مراتب الإخلاص نفي الصفات عن الباري جلّ وعلا، أي إذا أتي العبد بعمل خالصاً للَّه، فكان يعتقد أنّ ربّه شي ءٌ وصفته شي ءٌ آخر فقد عبد إلهين اثنين، أحدهما الذات والآخر الصفة، ولكنّه إذا اعتقد توحيد الذات والصّفات كما تقدّم، فقد أخلص كمال الإخلاص، فمن وصف اللَّه سبحانه فقد قرنه، قد ذكر عليه السّلام في أوائل الخطبة «ليس لصفته حدّ محدود».

ثمّ ذكر عليه السّلام (وكمال الإخلاص له نفي الصّفات عنه) فكيف الجمع بين هاتين العبارتين؟

فنقول: المقصود من الجملة الأولي إنّ صفة اللَّه عين ذاته وذاته غير محدودة فصفته غير محدودة، والمقصود من نفي الصفات عنه، أي الصفات الزائدة علي وجود الذّات ووجود الذّات غير وجودها كما تقدّم في المثال بالإنسان والعلم، فمن وصف اللَّه بتلك الصفات الزائدة علي الذات، فقد قرنه بغيره أي قرن ذات اللَّه بغير ذاته، مثلًا: إذا اعتقد أنّ علم اللَّه كعلم الناس، أي إنّ اللَّه شي ء وعلمه شي ء آخر، فقد جعله قرين علمه «1».

__________________________________________________

(1) شرح نهج البلاغة للسيّد محمّد كاظم القزويني الحائري 1/ 34.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 36

وقال السيد حبيب اللَّه الخوئي: وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه أي الصفات التي وجودها غير وجود الذات، وإلّا فذاته بذاته مصداق لجميع النعوت الكماليّة والأوصاف الإلهيّة من دون قيام أمر زائد بذاته تعالي، فرض أنّه صفة كماليّة له، فعلمه وإرادته وقدرته وحياته وسمعه وبصره كلّها موجودة بوجود ذاته الأحديّة، مع أنّ مفهوماتها ومعانيها متخالفة، فإنّ كمال الحقيقة الوجودية في جامعيّتها للمعاني الكثيرة الكماليّة مع وحدة الوجود «1».

وقال العلّامة مغنية: لا يختلف اثنان من المسلمين في أنّ اللَّه سبحانه يوصف

بكلّ ما وصف به نفسه في كتابه العزيز، وإنّ عظمته في الكمال والجلال كما هي، لا يحدّها وصف ولا يدركها عقل، وإنّها أزليّةٌ أبديّة تماماً كذاته القدسيّة … وإنّما الكلام والخلاف في أنّ الصّفات العليا بأيّ معني تنسب إليه تعالي وتطلق عليه، هل تنسب إليه جلّت عظمته علي أنّها شي ء غير الذات وزائدة علي كنهها وحقيقتها تماماً، كما هي الحال في وصف الإنسان بالعلم، فإنّ حقيقة الإنسان حيوان ناطق، وحقيقة العلم الكشف عن الواقع، فإذا وصفنا الإنسان بالعلم فقد

__________________________________________________

(1) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة 1/ 321.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 37

وصفناه بما هو زائد وخارج عن ذاته وطبيعته، وإلّا كان الإنسان بما هو عالماً من غير كسب واستفادة وبحث ودرس، وهذا خلاف الحسّ والوجدان، هل وصف اللَّه بالعلم وغيره كذلك وعلي هذا الحال، أو أنّ اللَّه يوصف بالعلم والقدرة بمقتضي ذاته وحقيقته لا بشي ء زائد عنها تماماً، كوصف الإنسان بالإنسانية والشجر بالشجرية.

وذهب أهل العدل إلي أنّه لا صفات لذات اللَّه تزيد علي ذاته، وإنّ وصفه بالعلم والقدرة تماماً، كوصف الإنسان بالإنسانية والشجر بالشجرية، لأنّ ذاته تعالي بما هي وبطبعها وحقيقتها تقتضي العلم والقدرة، بل هي عين العلم والقدرة، كما أنّ الإنسانية عين الإنسان، لأنّ كماله تعالي ذاتي لا كسبي، ومطلق غير مقيّد بشي ء دون شي ء، وجهة دون جهة، وأنّه بموجب هذا الكمال الذاتي المطلق غنيّ عن كلّ شي ء يزيد علي ذاته وكنهه … ولماذا الزيادة؟ وما هو الداعي إليها ما دامت الذات القدسية كاملة بنفسها من كلّ الجهات؟ وهل نحتاج إلي الزائد لنكمل به الكامل، ونتمم التام؟ وعلي هذا، إذا أطلقت صفات الكمال عليه تعالي، كالعالم والقادر، فيجب أن يراد بها نفس الذات القدسيّة

التي تقتضي القدرة والعلم، بل هي عين العلم والقدرة تماماً، كما يراد من سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 38

كلمة اللَّه وكلّ وصف جاء في القرآن الكريم وعلي ألسنة الراسخين في العلم، فإنّ المراد هذا المعني بالخصوص.

أمّا الصفات المنفيّة عن ذاته تعالي في كلام الإمام عليه السّلام، فهي الأحوال الخارجة عن الذات والزائدة عليها، وتعرض لها بسبب من الأسباب تنفي هذه عنه، لأنّها من صفات المخلوقين دون الخالق.

«وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه» أي نفي الصفات الخارجة عن الذات وطبيعتها، لا نفي الصفات التي هي عين الذات وحقيقتها، وإلّا فإنّ كلام الإمام عليه السّلام ملي ء بصفات اللَّه سبحانه، بل هو هذا الكلام يصفه أكمل الوصف.

«لشهادة كل صفة أنّها غير الموصوف» وكلمة الصفة تدلّ بنفسها علي نفسها، وإنّها من المعاني المضافة إلي الموصوف التابعة له وجوداً وعدماً، ومن البداهة إنّ التابع غير المتبوع، والمضاف غير المضاف إليه.

«وشهادة كل موصوف أنّه غير الصفة» لأنّه في غنيّ عنها وهي في حاجة إليه، وإذن يستحيل نسبة الصفة إليه تعالي بمعناها الحقيقي وإلّا لزم تعدّد القديم، وتركيب الذات القدسية الواجبة الوجود … وهذه هي الصفة التي يجب نفيها عنه تعالي توحيداً للكمال المطلق، وتنزيهاً لذاته سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 39

«هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي اْلأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مُبينٍ». «هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي اْلأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ» [1].

عن كل شائبة، أمّا إذا أريد من الصفة مجرّد الإشارة إلي تفردّه تعالي في الجلال والكمال، فجائز قطعاً، وراجح عقلًا وشرعاً، وإلّا فبأيّ شي ء نتوسّل إليه تعالي ونثني عليه؟ «1»

[1] قال عليّ عليه السّلام: إنّ اللَّه بعث محمّداً صلّي اللَّه عليه وآله، وليس أحد

من العرب يقرأ كتاباً ولا يدّعي نبوّة، فساق الناس حتي بوّأهم محلّتهم وبلّغهم منجاتهم، فاستقامت قناتهم وأطمأنت صفاتهم «2».

اللغة: بوأهم محلّتهم أنزلهم منزلتهم، القناة القوة والغلبة والدوالة (واطمأنت صفاتهم) إنّهم كانوا علي حجر أملس متزلزل فاطمأنت أحوالهم في مواطنهم.

وقال عليه السّلام: بعثه والناس ضلّال في حيرة وخابطون في فتنة، قد استهوتهم الأهواء واستزلّتهم الكبرياء واستخفّتهم الجاهليّة الجهلاء، حياري في زلزال من الأمر وبلاء من الجهل، فبالغ صلّي اللَّه __________________________________________________

(1) في ظلال نهج البلاغة 1/ 20.

(2) نهج البلاغة: الخطبة 33.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 40

إعلم أنّه يقع الكلام في هذه الآية من وجوهٍ خمسة:

الأوّل: إرتباط هذه الآية بالآية السابقة.

عليه وآله في النّصيحة ومضي علي الطريقة ودعا إلي الحكمة والموعظة الحسنة «1».

اللغة: (وخابطون) ضاربون في البدع علي غير نظام. و (استزلّتهم) أدت إلي الزلل والسقوط في المضار. (واستخفتهم) طيشتهم (الجهلاء) وصف مبالغة للجهل.

وكذا دعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، في قوله تعالي:

«رَبَّنا وَابْعَثْ فيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ» «2».

وهو صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، الذي مُنّ علي المؤمنين ببعثته في في قوله تعالي: «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَي الْمُؤْمِنينَ إِذْ بَعَثَ فيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مُبينٍ» «3».

__________________________________________________

(1) نهج البلاغة: الخطبة 95.

(2) سورة البقرة، الآية: 129.

(3) سورة آل عمران، الآية: 164.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 41

الثاني: وجه البعث وسببه، وتحقيق معني اللّطف.

الثالث: تحقيق معني الأميّ وما فيه.

الرابع: علّة البعث في الأمّييّن دون غيرهم.

الخامس: سبب كون الرسول منهم دون غيرهم.

أمّا الوجه الأوّل: فيظهر بعد تحقيق الأمور الأربعة، وسنشير إليه إن شاء اللَّه تعالي بعد تحقيقها.

أمّا الوجه الثّاني: فَاعْلم أنّه

قد ذكر في وجه بعث الرّسل تفاصيل لا طائل تحتها، وسنذكر وجوهاً أربعة ممّا يمكن الإستدلال به علي وجوب البعثة، بمعني امتناع عدمه مختصراً مجملًا:

الأوّل: قاعدة اللّطف، ومعني وجوبه إمتناع عدمه، لا الوجوب التشريعي [1]، كما هو ظاهرٌ، والدليل علي امتناع عدمه: لزوم خروج الإله لولاه عن الألوهيّة، والتالي باطلٌ بالضرورة، فالمقدّم مثله.

[1] إرسال الرّسل ونصب الإمام واجبان علي اللَّه من باب اللّطف، لأنّه أوجب علي نفسه «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلي نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» «1»

، وهذا كقولنا العدل واجب علي اللَّه، واللطف واجب علي اللَّه، والرحمة واجبة علي __________________________________________________

(1) سورة الأنعام، الآية: 54.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 42

اللَّه، وأمثال ذلك هو بمعني: امتناع الظّلم عليه وامتناع عدم اللّطف بيان الملازمة: أنّه لا ريب في كون اللّطف من الصّفات الجماليّة الكماليّة، لحسنه المعلوم بالوجدان والمبرهن عليه في الكتب الكلاميّة، فيلزم اتّصافه سبحانه به، وبعث الرّسل لطفٌ، لأنّ الرّسول هادٍ من الضّلالة، مرشدٌ للناس إلي مصالحهم الجسميّة والعقليّة والدنيويّة والأخرويّة، فلو لم يبعث الرّسل لم يكن لطيفاً، ولو لم يكن لطيفاً لم يكن جامعاً للصّفات الجماليّة [1]، فيكون ناقصاً، والنّاقص لم يكن إلهاً، كما برهن في محلّه، لأنّه هو الجامع للصّفات الكماليّة، فيلزم من عدم بعث الرّسل عدم كونه إلهاً.

وامتناع عدم الرّحمة، ولا يتوهّم من قولنا هذا واجب علي اللَّه، إنّا نقصد الوجوب التشريعي، مثل قولنا الصّلاة واجبة علي العباد.

[1] قال الشيخ المفيد (قده): إنّ ما أوجبه أصحاب اللّطف (الإماميّة) من اللّطف، إنّما وجب من جهة الجود والكرم، لا من حيث ظنّوا (المعتزلة) أنّ العدل أوجبه وأنّه لو لم يفعله لكان ظالماً «1».

وقال المظفّر: إنّما كان اللّطف من اللَّه تعالي واجباً، فلأنّ اللّطف بالعباد من كماله المطلق وهو اللطيف

بعباده الجواد الكريم، فإذا كان المحلّ قابلًا ومستعدّاً لفيض الجود واللّطف، فإنّه تعالي لا بدّ أن يفيض __________________________________________________

(1) أوائل المقالات: 4/ 59 من مصنّفات الشيخ المفيد.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 43

وأمّا ما يقال من عدم المنافاة بين اللّطف وعدم البعث، لعدم انحصاره فيه، فمردودٌ، بأنّ المراد من اللّطف هو اللّطف المطلق، فلو لم يبعث لم يكن لطيفاً بقولٍ مطلق [1].

الثاني: أنّ بعث الرّسل واجب، وعدمه ممتنع، لأنّ علّة الإيجاد أي سبب خلق الخلق ليس إلّامعرفة اللَّه جلّ شأنه، كما يدلّ عليه لطفه، إذ لا بخل في ساحة رحمته ولا نقص في جوده وكرمه، وليس معني الوجوب هنا أنّ أحداً يأمره بذلك، فيجب عليه أن يطيع تعالي عن ذلك، بل معني الوجوب في ذلك هو كمعني الوجوب في قولك أنّه واجب الوجود أي اللزوم واستحالة الإنفكاك «1».

[1] قال السيد مهدي الصدر: قد تدارك اللَّه عزّ وجلّ البشر بلطفه، وانقذهم من مآسي التسيب والطغيان، بأن اختار منهم رسلًا وأنبياء وحلاهم بأرفع وأكمل الخصائص والمآثر، ليكونوا قادة الفكر ودعاة الإصلاح ورواد الفضائل، وجعلهم من البشر بمنزلة العقل من الإنسان والنور من البصر والشمس من الكواكب يستهدون بهم في متاهات الحياة ومسالكها المليئة بالأشواك والأخطار «2».

__________________________________________________

(1) عقائد الإمامية: 51.

(2) أصول العقائد في النبوة 2/ 20.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 44

البرهان [1]، والأخبار البالغة حدّ التواتر، والحديث القدسي [2]، وقد فسّر بعض الآيات [3] به، وهي أي معرفة اللَّه لا تحصل إلّابالبعث والإرسال، لأنّ العقول غير قابلة لمعرفتة، لأنّ غاية ادراكها المعقولات المستفادة من المحسوسات، ومعرفته تعالي بما لها من المزايا الخاصّة هي المعقولة من جميع الوجوه، كما هو ظاهرٌ، وعليه أخبارٌ كثيرة، فلو لم يبعث لزم نقض الغرض، ولا شكّ في

قبحه، لأنّه [1] قال السيد مهدي الصدر: قد أرسل اللَّه الأنبياء والمرسلين علي الخلق مبشّرين ومنذرين عبر العصور السالفة، وابتعث كلّ فرد منهم بدستور يلائم وعي أمته وظرفها الخاص متدرجاً بدساتيره وشرائعه نحو التكامل، حتي أكملها وختمها بالإسلام الخالد المواكب لأطوار الحياة والملائم بجميع العصور والأجيال «1».

[2] «كنت كنزاً مخفيّاً فأحببت أن اعرف، فخلقت الخلق لأعرف» «2».

[3] قال تعالي: «ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَاْلإِنْسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ» «3».

__________________________________________________

(1) أصول العقائد في النبوة 2/ 19.

(2) شرح أصول الكافي: للشيخ محمّد صالح المازندراني 1/ 106.

(3) سورة الذاريات، الآية: 56.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 45

ينشأ من البداء [1] أو عدم القدرة، وكلاهما محالان في حقّه تعالي، للزومهما النّقص، والنّاقص محتاج، والمحتاج ليس إلهاً.

[1] «البداء: كسلام، له معنيان:

الأوّل: البداء بمعني الظهور، بدا له في الأمر، إذا ظهر له استصواب شي ء غير الأوّل، وهو الظهور بعد الخفاء أو حصول العلم بعد أن لم يكن عالماً، مثلًا إذا قيل: بدا لفلان في أمره، معناه ظهر له ما كان مخفياً عليه، أو حصل له رأي ولم يكن سابقاً عالماً ومتنبهاً إليه.

والبداء بهذا المعني مستحيل علي اللَّه عزّ وجلّ، فإنّ علم اللَّه تعالي عين ذاته، فكيف يمكن دخول التغيير والتبديل فيه «لاتَبْديلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ» «1»

(وقال): «لاتَبْديلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» «2»

(وقال) «سُنَّةَ اللَّهِ الَّتي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْديلًا» «3».

وعلي هذا المعني يحمل ما ورد في الأخبار من استحالة البداء عليه تعالي، كما جاءت به الروايات عن الأئمّة المعصومين عليهم السّلام مثل:

__________________________________________________

(1) سورة يونس، الآية: 64.

(2) سورة الرّوم، الآية: 30.

(3) سورة الفتح، الآية: 23.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 46

1- «إنّ اللَّه لم يَبْدُ لَهُ مِنْ جَهْلٍ» «1».

2- «ما بدا للَّه في شي ء إلّاكان

في علمه قبل أن يبدو له» «2».

3- وعن الصّادق عليه السّلام قال: «من زعم أنّ اللَّه عزّ وجلّ يبدو له في شي ء [اليوم لم يعلمه أمس فابرؤا منه «3»» «4».

وهذا ما أراده السيّد الوالد قدّس سره من قوله: (فلو لم يبعث لزم نقض الغرض ولا شك في قبحه، لأنّه ينشأ من البداء أو عدم القدرة وكلاهما محالان في حقّه تعالي).

الثاني من معني البداء: هو إظهار ما كان مستوراً ومخفيّاً للغير، تارةً:

كان هناك مصلحة في إخفاء الأمر ثمّ تزول تلك المصلحة بحصول مصلحةٍ أخري تستوجب الكشف والإظهار، ويظهر به للمكلف ما لم يكن ظاهراً، ويحصل له العلم به بعد إن لم يكن عالماً، وفي هذه الصورة، الأمر الواقع لم يتغيّر ولم يتبدّل، وإنّما التبدل حصل في إظهار ذلك __________________________________________________

(1) الكافي 1/ 148، الرّقم 10، بابُ البداء.

(2) الكافي 1/ 148، الرقم 9، بابُ البداء.

(3) كمال الدين وتمام النعمة: 70، وبحار الأنوار 4/ 111، الرقم 30 وليس فيه كلمة «اليوم».

(4) راجع مجمع البحرين 1/ 167 و 168، وأجوبة مسائل جار اللَّه للسيّد شرف الدين: 100 باختلافات يسيرة.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 47

المكتوم بعد إخفائه، وتارةً: يكون بقاء الأمر الواقع منوطاً بوجود مصلحة محدودة بزمانٍ خاصّ، فعندما ينتهي ذلك الوقت وتزول المصلحة لا يبقي هذا الأمر، فيظهر من وجود أمر آخر إنّه تابع لمصلحة أخري، وفي هذه الصّورة لا يكون الأمر الواقع هو هو، وإنّما يتغيّر ويتبدّل للمصلحة، لأنّ الأمر الواقع الجديد مستحدث، كما هو الحال في النسخ الذي لا يتخلف عن البداء بشي ء سوي أن البداء في الأمور التكوينية والنسخ في الأمور الشرعيّة.

والبداء بهذا المعني بكلا شقّيه (مصلحة الإظهار وانتهاء زمان المصلحة) جائز علي اللَّه، إذ أنّه

لا يستلزم التردد والجهل بالأمور الواقعية أو مصالحها حتي تكون مستحيلًا علي اللَّه، وإنّما هو إظهار ما خفي علي الغير، وعلي هذا يحمل قوله تعالي «وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ» «1».

مثلًا قدّر اللَّه عمر إنسان حين صوّره ستّين أو سبعين سنة، لكنّه لو وصل رَحِمه، أو تصدّق بصدقة لأضيف لذلك العمر المقدّر حين التّصوير، ولو قطع رحمه أو فعل الذنب الذي يقطع العمر، لنقص ذلك __________________________________________________

(1) سورة الزمر، الآية: 47.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 48

العمر إلي الحدّ الذي يعلمه اللَّه».

قال الشيخ المفيد: «في معني البداء وما يذهب إليه أهل العدل خاصّة من الزيادة في الآجال والأرزاق، والنقصان منهما بالأعمال» «1».

هذا في الأمور التكوينية.

أمّا التشريعية، فلها أمثلة كثيرة في الكتاب والسنّة، واستدلّ المسلمون علي جوازه ووقوعه، منها: إنّ الصلاة كانت في بدء الإسلام إلي جهة بيت المقدس، ثم نسخت وتحوّلت إلي جهة بيت اللَّه الحرام، كما نطقت الآية «فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» «2».

ومنها: قصّة إبراهيم عليه السّلام وقوله لإبنه إسماعيل: «إِنّي أَري فِي الْمَنامِ أَنّي أَذْبَحُكَ» «3»

. ومعلوم أنّه رآه عن مكاشفة صدق لا مكاشفة كهانة أو تنجيم عن تجربة ناقصة، ولذا أراد أن يعمل بمقتضاه كان قوله حقّاً وصدقاً وعلمه مرضيّاً عند اللَّه تعالي حتّي إذا أخبره اللَّه بعلمه المكنون عنده بغير ما اطلع عليه أوّلًا من الأمور المدبّرة بالأسباب __________________________________________________

(1) أوائل المقالات من مصنّفات الشيخ المفيد 4/ 80.

(2) سورة البقرة، الآية: 144.

(3) سورة الصّافات، الآية: 102.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 49

الخاصّة المقدّرة، فعلم إبراهيم عليه السّلام ما لم يكن يعلم، إذ زعم إبراهيم أنّ غير الكائن هو الكائن، ثمّ ظهر له خلافه فيقال لمثل هذا، النّسخ.

والبداء «فهو ما أفاد النّسخ

بعينه، ويكون إطلاق ذلك عليه علي ضرب من التوسّع، وعلي هذا الوجه يحمل جميع ما ورد عن الصّادقين عليهما السّلام من الأخبار المتضمّنة لإضافة البداء إلي اللَّه تعالي، دون ما لا يجوز عليه، من حصول العلم بعد أن لم يكن، ويكون وجه إطلاق ذلك فيه تعالي والتشبيه، هو أنّه إذا كان ما يدلّ علي النسخ، يظهر به للمكلّفين ما لم يكن ظاهراً لهم، ويحصل لهم العلم به بعد أن لم يكن حاصلًا لهم، أطلق علي ذلك لفظ البداء» «1».

إذاً لو قالت الشيعة: بدا للَّه، لم يكن غلطاً، لأنّ البداء في التكوينيات نظير النسخ في التّشريعيّات، فكما أنّ النسخ إنتهاء أمد الحكم لا رفعه وإزالته، فكذلك حقيقة البداء إنتهاء اتصال إفاضة الوجود، لتضييق دائرة اقتضاء الشرائط والمعدات والقوابل والإستعدادات، وهذا معني الآية «يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ __________________________________________________

(1) عدّة الأصول 2/ 495 و 3/ 29.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 50

أُمُّ الْكِتابِ» «1»

أي إنّ عند اللَّه لوحين: لوح يصحّ فيه المحو والإثبات، ولوح ثابت لا يتغيّر، وهو اللوح المحفوظ.

بعبارة أخري: «فإنّ البداء الذي تقول به الشيعة الإماميّة، هو من الإبداء (الإظهار) حقيقة» «2».

«ثمّ إنّ البداء الّذي تقول به الشيعة الإمامية إنّما يقع في القضاء غير المحتوم، أمّا المحتوم منه فلا يتخلّف، ولا بدّ من أن تتعلق المشيّة بما تعلق به القضاء.

وتوضيح ذلك: إنّ القضاء علي ثلاثة أقسام:

الأوّل: قضاء اللَّه الذي لم يطلع عليه أحداً من خلقه، والعلم المخزون الذي استأثر به لنفسه، ولا ريب في أنّ البداء لا يقع في هذا القسم، بل ورد في روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السّلام، أنّ البداء إنّما ينشأ من هذا العلم».

الثاني: قضاء اللَّه الذي أخبر نبيّه وملائكته، بأنّه سيقع

حتماً، ولا ريب في أنّ هذا القسم أيضاً لا يقع فيه البداء وإن افترق عن القسم الأوّل،

__________________________________________________

(1) سورة الرّعد، الآية: 39.

(2) البيان في تفسير القرآن: 393.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 51

الثّالث: إنّ البشر فيه استعداد للكمال، وأن يترقي من حضيض الجهل إلي أوج المعرفة، فيلزم بعث الرّسل ليرشدوهم إلي المعارف الإلهيّة بحسب الطّاقة البشريّة، ويأخذ كلّ منهم نصيبه علي قدر استعداده، ولولا بعث الرّسل لزم تضييع هذه القابليّات، التي تسأل المبدأ الفيّاض بلسان حالها في استكمالها، ليصير ما بالقوة فعليّاً، ومن المعلوم إنّ عدم الإفاضة مع تماميّة المادّة القابلة، يلازم النقص بأنّ البداء لا ينشأ منه.

الثالث: قضاء اللَّه الذي أخبر نبيّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم وملائكته بوقوعه في الخارج، إلّاأنّه موقوف علي أن لا تتعلّق مشيئة اللَّه بخلافه.

وهذا القسم، هو الذي يقع فيه البداء: «يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» «1»

، «لِلَّهِ اْلأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ» «2»

وقد دلّت علي ذلك روايات كثيرة من الشّيعة والسنّة» «3»، «والبداء إنّما يكون في القضاء الموقوف المعبّر عنه بلوح المحو والإثبات، والإلتزام بجواز البداء فيه لا يستلزم نسبة الجهل إلي اللَّه سبحانه، وليس في هذا الإلتزام ما ينافي __________________________________________________

(1) سورة الرّعد، الآية: 39.

(2) سورة الرّوم، الآية: 4.

(3) البيان في تفسير القرآن: 386- 388.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 52

في المفيض من عجزٍ أو بخلٍ أو جهلٍ، تعالي اللَّه عن ذلك كلّه علوّاً كبيراً.

الرّابع: إنّ في البشر قُوي متعدّدة، أحدها العقل، والباقي هي القوي الحيوانيّة من الشهويّة والغضبيّة بما لهما من شّئونٍ كثيرة وتوابع غير حصيرة، ولولا بعث الرّسل ليقوموا بتنوير عقولهم وتربيتهم وإرشادهم إلي الخير والصّلاح، لاتّبعوا القوي الحيوانيّة، ولم يكن ما لهم من العقل الفطري

الأوّلي رادعاً وزاجراً، ولا مدركاً لتبعات ما يرتكبون في نشأتهم هذه، ولا في النشأة الأخري، وعند ذلك كان يختلّ النّظام أشدّ اختلال، ولهلك الحرث والنّسل، ولزم نقض الغرض من إيجاد النشأتين [1].

عظمته وجلاله «1»» «2».

[1] والعقول تتفاوت وتتناقض في تقييم الحقائق والحكم علي الأشياء، فقد يستحسن بعضها ما يستقبحه الآخر، أو يستقبح ما

__________________________________________________

(1) نفس المصدر: 391.

(2) راجع أوائل المقالات: 327- 329، ومجمع البحرين: 1/ 167- 168، و 2/ 98 و 562، وراجع للتفصيل: سفينة البحار، وأجوبة مسائل جار اللَّه للسيد شرف الدين، ونقض الوشيعة للسيد محسن الأمين، والإمامة الكبري للسيد محمد حسن القزويني الحائري، والبيان للسيد الخوئي، والشيعة والتشيع للشيخ محمد جواد مغنية، وعقائد الإمامية للشيخ محمد رضا المظفر، والشيعة والسنة في الميزان للشيخ سلمان الخاقاني.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 53

يستحسنه غيره، حسبك في ذلك ما شاع في هذا العصر من صنوف النظم والمبادي ء، كالديمقراطية والدكتاتورية والرأسمالية والشيوعية، فإنّها تمثل تناقض العقول، واختلاف مقاييسها في الحسن والقبح والخير والشرّ، وطالما ضلّت العقول، وانخدعت بالتقاليد الخرافية، والأعراف المقيتة، ففي الهند مثلًا قبائل تعمد علي حرق موتاها بالنار وذرّهم بالهواء، معتبرة ذلك من مظاهر توقير الميت وتكريمه، وفيها قبائل أخري تستحسن دفن المرأة الحية مع جثمان زوجها في قبر واحد، وهناك قوم آخرون ارتكست عقولهم إلي الدرك الأسفل من الغباء والإختلال، فغدوا يقدّسون الأبقار ويعبدونها ويتبرّكون بأبوابها، والعقل بعد هذا وذاك محدود القدرة والمكنة، فهو عاجز عن استقراء تجارب البشر وأحداث الحياة وأطوارها، عبر العصور الحاضرة والغابرة والآتية، ليخطط علي ضوئها دستوراً كاملًا شاملًا يسعد البشرية ويحقق السكينة والرخاء، وليس في وسع العقل ومقدوره أن يستطلع حقائق الآخرة، وما يحدث فيها من مفاهيم الحساب والثواب والعقاب، وصور

السعادة والشقاء، لوهنه وعجزه عن ذلك، والعقل أشبه ما يكون بالبصر في طاقته وأبعاد مرآه، فكما يستطيع البصر إدراك المرئيّات المحدودة بأمد معيّن، ويرتدّ عاجزاً كليلًا عمّا تجاوزه ونأي عنه، كذلك سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 54

أمّا الوجه الثالث أعني معني الأمّي وما قيل فيه، فنقول:

ذهب جماعة إلي أنّ معني الأمّي من لا يكتب ولا يقرأ، نسبةً إلي الأمّ، لأنّه كيوم ولادته من أمّه، فإنّ العرب كانوا أمّةً أُميّين. وهذا المعني هو الشّايع في الألسن في معني الأمّي.

وذهب آخرون: إلي أنّ المراد المنسوبون إلي مكّة، أي بعث في أهل مكّة، لأنّ مكّة تسمي «أُمَّ الْقُري «1»

، وفي النسبة يحذف جزؤه الثاني.

وروي القمي عن الصّادق عليه السّلام في الأميّين، قال عليه السّلام: «كانوا يكتبون ولكن لم يكن معهم كتاب من عند اللَّه ولا بعث إليهم رسولًا، فنسبهم اللَّه إلي الأميّين» «2»، وهذا معني ثالث للأمّي.

وأمّا الوجه الرابع: أي علّة البعث في الأميّين دون غيرهم، يمكن أن يقال: إنْ أخذ الأمّي بالمعني الأوّل، فمن لا يقرأ ولا يكتب العقل يستطيع إستجلاء الحقائق الداخلة في إطار قدرته وآماد وسعه، ويقصر عمّا وراء ذلك، وكما يستكشف المرأي الشاسع البعيد بالنواظير المقربة ويري واضحاً جلياً، كذلك العقل يستجلي ويستكشف ما قصر

__________________________________________________

(1) سورة الأنعام، الآية: 92، وسورة الشوري، الآية 7.

(2) تفسير القمي 2/ 366.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 55

هو أحوج إلي المرشد والهادي ممّن يقرأ ويكتب، لأنّه يمكن الهداية في حقّه ولو إجمالًا بقرائة الكتب السّماوية والعمل بها، بخلاف من لا يقرأ ولا يكتب، فإنّه بعيد عن الهداية غاية البعد. ويمكن أن يكون من علله إظهار لطفه تعالي، بأنّه لطيف غاية اللطف، لملاحظة حال الجهّال فكيف بالعلماء [1].

وإنْ أخذ بالمعني الثاني، أي المنسوبون

إلي أمّ القري وهم أهل مكّة، فالعلّة أوضح، لأنّ مكّة كانت مرجعاً للخلائق يقصدونه ويأتون من كلّ فجّ عميق ومكان بعيد، فكون الرّسول صلّي اللَّه عليه وآله فيها أقرب إلي انتشار الأحكام من كونه في بلد بعيد ليس معبراً ولا مقصداً.

عن وعيه وادراكه بالإستهداء بالأنبياء عليهم السّلام والإستعانة بهم علي ذلك، وهذا برهان صارخ علي افتقار العقول إلي هدي الأنبياء عليهم السّلام وعجزها عن الإستقلال بهداية البشر «1».

[1] قال المراغي: وتخصيص الأميّين بالذكر، لا يدلّ علي أنّه لم يرسل إلي غيرهم، فقد جاء العموم في آيات أخري كقوله: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلّا رَحْمَةً لِلْعالَمينَ» «2»

وقوله: «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنّي رَسُولُ __________________________________________________

(1) أصول العقيدة للسيد مهدي الصّدر 2/ 24.

(2) سورة الأنبياء، الآية: 107.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 56

وممّا ذكر، ظهر علّة البعث فيهم إن أخذ بالمعني الثالث، أعني ما تضمّنه الحديث في معني الأمّي.

وأمّا الوجه الخامس: وهو سبب كون الرّسول صلّي اللَّه عليه وآله منهم، حيث أنّ الضمير لوحظ فيه معني الأمية [1]، لأنّ المراد كونه من جنس البشر، لبعده عن توهّم استعانته علي ما أتي من الشرايع والإعجاز بالكتب السابقة، لأنّه لو لم يكن منهم لأمكن أن يقولوا بأنّ إخباره عن الأمم الخالية والسنين الماضية مأخوذة عن الكتب السماوية، فكونه منهم أدلّ دليل وبرهان ومعجزة، بأنّه مبعوث من قبل اللَّه تعالي، لظهور أنّ الأمّي- علي جميع التفاسير السابقة،

اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَميعًا» «1»

وقوله: «لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ» «2» «3».

[1] قال الشيخ الطوسي قدّس سره: إنّ (الأميّة) في النّبي صلّي اللَّه عليه وآله فضيلة، وفي غيره نقيصة، لأنّ النبي عليه السّلام كان يخبر عن اللَّه إخبار الأنبياء، فإذا كان أمّياً كان أبلغ لمعجزته وأدلّ علي نبوّته، لأنّه يخبر

عن اللَّه تعالي، قال اللَّه: «وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ __________________________________________________

(1) سورة الأعراف، الآية: 158.

(2) سورة الأنعام، الآية: 19.

(3) تفسير المراغي 28/ 95.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 57

سواء أخذ بمعني من لا يقرأ ولا يكتب، أو المنسوب إلي أمّ القري، أو الذي لم يكن معه كتاب من عند اللَّه ولا بعث إليه رسول- لا يقدر علي خوارق العادة من الفصاحة البالغة حدّ النهاية، والقوانين المتقنة غاية الإتقان، والإخبار عن الأمم السّالفة.

أمّا إنْ أخذ الأمّي بالمعني الأوّل، أي غير العارف بالقراءة والكتابة فظاهر، كما مرّ من أنّ غير القاري ء لا يتمكّن من قرائة الكتب السّالفة حتي تعينه علي الإخبار عن الأمم السّابقة والقرون الماضية، وغير الكاتب لا يقدر علي المكاتبة إلي البلدان العلميّة، ليستفيد منها الأخبار.

ولا يخفي أنّه لا منافاة بين كونه صلّي اللَّه عليه وآله أمّياً- بمعني عدم عرفانه للقرائة والكتابة- وبين الرّواية المرويّة في العلل وَلا تَخُطُّهُ بِيَمينِكَ إِذًا لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ» «1»

يعني أنّ المبطل يرتاب لو كان يكتب، فلهذا كان فضيلة وليس كذلك غيره، لأنّه إذا لم يكتب كان نقصاً فيه … والذي يقتضيه مذهبنا …

أنّ النّبي عليه وآله السّلام عندنا كان يحسن الكتابة بعد النبوّة، وإنّما لم يحسنها قبل البعثة «2».

__________________________________________________

(1)

سورة العنكبوت، الآية: 48.

(2) المبسوط في فقه الإمامية 8/ 119، كتاب آداب القضاء.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 58

عن الجواد عليه السّلام المتضمّنة لتكذيب من قال بأنّ سبب تسمية النّبي صلّي اللَّه عليه وآله أمّياً، أنّه لم يحسن أن يكتب [1]، لأنّ المراد بالأوّل أنّه لا يعرف الكتابة والقرائة عن منشأ التعلم بالأسباب الظاهرية، فيكون من حيث عدم التعلّم بالأسباب الظّاهرية كيوم ولدته [1] عن جعفر بن محمّد الصوفي قال: «سألت أبا جعفر

محمّد بن علي الرضا عليهما السّلام فقلت: يابن رسول اللَّه، لِمَ سمّي النّبي الأمّي؟

قال: ما يقول الناس؟ قلت: يزعمون أنّه إنّما سمّي الأمي لأنّه لم يحسن أن يكتب، فقال عليه السّلام كذبوا عليهم لعنة اللَّه، أني ذلك واللَّه يقول في محكم كتابه «هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي اْلأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» فكيف كان يعلمهم ما لا يحسن، واللَّه لقد كان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله يقرأ ويكتب باثنتين وسبعين أو قال بثلاثة وسبعين، أو قال بثلاثة وسبعين لساناً، وإنّما سمّي الأمي لأنّه كان من أهل مكّة، ومكّة من أمّهات القري، وذلك قول اللَّه عز وجل «وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُري وَمَنْ حَوْلَها» «1».

وعن عليّ بن أسباط وغيره رفعه عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

قلت إنّ الناس يزعمون أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله لم يكتب __________________________________________________

(1) سورة الأنعام، الآية: 92، وسورة الشوري، الآية: 7.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 59

أمّه والرواية متضمّنة لقدرته حالًا عن أيّ سبب كان، لأنّه عليه السّلام في مقام ردّ من قال بعدم قدرته صلّي اللَّه عليه وآله، وأنّه صلّي اللَّه عليه وآله لم يحسن الكتابة، كما عرفت.

وتسميته بالأمّي بالمعني الثّاني لكونه من أهل مكّة المتعرّض له في الحديث أيضاً، غير مناف، لأنّه مقابل للأمّي بمعني عدم القدرة وعدم التعلّم بالأسباب الظّاهرية.

وأمّا القدرة علي ما ذكر من الإعجاز وغيره، إنْ أخذ بمعني المنسوب إلي أمّ القري، فلأنّ أهل مكّة كانوا في غاية الجهل والضّلالة في ذلك الزمان، فلا يمكن أن يكون أحدهم عالماً بهذه المثابة الخارجة عن قدرة البشر وعن طرق العلماء، فكيف بالجهلاء، إلّا أن يكون مربوطاً بالعالم العلوي.

ولا يقرأ، فقال عليه السّلام: «كذبوا لعنهم اللَّه،

أنّي يكون ذلك، وقد قال اللَّه عزّ وجلّ «هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي اْلأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مُبينٍ» فكيف يعلّمهم الكتاب والحكمة وليس يحسن أن يقرأ ويكتب؟ قال: قلت فلم سمّي النبي الأمّي؟ قال: لأنّه نسب إلي مكّة وذلك قول اللَّه عزّ وجلّ «لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُري وَمَنْ حَوْلَها» فأمّ القري مكّة، فقيل أمّي لذلك «1».

__________________________________________________

(1) علل الشرائع 1/ 124.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 60

وأمّا إنْ أخذ بالمعني الثالث، فظاهر من المعني الثاني، فإن كونه في مكّة مستلزم لعدم العلم مع الحالة التي عليها أهلها.

وقد ظهر من هذه الوجوه، وجه إرتباط الآية بما قبلها، فإنّ من يفعل مثل هذه الأمور هو الحكيم المطلق، وغيره لا يقدر علي مثلها، فتكون هذه الآية بمنزلة البرهان الإنّي [1] للآية المتقدمة، كما هو ظاهر، ولا يخفي لطفه.

«يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مُبينٍ» [2].

[1] البرهان إمّا لميّ، وهو ما ينتقل فيه من العلّة إلي المعلول، وإمّا إني، وهو ما ينتقل فيه من المعلول إلي العلّة، فالآية تكون برهاناً إنّياً، علي أنّه سبحانه ملك وحكيم علي الإطلاق.

[2] قال العلّامة الطباطبائي: وليس الحقّ إلّاالرأي والإعتقاد الذي يطابقه الواقع ويلازمه الرشد من غير غيّ، وهذا هو الحكمة. الرأي الذي أحكم في صدقه فلا يتخلله كذب، وفي نفعه فلا يعقبه ضرر، وقد أشار تعالي إلي اشتمال الدّعوة علي الحكمة بقوله: «وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» «1»

ووصف كلّاً من المنزل به، فقال: «وَالْقُرْآنِ الْحَكيمِ» «2»،

__________________________________________________

(1) سوره النساء الاية 113.

(2) سوره يس الاية 2.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 61

الظّاهر: إنّ الآيات هي التي من شأن الرّسول أن توحي

إليه، فكان صلّي اللَّه عليه وآله يتلوها عليهم. ويمكن أن يراد بتلاوة الآيات إرائتهم علامات اللَّه الدّالة علي وجوده سبحانه، واستجماعه للصّفات الجلاليّة والجماليّة، لأنّ الأشياء كما تقدّم كلّها مداليل علي اللَّه، تدلّ علي مالكيّته وتنزّهه وعزّته وحكمته.

ثمّ يمكن أن يكون المراد من قوله تعالي «وَيُزَكِّيهِمْ» [1] أي عن الشّرك والإلحاد والجهل.

وعدّ رسوله، صلّي اللَّه عليه وآله، معلّماً للحكمة في مواضع من كلامه كقوله «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» «1»

، فالتعليم القرآني الذي تصدّاه الرّسول صلّي اللَّه عليه وآله، المبيّن لما نزل من عند اللَّه من تعليم الحكمة، وشأنه بيان ما هو الحقّ في أصول الإعتقادات الباطلة الخرافية التي دبت في أفهام الناس من تصور عالم الوجود وحقيقة الإنسان الذي هو جزء منه … «2»

[1] قدّم التزكية هيهنا علي تعليم الكتاب والحكمة، بخلاف ما في __________________________________________________

(1) سورة الجمعة، الآية: 2.

(2) الميزان في تفسير القرآن 19/ 313.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 62

«وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ» [1] النازل عن اللَّه، أو ما كتب عليهم من الأحكام الثابتة في الشريعة.

«وَالْحِكْمَةَ» أي الأخلاق الإنسانيّة، وقد اندرجت في هذه الكلمة المباركة جميع الحكم التي هي للأنسان في نفسه من مكرمات الفضائل وماله في المجتمع المدني من التدابير الصالحة القيّمة، فإنّ دعوة: ابراهيم عليه السّلام «1». لأنّ هذه الآية تصف تربيته صلّي اللَّه عليه وآله لمؤمني أمّته، والتّزكية مقدّمة في مقام التّربية علي تعليم العلوم الحقّة والمعارف الحقيقية، وأمّا ما في دعوة إبراهيم عليه السّلام، فإنّها دعاء وسؤال أن يتحقّق في ذريّته هذه الزكاة والعلم بالكتاب والحكمة، والعلوم والمعارف أقدم مرتبةً وأرفع درجةً في مرحلة التحقق، والإتّصاف من الزكاة، الرّاجعة إلي الأعمال والأخلاق «2».

[1] عن ابن عباس قال: «الكتاب: القرآن، والحكمة: ولاية عليّ بن أبي طالب

عليه السّلام» «3».

__________________________________________________

(1)

سورة البقرة، الآية: 129 في قوله تعالي: «رَبَّنا وَابْعَثْ فيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ».

(2) الميزان في تفسير القرآن 19/ 306.

(3) شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني 2/ 253.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 63

الحكمة- كما قدّمناه- تشمل النظريّة والعمليّة [1].

[1] قال صدر المتألهين: أمور ثلاثة:

الأوّل: في الحكمة العمليّة، المبيّنة للأفعال والأعمال، الشارحة للأخلاق والآداب، المفيدة للعبد قطع تعلّقه عن الأسباب، وترك التفاته إلي الدنيا وما فيها، ورفع الغشاوات والحجب عن وجه قلبه بالكليّة.

وهذه الأحكام والأعمال العمليّة والمعالم الأدبيّة تثبت في القرآن علي أبلغ وجه وآكده، كما أشار إليه صلّي اللَّه عليه وآله بقوله: «أدّبني ربّي، فأحسن تأديبي» «1».

الثّاني: في الحكمة العلميّة، والمعارف الّتي يبلغ إليه عقول العلماء والحكماء بقوّتهم الفكرية، بتعليم الأنبياء والأولياء عليهم السّلام إيّاهم.

وهذان القسمان من العلوم والمعارف الّتي يقع فيها الإشتراك لساير الكتب السماوية مع القرآن، لكن يكون ما في القرآن أوثقها برهاناً وأجلّها شأناً، وأرفعها رتبةً، وأعلاها مأخذاً، وأقومها غايةً، وإليه الإشارة بقوله تعالي «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدي لِلَّتي هِيَ أَقْوَمُ» «2»

وبقوله __________________________________________________

(1) مجمع البيان 5/ 333، والجامع الصغير 1/ 14، وبحار الأنوار 16/ 210.

(2) سورة الإسراء، الآية 9.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 64

«وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» «1»

وقوله تعالي «وَمُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ» «2».

الثّالث: في الحكمة الّتي لا يبلغ إلي طورها إلّاالخلّص من أحبّاء اللَّه وأوليائه الصالحين، وهي المشار إليها في قوله «سَنُريهِمْ آياتِنا فِي اْلآفاقِ وَفي أَنْفُسِهِمْ حَتَّي يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلي كُلِّ شَيْ ءٍ شَهيدٌ» «3»

وهذه الحكمة من خواصّ المحبوبين للَّه، كما أنّ الحكمتين الأوليين من خواص المحبّين للَّه. وإليهم الإشارة في قوله تعالي

«فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» «4».

وفي الحديث الإلهي: «لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتّي أحببته» «5» «6».

قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: «قال اللَّه عزّ وجلّ ما زال العبد

__________________________________________________

(1) سورة النساء، الآية: 26.

(2) سورة الصّف، الآية: 6.

(3) سورة فصّلت، الآية: 53.

(4) سورة المائدة، الآية: 54.

(5) التوحيد: 400.

(6) تفسير صدر الدين الشيرازي 7/ 157- 158.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 65

ويرد هنا ما قلناه في تفسير الآية السّابقة، في كونه دليلًا وحجّةً للرّسالة والبعث، فإنّ من كان بحسب الظاهر في الجهّال ولم يكن عنده عالم يسأل عنه، لا يقدر علي الأمور الثلاثة، إلّاأن يكون رسولًا مبعوثاً من قبل اللَّه تعالي حتّي يتمكّن من ذلك، كما هو ظاهر.

وقوله تعالي «وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مُبينٍ» إن مخففّة عن المثقّلة وبمثابة: ولقد كانوا من قبل كذلك. والآية بيان لشدّة إحتياجهم إلي الرّسول صلّي اللَّه عليه وآله، وقد اقتضي بعثه إليهم العزّة والحكمة السابقتان في الآية السابقة.

«وَآخَرينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ* ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظيمِ». «وَآخَرينَ مِنْهُمْ» [1] عطف علي الأميّين، فيكون المعني: بعث يتقرّب إليّ بالنوافل حتّي أحببته فكنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش به، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني أعطيته، وإن استعاذني أعذته» «1».

[1] في تفسير القمي: دخلوا في الإسلام بعدهم «2».

__________________________________________________

(1) مجموعة الأخبار في نفائس الآثار، للشيخ النمازي، والكافي 2/ 352، الرّقم 7، باختلاف يسير.

(2) تفسير القمّي: 366.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 66

في الأميين. وآخرين أي الّذين لم يكونوا منسوبين إلي أمّ القري، أو لم يكونوا لا يعرفون القرائة والكتابة، أو غير المبعوث إليهم نبيّ، أو من كان

في أصلاب هؤلاء، كما في بعض الرّوايات النبويّة، أو من كان من غير العرب كالفرس، كما في الروايات الآخر، علي اختلاف الأقوال، أو عطف علي ضمير «وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ».

ولا يخفي ما في هذه الآية من اللّطف، حيث أنّه لو لم يذكر «وَآخَرينَ» لتوهّم إختصاص رسالة النّبي بقوم أو بمكان خاصّ، لظاهر الآية السابقة، فكان قوله «وَآخَرينَ» إستدراكاً، ومن هنا ظهر ربط هذه الآية بسابقها. والسرّ في ذكر كلمة «منهم» علي بعض الأقوال واضح، وعلي الأقوال الأخر هو صيرورتهم منهم، أي مؤمنين لو أسلموا، فإنّ المؤمنين بعضهم من بعض [1] واللَّه العالم.

«لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ» أي بعد لم يلحقوا بهم، فإنّ (لمّا) لانتظار الوقوع، وليس المراد عدم لحوق الآخرين في الفضيلة بهم لكونهم أدركوا صحبة النبي صلّي اللَّه عليه وآله، لظهور أنّ الفضل ليس [1] قال صلّي اللَّه عليه وآله: «المؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد، إذا اشتكي تداعي عليه سائر جسده» «1».

__________________________________________________

(1) البحار 20/ 127.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 67

بذلك بل بالأيمان والتّقي، أي ليس بالمصاحبة البدنيّة بل بالمصاحبة الرّوحية والنّفسية، فإنّ الأكرم عند اللَّه هو الأتقي، فالآخرون علي الأظهر هم غير العرب الأميّين من سائر العرب والعجم في ذلك الزّمان وفي ما يأتي من بعد الصّحابة إلي يوم القيامة، لأنّ نبوّته عامة كما ذكر، لا تختص بقوم دون قوم أو زمان دون زمان.

وأمّا ما رُوِيَ عن أبي جعفر عليه السّلام عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله، أنّه صلّي اللَّه عليه وآله قرأ هذه الآية، فقيل له: من هؤلاء؟

فوضع يده علي كتف سلمان وقال: لو كان الإيمان في الثريا لنالته رجال من هؤلاء [1]، فالظّاهر أنه تعيين للمصداق ولم يرد الإنحصار في المشار إليهم في الرواية، فلا ينافي نبوّته العامة

ولا يتوهم ذلك.

وفيه إشارة إلي عدم استغناء العلماء عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله، وأنّه ليس بمبعوث إلي الأمّيين والجهال فقط، فإنّ من يستعد لأن ينال الإيمان ولو كان في الثريا، إنّما هو في غاية الفطنة وكمال الدّقة، ومع ذلك محتاج إلي النبي صلّي اللَّه عليه وآله.

[1] وكانوا أهلًا لذلك، ولهذا كتب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله لحيّ سلمان بكازرون عهداً وثيقاً للمؤبذه والهوانده وعشيرتهم وذراريهم: بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم هذا كتاب من محمّد بن عبداللَّه سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 68

رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله سأله الفارسي سلمان وصية بأخيه مهاد بن فرّخ بن مهيار، وأقاربه وأهل بيته وعقبه من بعده ما تناسلوا من أسلم منهم وأقام علي دينه.

سلام اللَّه وأحمد اللَّه إليكم: إنّ اللَّه تعالي أمرني أن أقول لا اله إلّا اللَّه وحده لا شريك له، أقولها وآمر الناس بها، والخلق خلق اللَّه والأمر كلّه للَّه، خلقهم وأحياهم وأماتهم وهو ينشرهم وإليه المصير … وهذا كتابي أنّ لهم (لحيّ سلمان) ذمّة اللَّه وذمّة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله علي دمائهم وأموالهم في الأرض التي أقاموا عليها، سهلها وجبلها وعيونها ومراعيها غير مظلومين ولا مضيق عليهم، فمن قري ء عليه كتابي هذا من جميع المؤمنين فليتحفّظهم ويبرهم ويحوطهم ويمنع الظّلم عنهم لا يتعرّض لهم بالأذي والمكاره، وقد رفعت عنهم جزا الناصية والجزية والخمس والعشر وسائر المؤن والكلف، فإن سألوكم، فأعطوهم، وإن استغاثوا بكم، فأغيثوهم، وإن استجاروا بكم فأجيروهم، وإن أساءوا فاغفروا لهم، وإن أسيي ء إليهم فامنعوا عنهم، وليعطوا من بيت المال في كلّ سنة مأة حلّة في شهر رجب، ومن الأواقي مأة في الأضحية وأيديهم طلقة علي بيوت النيران وضيائها وأموالها ولا

سلسلة

النقد والتحقيق، ج 3، ص: 69

يمنعونهم من اللباس الفاخرة، والركوب وبناء الدور وحمل الجنائز وإتّخاذ ما يجدون في دينهم ويفضّلونهم علي سائر الملل من أهل الذمّة، فقد استحقّ سلمان ذلك من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، ولأنّ فضل سلمان علي كثير من المؤمنين، وأنزل إليّ الوحي حقّ سلمان واجب علي جميع المؤمنين، وإنّ الجنة إلي سلمان أشوق من سلمان إلي الجنّة، وسلمان منّا، فلا يخالفني أحد هذه الوصيّة فيما أمرت به، ومن خالف فقد خالف اللَّه ورسوله وعليه اللّعنة إلي يوم الدين، ومن أكرمهم فقد أكرمني، وله عند اللَّه خير وثواب، ومن آذاهم فقد آذاني وأنا خصمه يوم القيامة، جزائه جهنّم وبرئت ذمّتي والسّلام عليكم وليحيّيكم ربّكم.

كتب عليّ بن أبي طالب عليه أفضل الصّلاة والسّلام بأمر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، وبحضوره في رجب- سنة تسع الهجرة- شهد علي ذلك سلمان وأبوذر وعمّار وبلال والمقداد، وأعطاهم عليّ بن أبي طالب عليه السّلام عهد مثل ما أعطاهم النّبي صلّي اللَّه عليه وآله وكتبه حسين بن عليّ عليه السّلام في رجب سنة تسع وثلاثين من هجرة النبي صلّي اللَّه عليه وآله «1».

__________________________________________________

(1) المناقب لابن شهر آشوب 1/ 97 وكلمة طيّبة: للميرزا النوري: 42 و 46.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 70

«وَهُوَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ» فيه من البلاغة ما لا يخفي، فقد أقام العلّة مقام الإخبار بما سيكون حتي يستكشف به لميِّاً، وبمثابة أن يقال إنّ الآخرين سيلحقون بهم، لأنّه هو العزيز الحكيم، فإنّ العزّة تقتضي صدور النفع والخير، والحكمة تقتضي التربية والتكميل بالتدابير المناسبة. أو كأنّه برهان، لعطف الآخرين علي الأميّين، وصيرورتهم مثلهم في بعث الرّسول صلّي اللَّه عليه وآله وشؤونه من التّزكية والتّعليم، فإنّهم محتاجون إلي المنحة

الإلهيّة، كما قد احتاجوا أولئك، وإنّ بعث الرّسول من أجلّ المنح وأعظم المواهب، فالعزّة [1] والحكمة تقتضيان شمولها لهم كما شملهم.

ثمّ اعلم، أنّه لمّا كان المقام في معرض سؤال إنّ اللَّه لِمَ جعل [1] قال نصير الدين الطّوسي قدّس سرّه: البعثة حسنة، لاشتمالها علي فوائد كمعاضدة العقل فيما يدلّ عليه، واستفادة الحكم فيما لا يدلّ العقل، وإزالة الخوف، واستفادة الحسن، والقبح والمنافع، والمضارّ، وحفظ نوع الإنساني، وتكميل أشخاصه بحسب استعداداتهم المختلفة، وتعليمهم الصنائع الخفيّة، والأخلاق، والسياسات، والإخبار بالعقاب والثواب، فيحصل اللّطف للمكلّف «1».

__________________________________________________

(1) تجريد الإعتقاد بشرح العلّامة: 468.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 71

الرّسول في الأميّين وجعله منهم، ولِمَ اختصوا بهذه المنحة، ولِمَ اختص صلّي اللَّه عليه وآله من بينهم بهذه الكرامة؟ فناسبه الجواب بأنّ:

«ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظيمِ» يعني:

إنّ فضل اللَّه ومنحته، يؤتيه من يشاء ويجعله في من يشاء، بمقتضي حكمته البالغة وفضله السّابق الكامل لا ينازع فيما يفعل [1].

«مَثَلُ الَّذينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ [1] قال صدر المتألّهين: تأمّل أيّها العارف، إنّ اللَّه تعالي ما أعطي لعباده إلّاالقليل من العلم، لقوله: «وَما أُوتيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلّا قَليلًا» «1»

وسمّي الدّنيا بحذافيرها قليلًا: «قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَليلٌ» «2».

ثمّ قال في العلم الموهوب لعباده: «ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتيهِ مَنْ يَشاءُ» «3»

وقال أيضاً: «وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثيرًا» «4»

فانظر كم مقدار هذا القليل، حتّي تعرف عظمة ذلك العظيم الكثير «5».

__________________________________________________

(1)

سورة الإسراء، الآية: 85.

(2) سورة النساء، الآية 77.

(3) سورة المائدة، الآية 54.

(4) سورة البقرة، الآية: 269.

(5) تفسير صدر الدين الشيرازي: 7/ 167.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 72

أَسْفارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لايَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمينَ».

يقعُ

الكلام في هذه الآية المباركة من وجوه عشرة:

الأوّل: الربط بين هذه الآية والآية المتقدّمة.

الثاني: سبب قوله تعالي «حُمِّلُوا» بلفظ الفعل المبني للمفعول دون حَمَلُوا.

الثالث: وجه اختصاص المثل باليهود، أعني أهل التوراة، دون غيرهم مع مشاركة غيرهم معهم في الكفر.

الرابع: علّة العطف بثُمّ، الدالة علي التّراخي، دون غيرها من حروف العطف كالواو والفاء.

الخامس: سبب قوله «لَمْ يَحْمِلُوها» معلوماً لا مبنيّاً للمفعول كالأوّل.

السادس: علّة التمثيل بالحمار دون غيره من الحيوانات.

السابع: سبب قوله «يحمل» معلوماً لا يحمل مجهول الفاعل، مع أنّه لا يَحمِل بل يُحمّل.

الثامن: وجه التعبير بقوله تعالي «بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذينَ كَذَّبُوا».

مع كون المثل في أوّل الآية لليهود فقط، الّذين هم أهل التوراة، فلم يقل سبحانه وتعالي: بئس مثلهم، مع أنّه أخصر.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 73

التاسع: معني التّكذيب وأقسامه وموارده.

العاشر: وجه قوله تعالي: الظالمين دون الضالين وغيره، كالفاسقين والكافرين وشبههما.

أمّا الوجه الأوّل، أعني وجه الرّبط، يمكن أن يقال: هو أنّه تعالي لما بيّن بعثته صلّي اللَّه عليه وآله إلي الجميع، وأنّه مبعوث إلي الأميّين وآخرين، أعرب عن لزوم اتباع الكلّ له صلّي اللَّه عليه وآله، لظهور إنّ كلام المولي للعبيد مثلًا: (بعثت إليكم الرجل الفلاني لإبلاغ أوامري وإجراء أحكامي) مستلزم لأمره لهم باتباعه وقبول أوامره، وحيث أنّ كلّ من لم يتّبعه صلّي اللَّه عليه وآله، أو رفض اتباعه، يستحقّ التوبيخ، ذكر توبيخ الأمّة السّالفة، وهو في الحقيقة توبيخ لكلّ من كان كذلك، فإنّ التوبيخ كما يكون بالتصريح كذلك يكون بالإيماء، نظير: (إياك أعني واسمعي يا جارة).

ويمكن التّقريب بنحو آخر: إنّ قوله «مَثَلُ الَّذينَ …»، بمثابة الجواب عن سؤال مقدّر، هو أنّه لم لا يؤمن اليهود بهذا النّبي المبعوث للأميّين والآخرين؟ فكان الجواب: إن التّبشير ببعثه

وإن كان في التّوراة مذكوراً [1] لكن مثلهم مثل الحمار، بعد أن لم يحملوا ما حملوه.

[1] التّوراة التي بين أيدينا، بشّرت بمجي ء نبيّنا محمّد صلّي اللَّه سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 74

وهناك تقريب ثالث، سيأتي في الوجه الثالث.

عليه وآله، فقد جاء في سفر التثنية: (يقيم لك الرّب إلهك نبيّاً من وسطك من أخوتك مثلي له تسمعون حسب كلّ ما طلبت من الرّب إلهك في حوريب يوم الإجتماع قائلًا: لا أعود أسمع صوت الرّب، إلهي ولا أري هذه النار العظمية أيضاً لئلّا أموت، قال لي الرّب: قد أحسنوا في ما يكلّموا، أقيم لهم نبيّاً من وسط إخوتهم مثلك، واجعل كلامي في فمه فيكلّمهم بكلّ ما أوصيه به، ويكون إنّ الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلّم به باسمي أنا أطالبه، وأمّا النّبي الّذي يطغي، فيتكلّم باسمي كلاماً لم أوصه إن يتكلم به، أو الذي يتكلّم باسم آلهة أخري فيموت ذلك النّبي، وإن قلت في قلبك:

كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرّب، فما تكلّم به النّبي باسم الرّب ولم يحدث ولم يصر، فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرّب، بل بطغيان تكلّم به النبي فلا تخف منه) «1».

وجملة (يقيم لك الرب إلهك نبيّاً من وسطك من إخوتك) دليل علي أنّ محمّداً صلّي اللَّه عليه وآله من ولد إسماعيل عليه السّلام وموسي من ولد أخيه، وإنّ اللَّه بشّر إبراهيم بأنّ إسماعيل وذريته __________________________________________________

(1) سفر التثنية، الإصحاح 18/ 337.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 75

وأمّا الوجه الثاني، وهو سبب قوله تعالي «حُمِّلُوا» بلفظ المبنيّ للمفعول دون حَملُوا معلوماً: فيمكن أن يكون بياناً وإظهاراً للجاجتهم وعنادهم، وإنّهم ما قبلوا أحكامها إلّابإرائتهم الآيات المخوفة، كنتق الطود فوقهم [1]، كما هو المعلوم

من حالهم، مع يكونون أنبياء «1».

[1] قال اللَّه تعالي: «وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» «2»

. ولمّا رجع موسي عليه السّلام من الطور فأتي بالألواح، فقال لقومه جئتكم بالألواح وفيها التوراة والحلال والحرام فاعملوا بها، قالوا: ومن يقبل قولك؟ فأرسل اللَّه عزّ وجلّ الملائكة حتّي نتقوا جبل الطّور العظيم فوق رؤوس بني إسرائيل وكانوا فرسخاً في فرسخ، فرفع اللَّه الجبل فوق رؤوس جميعهم «كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ» أي غمامة، فقال لهم موسي عليه السّلام إن قبلتم ما آتيتكم به وإلّا أرسل الجبل عليكم «وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ» أي علموا وأيقنوا فأخذوا التّوراة وسجدوا للَّه تعالي ملاحظين إلي الجبل، فمِن ثَمّ يسجد اليهود علي أحد شقيّ وجوههم «وَاذْكُرُوا ما

__________________________________________________

(1) سفر التكوين، الإصحاح 17/ 236، وقاموس الكتاب المقدس «اسمعيل»: 16.

(2) سورة الأعراف، الآية: 171.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 76

موسي علي نبيّنا وآله وعليه السّلام المتواتر في الأخبار، فكأن أحكام التوراة حُمّلت عليهم بالقهر والإجبار، لا أنّهم حملوها بالطوع والإختيار [1]. كما يمكن أن يكون بياناً لمشقّة تلك الأحكام في فيهِ» أي إحفظوا ما في التوراة من الحلال والحرام، ولا تنسوا من العهود والمواثيق التي أخذناها عليكم بالعمل بما في التوراة «1».

[1] إنّ التّوراة الموجودة لدي اليهود، ليست توراة موسي عليه السّلام بل وجدت في زمن ملك (يوشيا) إبن آمون سنة 609 قبل المسيح، وكان الملك مؤمناً وهو الذي طهر يهوذا واورشليم من معابد الشرك.

قال (حلقيا) الكاهن العظيم رئيس الكهنة (لشافان) الكاتب: قد وجدت سفر الشريعة في بيت الرّب وأخبر شافان الكاتب الملك قائلًا قد أعطاني حلقيا الكاهن سفرا، وقرأه شافان أمام الملك، فلمّا سمع الملك كلام سفر الشريعة فرق

ثيابه، وأمر الملك حلقيا وجماعة من خواصّه قائلًا إذهبوا إسألوا الرّب لأجلي ولأجل الشعب ولأجل كلّ يهوذا من جهة كلام هذا السفر الذي وجد، لأنّه عظيم هو غضب الرّب الذي اشتغل علينا من أجل إن آبائنا لم يسمعوا لكلام هذا السفر، ليعلموا

__________________________________________________

(1) راجع مجمع البيان، سورة البقرة، ذيل الآية 63، وسورة آل عمران، الآية 171.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 77

نفسها، فإنّها كانت في غاية الصّعوبة [1] إذا قيست بأحكام الإسلام، كما هو ظاهر.

حسب كلّ ما هو مكتوب علينا …

وجاء في الإصحاح: «وأرسل الملك، فجمعوا إليه كلّ شيوخ يهوذا واورشليم، وصعد الملك إلي بيت الرّب، وجمع رجال يهوذا وكلّ سكان أورشليم معه والكهنة والأنبياء وكلّ الشعب من الصغير إلي الكبير، وقرأ في آذانهم كلّ كلام سفر الشريعة الذي وجد في بيت الرّب، ووقف الملك علي المنبر وقطع عهدا امام الرّب للذهاب وراء الرّب، ولحفظ وصاياه وشهاداته وفرائضه بكلّ القلب وكلّ النفس لإقامة كلام هذا العهد المكتوب في هذا السفر، ووقف جميع الشعب عند العهد … «1».

[1] قال اللَّه تعالي: «رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْرًا كَما حَمَلْتَهُ عَلَي الَّذينَ مِنْ قَبْلِنا» «2»

. «وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْرًا» أي لا تحمل علينا عملًا

__________________________________________________

(1) يحتمل أنّ السفر الذي وجده حلقيا كان سفر التثنية، راجع الكتاب المقدس، الملوك- الثاني الإصحاح 21/ 483 وقاموس الكتاب المقدس: 328، 972، والهدي إلي دين المصطفي 1، المقدّمة الخامسة، والرحلة المدرسية: 119 لفقيد الإسلام الشيخ البلاغي قدّس سرّه.

(2) سورة البقرة، الآية: 286.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 78

ويحتمل أن يكون التعبير به، لكونه تكليفاً وهو خلاف الطّبع مهما يكن سهلًا، إذ التكليف مشتق من الكلفة أي المشقّة، فتوجيهه إلي المكلّف تحميل.

وأمّا الوجه الثالث، أعني وجه اختصاص المثل باليهود، فنقول:

إنّ

التوبيخ علي نوعين:

نعجز عن القيام به، ولا تعذّبنا بتركه ونقضه، أو ولا تحمل علينا ثقلًا من الشدائد والتكاليف الشاقة «كَما حَمَلْتَهُ عَلَي الَّذينَ مِنْ قَبْلِنا» مثل بني إسرائيل حيث كلّفوا بتكاليف شاقة، منها: 1- قتل أنفسهم 2- يتيهون أربعين سنة في التيه، 3- فرض خمسين صلاة في خمسين وقت 4- وإذا ارتكبوا خطيئة عجلت عليهم عقوبتها، وكتبت ذنوبهم علي أبوابهم، وحرم عليهم بسببها ما أحلّ لهم من الطعام، كما قال اللَّه تعالي «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» «1»

5- وأخذ عليهم من العهود والمواثيق 6- كلفوا من انواع التكاليف ما لم يكلف هذه الأمّة تخفيفاً عنها «2».

__________________________________________________

(1)

سورة النساء، الآية: 160.

(2) التبيان في تفسير القرآن 3/ 543- 544، مجمع البيان 1/ 519- 520، والصّافي 1/ 288 والميزان في تفسير القرآن 2/ 475.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 79

الأوّل: أنّ يوبخ الشخص بفعله القبيح من دون ذكر برهان قبحه، كأن يقول مثلًا: تسجد لغير اللَّه تعالي، أو تعبد الأوثان، أولا تؤمن بالمبعوث من قبل اللَّه، وأمثالها، ممّا يوبخ المخاطب من دون برهان قبحه.

والثّاني: التوبيخ مع ذكر البرهان وإقامة الحجّة علي قبحه، كقولك للمريض: أما رأيت فلاناً لم يعمل بقول الطبيب فهلك، أو مثلك مثل فلان الذي لم يعمل بعلمه فاخترم. فبرهان القبح فيهما الهلاك والإخترام المذكوران في الكلام، ومعلوم أنّ الأسلوب الثاني أحسن وأبلغ، والآية منه، لأنّها- كما قيل- توبيخ للنصاري الذين لم يؤمنوا بمحمّد صلّي اللَّه عليه وآله، فكأنّه يخاطبهم ويقول: أما رأيتم اليهود الّذين لم يعملوا بما اشتملت عليه التوراة من لزوم اتباع عيسي وإطاعة أوامره ونواهيه، وهلكوا باعتقادكم بسبب عدم اتباعه، فأنتم إن لم تؤمنوا بمحمّد صلّي اللَّه عليه وآله مَعَ اشتمال

كتابكم علي لزوم اتّباعه، كنتم مثلهم في الهلاك.

وبهذا، لا ينافي كونها توبيخاً لليهود الحاضرين أيضاً، بل التوبيخ لليهود أقوي من التوبيخ للنّصاري، لظهور أنّ المشبّه به أقوي من المشبّه في وجه الشّبه، إلّافي التشبيه المقلوب وهذا ليس منه، فتدبّر.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 80

وأمّا الوجه الرابع، وهو علّة العطف ب (ثمّ) في قوله تعالي «ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها» دون غيرها من أدوات العطف: فللتراخي بين تحميلهم إيّاها وعدم حملهم لها، لأنّهم لم يحملوها في زمان متأخّر، حيث لم يأخذوا بما في التوراة من لزوم اتّباع النبي الذي بشر به فيها.

وأمّا الوجه الخامس، أي سبب قوله: لم يحملوا مبنيّاً للمعلوم لا كالأوّل: عدم حملهم بأنفسهم لا بجابر قاهر حتّي يصحّ مجهولًا، ومعني لم يحملوها أي تركوا العمل بها، أو غيّروها وحرّفوها، أو نحو ذلك. وكني عن ذلك بعدم الحمل وبالطعنة، كما لا يخفي، وهو تعبير لطيف جدّاً.

وأمّا الوجه السادس، أي وجه التمثيل بالحمار دون غيره من الحيوانات. فقيل: إنّه لإظهار كثرة الجهل والبلادة، فإنّ الحمار بليد غاية البلادة، وليس كذلك ساير الحيوانات. وقيل: لأنّ في الحمار من الذّل والحقارة مالا يكون في غيره.

والغرض من الكلام في هذا المقام: تعيير أولئك القوم وتحقيرهم، فيكون تعيين الحمار أليق وأولي [1]. مع ما فيه من [1] قال الجاحظ: وذكر الحمار فقال «كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفارًا» فجعله مثلًا في الجهل والغفلة، وفي قلّة المعرفة وغلظ الطبيعة،

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 81

ولم يقل إنّي مسخت أحداً من أعدائي حماراً «1».

وقال الدميري: أي بثقلة حملها ولا ينفعه وكلّ من يعلم ولم يعمل بعمله، فهذا مثله.

وفي الحديث: يؤتي بالرجل يوم القيامة، فيلقي في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور كما يدور الحمار في الرحاء، فيطيف به أهل النور فيقولون

مالك؟ فيقول: كنت آمر بالخير ولا آتيه، وأنهي عن الشر وآتيه (فتندلق أقتاب بطنه أي تخرج أمعاء بطنه) «2».

وقال البستاني: كان الناس يضربون به المثل في البلاهة وقلّة الفهم «3».

وقال فريد وجدي: ومن عجيب أمره، أنّه إذا شمّ رائحة الأسد رمي نفسه عليه من شدّة الخوف، يريد بذلك الفرار منه «4».

وقال محمّد كاظم الملكي: من الأمثال: لا يأبي الكرامة

__________________________________________________

(1) كتاب الحيوان للجاحظ 4/ 38.

(2) حياة الحيوان للدميري 1/ 252.

(3) دائرة المعارف للبستاني 7/ 162.

(4) دائرة المعارف لفريد وجدي 3/ 591.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 82

المناسبة اللفظية مع لفظ الأسفار [1].

إلّا الحمار «1».

قال المفضّل: أوّل من قاله أمير المؤمنين عليه السّلام وذلك أنّه دخل عليه رجلان، فرمي لهما بوسادتين، فقعد أحدهما علي الوسادة، ولم يقعد الآخر، فقال عليّ عليه السّلام: «أقعد علي الوسادة لا يأبي الكرامة إلّاالحمار، فقعد الرجل علي الوسادة» «2».

[1] قال المراغي: «يقول سبحانه ذامّاً لليهود الّذين أعطوا التوراة وحملوها للعمل بها، ثمّ لم يعملوا بها: ما مثل هؤلاء إلّاكمثل الحمار يحمل الكتب لا يدري ما فيها، ولكنّه ما يحمل، بل هم أسوأ حالًا من الحمر، لأنّ الحمر لا فهم لها، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها فيما ينفعهم، إذ حرّفوا التوراة فأوّلوها وبدّلوها فهم، كما قال في الآية الأخري: «أُولئِكَ كَاْلأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ» «3»» «4».

__________________________________________________

(1) المعجم الزوولوجي الحديث لمحمّد كاظم الملكي 2/ 535.

(2) وسائل الشيعة 8/ 489، باب كراهة إباء الكرامة، الرقم 1، وبحار الأنوار 41/ 53 باختلاف يسير.

(3) سورة الأعراف، الآية: 179.

(4) تفسير المراغي 28/ 98.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 83

وأمّا الوجه السابع، وهو علّة قول يحمل معلوماً مع أنّه يُحمّل:

فالأصل من لزوم الإسناد إلي الفاعل فيما لم يكن الفعل

ذا وجهين كالأوّل، فإنّ حمل التوراة يكون بالإختيار تارةً وبالإكراه أخري، فلو قال تعالي حمّلوا التوراة لما فهم معني الإكراه فيه والحمل بغير الإختيار، فلزم الصرف عن الحامل فيه إلي المحمل، لعدم فوات النكتة. بخلافه هنا، فليس حمله ذا وجهين، بل في جميع الأوقات تحميل، ولهذا أسند إلي الفاعل الحقيقي.

وأمّا الوجه الثامن، أي وجه التعبير بقوله تعالي: «بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ» مع كونه في أوّل الآية لليهود، وكان يمكن التعبير بضمير يرجع إليهم ويكون أخصر: فلعلّه إفادة أنّ التوبيخ لا يختصّ باليهود، بل يشمل جميع المخالفين الذين لم يؤمنوا بمحمّد صلّي اللَّه عليه وآله، وكذّبوا بآيات اللَّه التي يتلوها عليهم، وإنّ مثلهم مثل اليهود، فكما أنّ اليهود ملومون بعدم اتّباعه مع ذكره صلّي اللَّه عليه وآله في كتابهم، فكذلك سائر المخالفين والمكذّبين.

وأمّا الوجه التاسع، وهو بيان معني التكذيب فنقول: التكذيب عبارة عن إسناد الكذب، أي عدم مطابقة الخبر للواقع، أو الإعتقاد علي الخلاف فيه إلي الغير، وهو عمليّ وقوليّ، فمصدره الأركان تارةً

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 84

واللسان أخري.

والعمليّ: هو، أنْ يعمل الشخص عملًا يخالف قول الآخر، ولهذا يقال: هلك مكذب قولك. والقولي هو: أن يقول كذبت أو كذب فلان، أو يقول ما ينافي قوله.

وعلي هذا، فالآية شاملة لجميع من يكذّب بآيات اللَّه، يهوديّاً كان أم نصرانياً أم مسلماً، فإنّ تارك الصلاة مثلًا مكذب للنّبي صلّي اللَّه عليه وآله عملًا، والمفتري مكذب له قولًا. اللّهمّ أعنّا علي العمل الصالح وثبّتنا بالقول الصّادق [1].

[1] قال آية اللَّه العظمي السيد أحمد الخونساري: أنكر اليهود نبوّة نبيّنا صلّي اللَّه عليه وآله، وقالوا بدوام شريعة موسي عليه السّلام قالوا:

إنّ النسخ باطل، لأنّ المنسوخ إن كان مصلحة يقبح النهي عنه،

وإن كان مفسدة يقبح الأمر به، وإذا بطل النسخ لزم القول بدوام شرع موسي عليه السّلام.

والجواب: إنّ الأحكام منوطة بالمصالح، تتغيّر بتغيّر الأوقات، وتختلف باختلاف المكلّفين، والشاهد عليه وقوعه في شرعهم في مواضع، منها: إنّه قد جاء في التوراة إنّ اللَّه تعالي قال لآدم وحوّاء قد أبحت لكما كلّما دبّ علي وجه الأرض، وورد فيها أنّه تعالي قال لنوح سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 85

وأمّا الوجه العاشر، وهو سبب قوله «الظالمين» دون الضّالين ودون غيرها من الأوصاف: فلأنّ اللَّه تعالي هادي الضّالين بخلاف الظّالمين، فإنّ الظّالم من يظلم علي نفسه مع إتمام الحجّة عليه، فإنّ معني هدايته بعد إتمام الحجّة إجباره علي الهداية، وهو جلّ عن ذلك، لا يجبر أحداً علي شي ءٍ، كما برهن في محلّه. وغير الظلم من عليه السّلام: خذ معك من الحيوان الحلال كذا ومن الحيوان الحرام كذا، فحرم علي نوح عليه السّلام بعض ما أباحه لآدم …

وتمسّك اليهود أيضاً بما روي عن موسي عليه السّلام إنّه قال تمسّكوا بالسبت أبداً، والتأبيد يدلّ علي الدوام، ودوام الشرع بالسبت ينافي القول بنبوّة محمّد صلّي اللَّه عليه وآله.

وأجيب بوجوه، الأوّل: إنّ هذا الحديث مختلق منسوب إلي ابن الراوندي.

الثاني: إنّ اليهود إنقطع تواترهم، لأنّ بخت النصر إستأصلهم حتّي لم يبق منهم من يوثق بنقله.

الثالث: إنّ التأبيد قد ورد في التوراة لغير الدوام، كما … أمروا في البقرة التي كلّفوا بذبحها أن يكون ذلك سُنّة أبداً، ثمّ انقطع تعبّدهم بها «1».

__________________________________________________

(1) العقائد الحقة: 17.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 86

الأوصاف، إمّا داخل تحت الظلم، فلا حاجة لذكرها، أو تحت الضّلالة فذكرها غير صحيح كما ذكر.

هذا ما في هذه الآية المباركة من الدقائق والنكات التي فهمناها، وإن لم

يكن قطرة من بحار دقائقها وذرّة من فلوات حقائقها. وأمر التفسير اللفظي والإعراب الظاهري، موكول إلي التفاسير المتعرضة لهما.

إلفات نظر تجاه التفكير في قوله تعالي «مَثَلُ الَّذينَ حُمِّلُوا»:

إنّ الآية تعطينا درساً دينيّاً أخلاقيّاً علميّاً: هل التوراة لها خصوصيّة، أم اليهود لهم الخصوصية؟ كلّا، ويشهد لذلك أنّه سبحانه ذكر بعد ذلك «بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ» ولم يقل:

كذبوها، بل لم يقل بئس مثلهم، مع أنّه كان أخصر وبالسبر والتقسيم يظهر:

إنّ ذلك صغري لكبري كليّة، وهي أنّ كلّ زعيم إذا قرّر قانوناً صحيحاً لتابعيه، وكلّ ناصح إذا ألقي نصيحة نافعة لُامّته، فانتحلوها ثمّ لم يقبلوها ولم يعملوا بها، فذلك مثلهم. فالأمّة الإسلامية إذا لم يعملوا بالقرآن، ولم يتخلّقوا بأخلاقه، ولم يتبصّروا بمعارفه، مثلهم كمثل الحمار، بل السنّة النّبويّة إذا لم يعمل بها بعد المعرفة بها كالقرآن، بل كلّ من أقرّ بالرسالة ولم يتمسّك بالثقلين [1] أو لم يف [1] أشار قدّس سرّه إلي حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 87

بأجر الرسالة، وهي مودّة ذي القربي [1]، مثله كمثل الحمار.

«قُلْ يا أَيُّهَا الَّذينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ». «قُلْ يا أَيُّهَا الَّذينَ هادُوا» خطاب للنّبي أي: قل يا محمّد، لليهود الذين يفتخرون بكونهم أولياء اللَّه وأحبّائه في مقام الرّد عليهم وإبطال مدّعاهم.

واعلم أنّ وجه الربط بين هذه الآية والآية المتقدّمة، كونها في مقام إفحام اليهود، فكأنّ هذه الآية برهان علي بطلان مقالتهم في أنّهم قال ابن حجر الهيتمي: «إعلم أن لحديث التمسك بذلك طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابياً» «1».

[1] أشار قدّس سرّه إلي الآية الكريمة: «قُلْ لاأَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي

الْقُرْبي «2»

عن ابن عباس إنّ هذه الآيات لمّا نزلت، قالوا:

يا رسول اللَّه: من قرابتك هؤلاء الّذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال صلّي اللَّه عليه وآله، عليّ وفاطمة وابناهما … «3».

__________________________________________________

(1) الصواعق المحرقة: 89.

(2) سورة الشوري، الآية: 23.

(3) الصواعق المحرقة: 101.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 88

أولياء اللَّه، وهذه الآية بمثابة المباهلة [1] معهم.

وقيل: إنّ اليهود كانوا يفتخرون علي العرب، بأنّ لهم رسولًا وعندهم الكتاب، وأنّهم أحباء اللَّه، وأنّ لهم السبت. «1» فردّ اللَّه عليهم في هذه السّورة كلّها، فذكر فيها بعث الرّسول إليهم وتعليمه إيّاهم الكتاب والحكمة ردّاً للأمر الأوّل. و «قُلْ يا أَيُّهَا الَّذينَ هادُوا» إلي قوله «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا» ردّاً للأمر الثاني. و «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا …»

المشعر بأنّ لهم الجمعة ردّاً للأمر الثالث.

[1] وهذه الآية شبيهة بآية المباهلة «فَمَنْ حَاجَّكَ فيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَي الْكاذِبينَ» «2»

إنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله لمّا دعا نصاري نجران إلي المباهلة، قالوا حتّي نرجع وننظر، فلمّا تخالوا قالوا للعاقب وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح، ما تري؟

فقال: واللَّه لقد عرفتم يا معشر النصاري أنّ محمّداً صلّي اللَّه عليه وآله نبيّ مرسل ولقد جائكم بالفصل من أمر صاحبكم، واللَّه ما باهل قوم نبيّاً

__________________________________________________

(1) راجع تفسير الرازي 3/ 189، وتفسير ابن كثير 1/ 390- 391.

(2) سورة آل عمران، الآية: 61.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 89

قطّ فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم، ولئن فعلتم لنهلكنّ، فإن أبيتم إلّا

إلف دينكم والإقامة علي ما أنتم عليه فوادعوا الرجل، وانصرفوا إلي بلادكم، وغدا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله دعا عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال:

اللّهم هؤلاء أهل بيتي، فاحتضن الحسين وأخذ بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعليّ خلفهما، وهو صلّي اللَّه عليه وآله يقول: إذا أنا دعوت فأمّنوا، فقال أسقف نجران: يا معشر النّصاري إنّي لأري وجوهاً لو شاء اللَّه إن يزيل جبلًا من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقي علي وجه الأرض نصراني إلي يوم القيامة. إمتنعوا المباهلة لقلّة ثقتهم بما هم عليه، وخوفهم من صدق النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله في قوله صلّي اللَّه عليه وآله: لو باهلوني لرجعوا لا يجدون أهلًا ولا مالًا، فأتوا النّبي صلّي اللَّه عليه وآله فقالوا: يا أبا القاسم صلّي اللَّه عليه وآله رأينا أن لا نباهلك، وأن تترك علي دينك ونثبت علي ديننا، قال صلّي اللَّه عليه وآله: فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم، فأبوا، قال: فإنّي أناجزكم، فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك علي أن لا تغزونا ولا تخفيفنا ولا تردنا عن ديننا علي أن نؤدي إليك كلّ عام ألفي حلّة، ألف في صفر وألف في رجب، وثلاثين درعاً عادية من حديد، فصالحهم علي ذلك، وأحجموا عن سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 90

ولا يخفي أنّه قد اختلف في وجه تسميته اليهود يهوداً.

فقيل: لأنّهم كانوا ينتسبون إلي يهوذا، أكبر ولد يعقوب، فعرّبت الذال وحذفت الألف للأستعمال.

وقيل: إنّه اسم جمع من هاد، بمعني التوبة، لأنّهم تابوا عن عبادة العجل.

وقيل: من الميل، لأنّهم مالوا عن الإسلام وعن دين موسي. وقيل:

من التحرك، لأنّهم يتحرّكون عند قراءة التّوراة «1»، وفيهما ضعف.

ويطلق الهود عليهم، وهو جمع هائد علي ما في المنجد «2».

المباهلة، افتضحوا وظهر الحقّ. وقال صلّي اللَّه عليه وآله: والذي نفسي بيده إنّ الهلاك قد تدلّي

علي أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي ناراً، ولاستأصل اللَّه نجران وأهله حتي الطير علي رؤوس الشجر، ولما حال الحول علي النصاري كلّهم حتي يهلكوا، وعلم أنّ عليّاً وفاطمة والحسنان عليهم السّلام هم المراد من الآية، وإنّ أولاد فاطمة وذريّتهم يسمّون أبناء رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وينسبون إليه نسبة صحيحة نافعة في الدنيا والآخرة «3».

__________________________________________________

(1) راجع مجمع البيان 1/ 241.

(2) المنجد، كلمة «الهُود».

(3) فضائل أمير المؤمنين لأحمد بن حنبل: 49، والكشاف 1/ 434، والصواعق المحرقة: 93، ومجمع البيان 1/ 164.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 91

وفي مجمع البحرين «1» حذف الياء الزائدة.

«إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ» أي إن كنتم تزعمون محبّتكم للَّه تعالي فقط دون غيركم وأنتم أحبّاؤه، فتمنّوا الموت. وها هنا بحثان:

الأوّل: علّة قوله «إِنْ زَعَمْتُمْ» [1] دون «إن كنتم».

الثاني: سبب قوله «إِنْ زَعَمْتُمْ» دون «إن أيقنتم» أو «إن علمتم» أو غيرهما ممّا يفيد علمهم ويقينهم.

أمّا البحث الأوّل: فلأنّه لا يقال: إن كنتم، إلّاإذا كان المخاطب والمتكلّم أو أحدهما جاهلين بالواقع أو عالمين، كما تقول لمن جهلت شجاعته أو علمت به: إن كنت شجاعاً فاذهب إلي الحرب.

والحاصل: إنّه فرق بين جعل الواقع في حيّز الشرط وبين جعل إعتقاد المخاطب في حيّزه، والثاني أوفق بالمقام حيث يعلم كذبهم،

[1] قال الراغب: الزعم حكاية قول يكون مظنة للكذب، ولهذا جاء في القرآن في كلّ موضع ذم القائلون به، نحو: زعم الذين كفروا، بل زعمتم، كنت تزعمون، زعمتم من دونه «2».

__________________________________________________

(1) مجمع البحرين 4/ 442.

(2) المفردات: 213.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 92

وإنّ الواقع ليس كما يقولون.

وأمّا البحث الثاني: فلأنّه لا يقال: إلّاإذا كان المخاطب متيقّناً بصحة ما ادّعاه، سواء

كان مطابقاً للواقع أم لا، وسواء كان المتكلّم يعتقد ذلك أم لا.

والحاصل: إنّ الصّدق تارةً يكون خبريّاً، وهو الكلام المطابق للواقع وإن لم يكن مطابقاً للاعتقاد، بل وإن كان بزعم المتكلّم كذباً، وأخري يكون مخبريّاً، وهو الكلام المطابق للإعتقاد وإن لم يكن مطابقاً للواقع، وما نحن فيه من هذا القبيل، لأنّه لا يستعمل اليقين إلّا مع اعتقاد المخاطب بصحّة المدّعي مطلقاً.

هذا، فقوله تعالي «إِنْ زَعَمْتُمْ» متضمّن للأمرين: عدم مطابقة المدّعي للواقع، وعلم المتكلّم بعدم مطابقته، فيكون مثل إدّعاء، لعدم كونهم كذلك، وبرهانه ما يليه، ولا يخفي لطفه.

واعلم أنّ الأولياء جمع وليّ، وهو الحريّ بالنصرة ناصراً حين الإنتصار، فمن يكون ناصراً للَّه، يكون ناصراً له صلّي اللَّه عليه وآله، كما قال تعالي «إِنْ تَنْصُرُوا اللّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ» «1».

«فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ» يقع الكلام فيه من وجوه:

__________________________________________________

(1) سورة محمّد «صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم»، الآية: 7.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 93

الأوّل: معني التّمني والكلام فيه.

الثاني: ما هو الأمر بالتّمني.

والثالث: هل يمكن الأمر به أم لا؟

الرابع: هل يمكن التمني أي طلبه أم لا؟

الخامس: سَبَب قوله «فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ».

السادس: بيان القياس.

أمّا الوجه الأوّل، فنقول: قد اختلفت الأقوال فيه:

ففي مجمع البيان عن أبي هاشم: التّمني معني في النفس، ومن قال بذلك قال: ليس هو من قبيل الشهوة ولا من قبيل الإرادة، لأنّ الإرادة لا تتعلّق إلّابما يصحّ حدوثه، والشهوة لا تتعلّق بما مضي، والإرادة والتمني قد يتعلّقان بما مضي «1». ويؤيّده ما ذكره الرّضي:

«من أنّ ماهيّة التمني محبّة حصول الشي ء، أعمّ من إنتظاره وترقّب حصوله، أم لا» «2» وإن كان ظاهر كلامه خلاف ما ذكره أبو هاشم من تعلّقه بالماضي.

لكن أكثر اللّغويين علي كونه من جنس الكلام،

وهو قول القائل __________________________________________________

(1) مجمع البيان 3/ 53 مع اختلافٍ في بعض الألفاظ.

(2) شرح الكافية، رضي الدين الأسترآبادي: 332.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 94

لما كان: ليته لم يكن، ولما لم يكن: ليته كان، فهو يتعلق بالماضي والمستقبل «1»، وإن كان بعضهم أيضاً يصرّح بكونه بمعني الإرادة.

هذا، وليس التعرّض لتحقيق الحال هاهنا بمهمّ، لظهور إرادة التلفظ كما سيأتي.

وأمّا الوجه الثاني، ما هو الأمر بالتّمني؟ فالظاهر أن يقال: هو أمر تكذيبي، نظير الأمر الإمتحاني … والتعجيزي، يعني أنّ المراد من الأمر إرادة ظهور كذبهم، كما أنّ الغرض من قولك: إن كنت سخيّاً فابذل، هو ذلك، فهذا الأمر ليس إرشاديّاً ولا مولويّاً [1].

[1] الأمر المولوي، هو الأمر الصادر من المولي بداعي البعث إلي المطلوب، بداعي إظهار الإعتبار النفسي الذي يعتبره المولي في حقّ العبد.

والأمر الأرشادي، هو الأمر الصادر بداعي المصلحة في متعلّق الأمر، ولما لم يكن أمر اللَّه لليهود بتمني الموت بداعي البعث حقيقة ولا لمصلحة في نفس التمني، لم يكن مولوياً ولا إرشاديا، بل هو أمر بداعي التكذيب، أي تكذيب دعوي اليهود محبّتهم للَّه ومحبة اللَّه لهم.

__________________________________________________

(1) مجمع البحرين 4/ 238.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 95

وأمّا الوجه الثالث: هل يمكن الأمر بالتمني أم لا؟ فنقول: لما كان المراد بالتمني التلفظ لا الأمر القلبي، أمكن الأمر به، وإنّما لم يكن الأمر بالتمني القلبي، لعدم الإختيار، وأمّا أنّ المراد به التلفظ، فلكونه في مقام المباهلة، كما في مجمع البيان في تفسير الآية في سورة البقرة عن الكلبي عن ابن عباس أنّه قال: «كان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله يقول لهم: إن كنتم صادقين في مقالتكم فقولوا: اللّهمّ أمتنا، فوالذي نفسي بيده لا يقولها رجل إلّاغص بريقه فمات مكانه» [1].

وهذا صريح في الأمر بالتلفظ.

[1] قال الطبرسي قدّس سرّه: «وفي ذلك أعظم دلالة علي صدق نبيّنا وصحّة نبوته، لأنّه أخبر بالشي ء قبل كونه فكان كما أخبر، وأيضاً:

فإنّهم كفوا عن التمني للموت لعلمهم بأنّه حقّ، وأنّهم لو تمنّوا الموت لماتوا.

وروي الكلبي عن ابن عباس أنّه قال: كان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله يقول لهم إن كنتم صادقين في مقالتكم فقولوا: اللّهمّ أمتنا، فوالّذي نفسي بيده لا يقولها رجل إلّاغص بريقه فمات مكانه، وروي أنّه صلّي اللَّه عليه وآله قال: لو تمنّوا لماتوا عن آخرهم «1».

__________________________________________________

(1) مجمع البيان 1/ 164 و 5/ 287.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 96

أمّا الوجه الرابع: هل يمكن التمني أم لا؟ فنقول: إنّ التّمني سواء كان باللسان أو بالقلب، يمكن طلبه، أمّا إن كان باللسان، كما هو المراد هاهنا علي الظاهر، فظاهر، وأمّا إن كان بالقلب وهو من الأمور غير الإختيارية، فيمكن تحصيله بتحصيل مقدّماته، كما هو طريق تحصيل غير الإختياري من الأمور، كالحبّ والبغض والسّخاء والشّجاعة، إلي غير ذلك من الحالات والملكات، بحسب القوي المودعة في النفس.

وأمّا الوجه الخامس، سبب قوله: «إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ»: فهو لتقوية بيان كذب إدعائهم، أي «إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ» في زعمكم ولايتكم للَّه تعالي «فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ» [1].

واعلم، أنّهم لو تمنّوا الموت لكان دليلًا علي محبّتهم للَّه من وجوه:

[1] قال ابن كثير: أي إن كنتم تزعمون أنّكم علي هدي، وأنّ محمّداً وأصحابه علي ضلاله، فادعوا بالموت علي الضال من الفئتين إن كنتم صادقين «1».

__________________________________________________

(1) تفسير القرآن العظيم 4/ 364.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 97

الأوّل: وجوده في التوراة، كما عن علي بن إبراهيم القمي قال:

إنّ في التوراة مكتوب: أولياء اللَّه يتمنّون الموت «1».

الثاني: لتخلّصه من دار البلية التي تشغله بآلامه

الطبيعية عن القيام بوظائف المحبّة، وهو لم يبلغ درجة أن لا يري الألم ألماً ولا ينشغل به، فيتمني الموت حتي يتفرغ قلبه عمّا يلهيه عن ذكر حبيبه.

الثالث: للإنتقال إلي دار الكرامة وإلي لقاء اللَّه تعالي وإن كان ههنا في الراحة والنعيم، حيث إنّ حجاب عالم المادة ممّا يؤذيه غاية الإيذاء، فيتمنّي ارتفاع هذا الحجاب، والتخلص من أذاه حتي تتبدل حياته المادية المغمورة بالحجب إلي الحياة الكاملة المقرونة بالمكاشفات، فيكشف عنه غطاؤه وبصره اليوم حديد.

ولا يخفي: أنّ ما في الآية ميزان محبّة اللَّه تعالي، فمن رأي نفسه شائقاً إلي الموت، وكان متمنّياً له، كان محبّاً للَّه تعالي، ومن لم يكن كذلك لم يكن محبّاً.

ولهذا تري أمير المؤمنين عليه السّلام والصّلاة، يقول: «واللَّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمّه» «2»، وفي محلّ __________________________________________________

(1) تفسير القمي 2/ 366.

(2) بحار الأنوار 28/ 234، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1/ 213، وشرح أصول الكافي للشيخ محمّد صالح المازندراني: 42.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 98

آخر بعد ما قال له الحسن عليه السّلام: ما هذا زيّ الحرب: «يا بني، إنّ أباك لا يبالي وقع علي الموت، أو وقع الموت عليه» «1». وكذا كان سائر أوليائه.

هذا، وغير خفيّ علي الفطن العارف، أنّ الموت كما أنّه هادم اللذات والشهوات، كذلك ذكره هادم ذكرها، فمن ذكر الموت بحقيقة التذكر، فما دام كذلك، فهو منصرف عن اللّاهوتيّة النفسانية واللذات الشهوانية وعن ذكرها، وسيأتي في تفسير الآية الآتية القسم المذموم من التّمني. وفي المقام مطالب لا تناسب التفسير.

وأمّا الوجه السادس: بيان القياس فنقول: القياس إستثنائي، ينتج من رفع التالي رفع المقدّم. صورته: إن كنتم أولياء للَّه فتمنّوا الموت، ولا يتمنّونه، فلا يكونون أولياء له

تعالي.

أمّا الملازمة بين التمنّي والولاية للَّه، فظاهرة ممّا سبق، وأمّا الملازمة بين عدميهما، فلأنّ ما ينعكس بعكس النقيض إذا جعل قياساً، كان رفع تاليه مستلزماً لرفع مقدّمه، لأعميّة التالي أو مساواته له.

إن قلت: لا نسلّم الملازمة بين الولاية وتمنّي الموت، لإمكان __________________________________________________

(1) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب 1/ 385، وبحار الأنوار 41/ 2.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 99

أن يكون وليّاً للَّه حقيقة ولا يتمنّي الموت، بل يرغب في البقاء في الدنيا، لإتيان الأعمال الصالحة أكثر حتي ترتفع درجته.

قلت: إنّ المحبّ الحقيقي لا يريد إلّاالوصول إلي محبوبه، وإن فاته بسببه المنافع الكثيرة، وإلّا لم يكن تامّاً في محبّته، مشتاقاً إلي لقاء محبوبه [1].

واعلم: أنّ الجواب بالنقض- بأن يقولوا: نقتلك لتصل إلي النعيم الأبد، لأنّك تقول مثل مقالتنا- مردود، بأنّ عرض النفس علي الهلاك حرام، لقوله تعالي «وَلا تُلْقُوا بِأَيْديكُمْ إِلَي التَّهْلُكَةِ» «1»

، وبأنّ المقصود من البعث، هو التبليغ والهداية إلي الطريق المستقيم ولم يحصلا.

[1] قال الطنطاوي: خاطب اليهود وقال لهم: إن كنتم خواص اللَّه حقّاً فما لكم لا تحبّون الموت بقلوبكم؟ كلّا، أنتم لستم خواص للَّه، بل أنتم كعامة الناس تفرّون من الموت والموت ملاقيكم، هكذا ظاهر القول، ولكن حقيقته تعليم المسلمين، فهو من حيث الظاهر ذمّ لليهود من جهة وتكذيب، ومن جهة أخري تعليم للمسلمين ليعرفهم من هم أولياء اللَّه «2».

__________________________________________________

(1) سورة البقرة، الآية: 195.

(2) تفسير الجواهر 24/ 173.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 100

ثمّ، إن قيل: ما الدليل علي عدم تمنّيهم الموت فلعلّهم تمنّوا ذلك، وقوله تعالي «وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِما قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ» لا يصحّ الإحتجاج به مع اليهود، لعدم اعترافهم بالقرآن.

قلنا: لو تمنّوا الموت، لنقل إلينا، مع أنّه لم ينقل.

وفي المقام مباحث أخر

ذكرت في المطولات، فليراجع إليها.

«وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِما قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ وَاللَّهُ عَليمٌ بِالظَّالِمينَ».

أي لا يقولون: اللّهمّ أمتنا، بسبب ما قدّمت أيديهم من الكفر والمعاصي، وإنكار القرآن، وتحريف التوراة الموجب لتعذيبهم وتخليدهم في النار، لأنّهم كانوا عالمين بأنّهم الكاذبون، وأنّ محمّداً صلّي اللَّه عليه وآله وأوليائه هم الصادقون.

واعلم أنّ المشهور ما ذكرنا من أنّه كان المراد بتمنّيهم الموت تمنّيهم لأنفسهم، وفي بعض التفاسير تمنّيهم الموت للكاذب من الطرفين. ولا يخفي أنّ هذا أوضح دليل علي نبوّة نبيّنا صلّي اللَّه عليه وآله، لأنّه أخبر بالشي ء قبل كونه وكان كما أخبر به.

ووجه التعبير «بِما قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ» مع أنّ الإنكار كان باللسان:

حصول الجناية في الغالب بها، وهذا الإستعمال شايع في العرف.

وقد تقدّم والكلام في لفظ «الظّالمين» [1].

[1] قال صدر المتألّهين قدّس سرّه: ولا يتمنّونه الموت لما

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 101

اكتسبت نفوسهم من ملكة محبّة الدنيا ولذّاتها وشهواتها وملكة الإنجذاب إلي دواعيها وأغراضها، فصارت نفوسهم مقيّدة بها، محبوسة فيها لتكرّر الأفاعيل البدنية الشهوية والغضبية، وتكثّر الأعمال الحيوانيّة البهيميّة والسبعية، الموجبة للركون إلي نعيم الدنيا وزهرتها، والإخلاد إلي أرض الشهوات والإستغراق في بحر اللذات، ومنشأ هذه الأعمال والأفعال كلّها هو الفساد في الإعتقاد، والشكّ في بقاء النفس في المعاد ورجوعها إلي الواحد القهّار … «1».

وقال الطبرسي: إنّ اللَّه تعالي عليم بالأسباب التي منعتهم عن تمنّي الموت، وبما أضمروه وأسرّوه من كتمان الحقّ عناداً، مع علم كثير منهم أنّهم مبطلون، وروي عن النّبي صلّي اللَّه عليه وآله أنّه قال: «لو أنّ اليهود تمنّوا الموت لماتوا أو لرأوا مقاعدهم في النار، فقال اللَّه سبحانه:

إنّهم لن يتمنّوه أبداً، تحقيقاً لكذبهم»، وفي ذلك أعظم دلالة علي صدق نبيّنا صلّي اللَّه عليه وآله وصحّة نبوّته،

لأنّه أخبر بالشي ء قبل كونه فكان كما أخبر «2».

__________________________________________________

(1) تفسير صدر الدين الشيرازي: 7/ 198.

(2) مجمع البيان 1/ 164.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 102

«قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلي عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».

أي قل يا محمّد صلّي اللَّه عليه وآله لهؤلاء اليهود: إنّ الموت الذي تفرّون منه ولا تتمنّونه خوفاً من العقاب بسبب التحريف والإنكار، ملاقيكم ولا يفيدكم الفرار، ثمّ تردّون إلي عالم الغيب والشّهادة، فيخبركم بأعمالكم وما فعلتم في دار الدنيا، وفي هذه الآية مباحث:

الأوّل: أنّه هل ينبغي الفرار من الموت، أم لا؟ وما معني الفرار؟

الثاني: سبب إدخال الفاء في قوله (فإنّه).

الثالث: معني الشرط والجزاء، مع أنّ الموت ملاقيهم علي أيّ حال.

الرابع: سبب قوله (ثمّ) الظاهرة في التراخي.

الخامس: قوله (تردّون) الدالّ علي المجي ء من طرفه، دون (تأتون).

السادس: إختصاص الوصف بعالم الغيب والشهادة، دون غيرهما من الأوصاف.

السابع: قوله ينبّئكم، دون يجزيكم.

أمّا البحث الأوّل، فنقول: الفرار هو الهرب، ويكون تارةً بتبعيد النفس عن الشي ء المكروه، وأخري بتبعيده عنها، وثالثة بالمنع من سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 103

وصوله إليها، وهذا الأخير هو الظاهر في الآية، لأنّهم كانوا يمنعون من وصول الموت إلي أنفسهم بعدم التمنّي. هذا، والفرار مسبّب لأحد أمرين:

الأوّل: حبّ الدنيا والعلاقة بما فيها من الزخارف، مع العلم بعدم النصيب من الآخرة، وهذا هو الفرار المذموم [1] ولهذا تري أولياء اللَّه يتمنّون الموت لعدم حبّهم وعلاقتهم بالدنيا وما فيها، ورجائهم رحمة ربّهم، كما تقدّم في تمنّي أمير المؤمنين عليه السّلام للموت.

الثاني: تحصيل رضي اللَّه سبحانه بالبقاء والخوف من عقابه وهو من صفة المؤمن، كما قال اللَّه تعالي: «وَالَّذينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها» «1»

وهذا هو الفرار الممدوح، وفي الحقيقة ليس

بفرار، لعدم صدقه علي الخائف والمتجنب عن الخلاف، وأيضاً: لا منافاة بين الإشفاق والتمنّي، كما هو ظاهر.

[1] عن أبي عبداللَّه عليه السّلام قال: جاء رجل إلي أبي ذر فقال: يا أبا ذر ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنّكم عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة، فتكرهون أن تنقلوا من عمران إلي خراب «2».

__________________________________________________

(1)

سورة الشوري، الآية: 18.

(2) الميزان في تفسير القرآن 19/ 311.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 104

هذا، والفرار من الموت غير حري لدي العاقل، لأنّه لا يستقدم ساعة ولا يستأخر، وفي المجمع عن أمير المؤمنين عليه السّلام «كلّ امري ء لاق ما يفرّ منه، والأجل مساق النفس، والهرب منه موافاته» «1». وفي الصّافي عن القمّي عنه عليه السّلام قال: «أيّها الناس كلّ امري ء لاق في فراره ما منه يفر، والأجل مساق النفس إليه، والهرب منه موافاته» «2».

فإن قيل: علي ما ذكرتم من قبح الفرار لعدم فائدته، حيث إنّ الموت لا يستأخر، يلزم قبح تمنّيه بمثل ذلك، فما وجه تمنّي بعض أوليائه له؟

قلت: ليس التمنّي مثل الفرار، لأنّه يصحّ تمنّي الشي ء الذي لا يقع، فإنّه عبارة عن إظهار حبّ الشي ء، وهو لا ينافي العلم بعدم الوقوع، قال إسماعيل بن قاسم أبو العتاهية:

فياليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب «3»

ونفس إظهاره عبادة، حيث إنّه تشوق إلي لقاء اللَّه تعالي وإلي دار كرامته، وهو إقبال النفس إلي الآخرة، كما أنّه إدبار النفس عن __________________________________________________

(1) مجمع البيان 10/ 366.

(2) تفسير القمّي 2/ 366- 367، وتفسير البرهان 5/ 377، وتفسير الصّافي 5/ 173.

(3) ديوان أبي العتاهية: 23.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 105

الدنيا وزخارفها، وإن شئت قلت: إقبال إلي اللَّه سبحانه وإدبار علي ما سواه، بخلاف الفرار فإنّه بالعكس من التمنّي ولوازمه.

ويمكن أن يجاب

أيضاً: بأنّ التّمني مؤثّر في تقديم الأجل تكويناً، بمعني أنّه مثل الدعاء، فكما أنّ الدعاء مؤثّر تكويناً، أي قدّر للداعي الغني مثلًا، لكن بشرط الدعاء الواقع لا محالة بالإختيار، فكذلك المتمني للولد مثلًا الذي قدّر له الولد، يتزوّج لا محالة، فالولد وإن كان لابدّ وإن يعطي لكن بالأسباب، فإنّه أبي اللَّه أن يجري الأمور إلّابأسبابها.

هذا، والكلام في هذا الباب كثير لا يسعه التفسير فليطلب من محلّه.

وأمّا البحث الثاني- أعني سبب إدخال الفاء فلأنه في معني الجزاء.

ويمكن أن تكون سببيّة، تنبيهاً ودلالةً علي أنّ الفرار سبب للملاقاة، مثله في قوله تعالي «فَوَكَزَهُ مُوسي فَقَضي عَلَيْهِ» «1» «فَتَلَقَّي آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ» «2»

فإنّ الوكز والتلقي كانا سبباً للموت والتوبة. وتدلّ عليه الرواية المتقدّمة عن عليّ عليه السّلام: «والأجل مساق النفس».

__________________________________________________

(1)

سورة القصص، الآية: 15.

(2) سورة البقرة، الآية: 37.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 106

وأمّا البحث الثالث: أعني معني الشرط والجزاء مع أنّ الموت ملاقيهم علي كلّ حال، فقد قيل: إنّ هذا علي جهة الرّد عليهم، إذ ظنّوا أنّ الفرار ينجيهم. وهذا مخدوش، لعدم تسليم أنّهم ظنّوا النجاة بسبب الفرار من الموت أو العذاب، وذلك لعلمهم بعدم نجاتهم منهما، وإن أريد ظنّهم الفرار حالًا وعدم موتهم وتعذيبهم حالًا، فلا يصحّ الرّد كما هو ظاهر. والصحيح أن يقال: لما كانت الفاء سببية، لم نحتج إلي جعل الجملة جواباً والتكلف لبيان الشرط.

وأمّا البحث الرابع: أي سبب الإتيان بلفظ ثمّ الدالّة علي التراخي، فهو الإشارة إلي فصل البرزخ بين هذه النشاة والنشأة الأخري [1]، فإنّ يوم الرّد إلي اللَّه تعالي والغالب في إطلاقه هو يوم القيامة، وإن كان الموت سبباً للرّد.

[1] قال الطريحي: البرزخ: هو ما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلي

البعث، فمن مات فقد دخل البرزخ. ومنه الحديث: «كلّكم في الجنة ولكنّي واللَّه أتخوف عليكم البرزخ، قلت: وما البرزخ؟ قال:

من حين الموت إلي يوم القيامة». ومن حديث الصّادق عليه السّلام:

البرزخ القبر، وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة «1».

__________________________________________________

(1) مجمع البحرين 1/ 186.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 107

وأمّا البحث الخامس: أي الإتيان بلفظ «تردُّون» دون أن يقال (يأتون) ونحو ذلك، فالنكتة فيه: أنّ العبد بالمعصية والتّمرد يكون قد فرّ عن مولاه، وصار آبقاً وضالّاً، والمناسب مع الإباق والضّلالة هو الرّد، حيث يقال: ردّ الآبق، ردّت الضّالة. ومن ذلك يعلم سرّ التعبير بصيغة المبنيّ للمجهول المشعر بالزجر والعنف، فإنّ الآبق يردّونه بالزجر عليه، لا أنّه يأتي بنفسه وطبعه، وإلّا لما أبق من الأوّل، وبالقهر عليه يأتون به إلي اللَّه، وقد فرّ عنه تعالي بطبعه الأوّلي وعصاه، وتمرّد وبعد عنه، نعوذ باللَّه سبحانه من ذلك.

وأمّا البحث السادس، أعني اختصاص الوصف بعالم الغيب والشهادة دون سائر الصفات، فقد جاء تنبيهاً علي أنّ المرجع ليس من لا يعلم الغائب عن الأبصار، حتّي تتمكّنوا من إنكار ما كنتم تعلمونه في ضمائركم من صفات النّبي صلّي اللَّه عليه وآله، وتعتقدون أنّه هو في باطن الأمر، وتخفون من الناس حذراً عن قطع رواتبكم واضمحلال رياستكم الباطلة، ولا ممّن يعلم المشاهد حتّي تقدروا علي إنكار ما أضللتم الناس عن طريق الهدي، وأوقفتموهم علي التوراة المحرّفة، وقلتم أنّ محمّداً صلّي اللَّه عليه وآله لم يأت بعد، وسائر الأكاذيب.

وليس يفيد غيرهما من الصّفات والأسماء هذا المعني سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 108

بالصراحة، ولو أطلق العالم لم يفده وإن كان شاملًا، وكذا لفظ الجلالة.

وأمّا البحث السابع، وهو سبب قوله «فَيُنَبِّئُكُمْ» دون يجزيكم معه، أو يجزيكم بدونه، مع أنّ

يوم القيامة يوم الجزاء، فهو الدلالة علي أنّ ذلك اليوم تتمّ الحجّة عليهم بما فعلوا، أي ليس يوم القيامة يجزي الناس من دون عرض أعمالهم، بل تعرض أعمالهم حتّي لم يكن لهم حجّة، ثم يجزون بما فعلوا، ولو قال: يجزيكم، لم يفد ذلك.

وكذا لا احتياج إلي ذكر (يجزيكم) بعد (ينبئكم)، لأنّ الإخبار بما فعلوا لولا الجزاء كان لغواً، جلّ عن ذلك. والخلاصة: إنّ الجزاء من الأخبار ظاهر لكونه لازمه، فلا يحتاج إلي ذكره معه، وعن الجزاء ليس الإخبار ظاهراً، فلا يكون مكانه. هذا.

ويستفاد من إتيان الفاء الدالة علي التراخي بظاهرها: تعطيلهم في المحشر الموجب لتعذيبهم، فإنّ الوقوف فيه للجرم عذاب شديد.

ونختم الآية بالحديث المرويّ عن الصّادق عليه السّلام في هذه الآية قال عليه السّلام تعدّ السنين، ثمّ تعدّ الشهور، ثمّ تعدّ الأيّام، ثمّ تعدّ الساعات، ثمّ يعدّ النفس «فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لايَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» «1»

، والمعني: إنّ السنين تعدّ إلي السنة التي فيها

__________________________________________________

(1) تفسير البرهان 4/ 334.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 109

يموت، وهكذا الشهور والأيّام والساعات والأنفاس حتي النفس الأخير. لا أنّ المعني: تعدّ النفس حتّي يصير ساعة، ثمّ السّاعات حتّي يصير يوماً، ثمّ الأيّام حتي يصير شهراً، ثمّ الشهور حتّي يصير السّنة، ثمّ السنين حتّي يجي ء أجله، فيشكل بأنّه لماذا عكس في الرواية، فتدبّر جيّداً [1].

[1] قال العلّامة الطباطبائي: «ففي الآية إيذانهم، أوّلًا: إنّ فرارهم من الموت خطأ منهم فإنّه سيدركهم ويلاقيهم، وثانياً: إنّ كرامتهم لقاء اللَّه خطأ آخر، فإنّهم مردودون إليه محاسبون علي أعمالهم السيئة، وثالثاً: إنّه تعالي لا يخفي عليه شي ء من أعمالهم ظاهرها وباطنها ولا يحيق به مكرهم، فإنّه عالم الغيب والشهادة.

ففي الآية إشارة أوّلًا: إلي أنّ الموت حقّ مقضي، كما

قال «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» «1»

وقال: «نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقينَ» «2»

، وثانياً: إنّ الرجوع إلي اللَّه لحساب الأعمال حقّ لا ريب فيه، وثالثاً: إنّهم سيوقفون علي حقيقة أعمالهم، فيوفونها، ورابعاً: إنّه __________________________________________________

(1) سورة الأنبياء، الآية: 35.

(2) سورة الواقعة، الآية: 60.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 110

تعالي لا يخفي عليه شي ء من أعمالهم، وللإشارة إلي ذلك بدل اسم «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلي ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ».

في هذه الآية مباحث:

الأوّل: وجه التعليق بما قبل، أي الربط بينها وبين الآية السابقة.

الثاني: وجه الخطاب بنحو القضيّة الشرطيّة الحقيقيّة.

الثالث: وجه الخطاب بالمؤمنين، ولم يذكر يا أَيُّهَا النَّاسُ، كما في بعض الموارد، مع أنّ الكفّار لما كانوا مكلّفين، لزم توجّه الخطاب إليهم أيضاً.

الرابع: سبب قوله «إِذا» وما يستفاد منه.

الخامس: الإتيان بلفظ المجهول «نُودِيَ»، وعدم ذكر المفعول به، بأن يقول نوديتم، ولم أتي بلفظ النداء دون الأذان.

السادس: إدخال مِنْ في قوله «مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ».

السابع: معني الجمعة.

الثامن: سبب قوله «فَاسْعَوْا» دون فامضوا أو اسرعوا.

التاسع: وجه قوله «إِلي ذِكْرِ اللَّهِ» دون إليها مع أنّه أخصر.

الجلالة من قوله عالم الغيب والشهادة» «1».

__________________________________________________

(1) الميزان في تفسير القرآن 19/ 309 و 310.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 111

العاشر: التصريح بقوله «ذَرُوا الْبَيْعَ»، مع أنّه يستفاد من قوله تعالي «فَاسْعَوْا»، للمنافاة بينهما.

الحادي عشر: إختصاص البيع بالذكر.

الثاني عشر: معني قوله «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ» ووجه الخيرية.

الثالث عشر: معني الشرطية، فإنّهم سواء علموا أم لم يعلموا كان ذلك خيراً.

الرابع عشر: وجه قوله تعالي «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» دون تَفْقَهُونَ، أو نحو ذلك.

ويذكر في طي كلّ من المباحث مطالب لها ربط بالمقام.

أمّا البحث الأوّل: فوجه الربط.

1- ما ذكرنا سابقاً

من أنّ السّورة في مقام إبطال مباهاة اليهود بالأمور الثلاثة التي مرّ ذكرها. وهذا ظاهر، لأنّه لمّا فرغ من الأمرين الأوّلين شرع في الأمر الثالث، أعني بيان إنّ للعرب وللمسلمين الجمعة، كما إنّ لليهود السبت.

2- إنّه لما قال في أوّل السورة «يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» أراد أن يبيّن ذلك تفصيلًا، فإنّ صلاة الجمعة بما لها من الخطبتين مشتملة علي جميع ما ذكر، كما سنذكره إن شاء اللَّه تعالي. وقصّة اليهود مثل وتهديد في ضمن الكلام،

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 112

فلا ينافي الربط.

3- وقيل: «وجه التعلق بما قبلها، هو إنّ الذين هادوا يفرّون من الموت لمتاع الدنيا وطيّباتها، والذين آمنوا يبيعون ويشرون لمتاع الدنيا وطيّباتها كذلك، فنبّههم اللَّه تعالي بقوله «فَاسْعَوْا إِلي ذِكْرِ اللَّهِ» أي إلي ما ينفعكم في الآخرة، وهو حضور الجمعة» «1» انتهي.

وخلاصته: إنّ الآية في مقام تنبيه المؤمنين بأن لا يكونوا مثل اليهود في ابتغائهم عرض هذه الدنيا.

وأمّا البحث الثاني: فوجه الخطاب بنحو القضيّة الحقيقيّة، هو التعميم ليعمّ المخاطبين، أعني الأمّيّين والآخرين الذين «لَمَّا يَلْحَقُوا».

وأمّا البحث الثالث، سبب تخصيص الخطاب بالمؤمنين، مع أنّ الكفّار مكلّفون بالفروع الموجب لتوجّه الخطاب إليهم، فهو كون المؤمنين محلّ الإبتلاء دونهم، وعدم لزوم توجّه الخطاب إلي الكفّار ولو كانوا مكلّفين [1] وأنّ الكفّار معاقبون علي الفروع كمعقابتهم [1] الثابت عند علماء الكلام، إنّ الكفّار مكلّفون بالتكاليف الشرعية كالمؤمنين، ولذلك فهم يحاسبون عليها يوم القيامة حتّي لو أتوا

__________________________________________________

(1) تفسير الرازي 30/ 8.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 113

علي الأصول، لأنّ الخطابات المطلقة كنحو (يا أيّها النّاس) والمتوجّه إليهم كمثل (يا أهل الكتاب)، كافٍ في عقابهم علي الفروع، فإنّهم لو آمنوا لشملهم الخطاب، وبتركهم له كانوا عاصين معاقبين،

فكذا مع عدم إيمانهم، لأنّهم تعمّدوا ترك الإمتثال بتعمّد عدم الإيمان، فإنّ العقلاء لا يرتابون في ذمّ عبد ترك أمر المولي بالنسبة إلي فعل معيّن، لتركه المجي ء عنده للأمر الذي كان مأموراً به، ولا محلّ لاعتراضه علي المولي بانّك خاطبت الحاضرين ولم أكن معهم.

وأمّا البحث الرّابع، أي سبب التعليق (بإذا): فهو إفادة عدم لزوم السّعي إذا لم يناد لصلاة الجمعة، فإنّ المشروط ينعدم عند عدم شرطه، وصلاة الجمعة ليست كسائر الصّلوات واجباً مطلقاً، فإنّها حيث كانت مطلقة لم يعلّقها في الآيات بشي ء كقوله «أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلي غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ» «1»

وقوله «حافِظُوا عَلَي بها، فإنّهم حال كونهم كفّار لا يتأتي منهم قصد القربة، ولكن اختلف علماء الكلام في أنّهم مكلّفون بالإعتقاد بأصول العقائد فقط، أو أنّهم مكلّفون بالفروع أيضاً.

__________________________________________________

(1) سورة الإسراء، الآية: 78.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 114

الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطي «1»

وقوله «إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَي الْمُؤْمِنينَ كِتابًا مَوْقُوتًا» «2».

ويستفاد من التعليق (بإذا) أيضاً: عدم لزوم تحصيل النداء، كما هو شأن الواجب المشروط كالحجّ، فإنّه لا يجب تحصيل الزاد والراحلة، وكذا غيره من الواجبات المشروطة بشي ء، كالخمس والزكاة وغيرهما [1]. نعم، الظاهر أنّ وليّ الأمر من النّبي صلّي اللَّه عليه وآله والوصيّ عليه السّلام أو من كان منصوباً خاصّاً من قِبَلهما يتصدّي للنداء، ويأمر به في يوم الجمعة، بحيث كان ذلك من الوظائف المقرّرة في الشريعة، كما ربما يستفاد ذلك من بعض الروايات بل كادت تكون صريحة فيه.

[1] المطلق والمشروط: تنقسم الواجبات في الشريعة الإسلاميّة إلي واجب مطلق، وواجب مشروط، وأنّ الواجب إذا قيس وجوبه إلي شي ءٍ آخر خارج عن الواجب، فهو لا يخرج عن أحد نحوين: 1- أن يكون متوقّفاً وجوبه علي ذلك

الشي ء، وهو- أي الشي ء- مأخوذ في وجوب الواجب علي نحو الشرطية، كوجوب الحجّ بالقياس إلي __________________________________________________

(1) سورة البقرة، الآية: 238.

(2) سورة النساء، الآية: 103.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 115

وأمّا في عصر الغيبة والمنصوبين بالنّيابة العامّة، فلا دليل علي وجوب النداء عليهم، لكنّهم إن تصدّوا لذلك، أو تصدّي غيرهم له، واجتمع العدّة، أعني الخمسة أو السبعة، لوجب علي الكلّ الحضور للصّلاة، واللَّه العالم [1].

الإستطاعة، وهذا هو المسمّي بالواجب المشروط، لإشتراط وجوبه بحصول ذلك الشي ء الخارج، ولذا لا يجب الحجّ إلّاعند حصول الإستطاعة 2- أن يكون وجوب الواجب غير متوقّف علي حصول ذلك الشي ء الآخر، كالحجّ بالقياس إلي قطع المسافة وإن توقّف وجوده عليه، وهذا هو المسمّي بالواجب المطلق، لأنّ وجوبه مطلق غير مشروط بحصول ذلك الشي ء الخارج، ومنه الصّلاة بالقياس إلي الوضوء والغسل والساتر ونحوها. ومن مثال الحجّ يظهر أنّه- وهو واجب واحد- يكون واجباً مشروطاً بالقياس إلي شي ءٍ، وواجباً مطلقاً بالقياس إلي شي ء آخر، فالمشروط والمطلق أمران إضافيان. ثمّ اعلم أنّ كلّ واجب، هو واجب مشروط، بالقياس إلي الشرائط العامّة، وهي البلوغ والقدرة والعقل، فالصّبي والعاجز والمجنون لا يكلّفون بشي ء في الواقع «1».

[1] لا شكّ أنّ صلاة الجمعة واجبة في الشريعة الإسلاميّة، لكن __________________________________________________

(1) أصول الفقه للمظفّر قدّس سرّه 1/ 87.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 116

ذهب ابن ادريس وسلّار والسيّد المرتضي وغيرهم من الفقهاء الإماميّة، إلي أنّ وجوبها مشروط بوجود النّبي صلّي اللَّه عليه وآله أو الإمام عليه السّلام أو النائب الخاصّ، المنصوص من النّبي أو الإمام، وحيث إنّ عصرنا هذا هو عصر الغيبة الكبري، فإنّ الإمام الحجّة بن الحسن المهدي صاحب الزمان أرواحنا له الفداء غائب عن الأنظار، أفتوا بحرمة إقامة الجمعة «1».

وذهب بعض كالشهيد

الثاني وغيره إلي أنّ وجود النّبي صلّي اللَّه عليه وآله والإمام عليه السّلام أو النائب الخاصّ لم يكن شرطاً، بل تجب صلاة الجمعة في جميع الأزمنة، وذهب بعض إلي التخيير بين إتيان الظهر أو صلوة الجمعة، وهو الأشهر، كما قال به آية اللَّه العظمي السيّد أحمد الخوانساري:

«قد يجمع بين الأخبار الّتي تمسّك بها لمشروعيّة إقامة الجمعة مع عدم المنصوب من قبل الإمام عليه السّلام، وبين ما يستفاد منه عدم مشروعيّة الجمعة إلّامع الإمام عليه السّلام أو من يكون منصوباً من قبله، بأن يكون وجوب صلاة الجمعة بحسب الجعل الأوّلي مشروطاً بأن __________________________________________________

(1) راجع حجّة التفاسير 7/ 14.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 117

يقيمها النّبي صلّي اللَّه عليه وآله أو خلفاؤه عليهم السلام أو من يكون منصوباً من قبلهم، فإذا دعوا إليها يجب السّعي إليها علي كلّ مكلّف إلّا من استثني، وفي زمن عدم حضورهم أو كونهم غير مبسوطي اليد، يجب علي الناس في يوم الجمعة صلاة أربع ركعات، وفي تلك الحالة إذا اجتمعوا للجمعة بالعدد المعتبر يصحّ منهم الجمعة مع بقاء مشروعيّة الظّهر بإطلاق المادة، ونتيجته التخيير» «1». وذهب بعض إلي أنّه لو اجتمعت الشرائط وجب الحضور إحتياطاً، كما قال به آية اللَّه العظمي السيّد ابوالقاسم الخوئي «2».

وقال السيّد الوالد: لا يجب النّداء لصلاة الجمعة، ولكن إذا نودي لصلوة الجمعة واجتمعت العدّة وجبت، لأنّ الأمر بالسعي في قوله تعالي «إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ» لا يمكن تعلّقه بالصّلاة، فلابدّ وإن يتعلق بإذا نودي، ويكون بياناً لظرف الزمان المستفاد من كلمة (إذا)، ويمكن أن يكون متعلّقاً بالصّلاة بتقدير المدخول، أي للصّلاة من وظائف يوم الجمعة لا لغيرها منها.

__________________________________________________

(1)

جامع المدارك في شرح المختصر النافع 1/ 524.

(2) منهاج الصّالحين

1/ 186.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 118

ثمّ إذا لوحظ ظاهر الكتاب من دون مراجعة الروايات، يمكن أن يقال: إنّ الصّلاة هي طبيعة الصّلاة، ولو كان المراد هو العهد لاختصّ بصلاة الجمعة التي كان الرّسول صلّي اللَّه عليه وآله يقيمها، فإنّها المعهود، فتشمل صلاة الظّهر أيضاً، والمبادرة الّتي تستفاد من السّعي بل ومن الفاء التفريعية الواقعة في الجزاء المفيدة لتفرّع المادة المنتسبة، أو مفاد الهيئة وهي النسبة التلبسية إلي مقدّم الشّرطية، لا تنافيها، فإنّ وقتها يوم الجمعة ضيق كوقت صلوة الجمعة، وأيضاً الأمر بالسعي لا مجال لإستظهار الوجوب منه، فإنّه محفوف بجملة «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ» ولا أقلّ من أنّه يمكن أن يكون جهة الخير بلحاظ أنّ صلاة الجمعة أفضل من عدلها التخييري، وهو صلاة الظهر.

وبعبارةٍ أخري: أنّ الخير هو أفعل التفضيل، كما في قوله تعالي «فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوي «1»

و «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها» «2» و «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ» «3»

هذا كلّه، مضافاً إلي أنّ الآية الشريفة

__________________________________________________

(1) سورة البقرة، الآية: 197.

(2) سورة النمل، الآية: 89.

(3) سورة البقرة، الآية: 54.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 119

وأمّا البحث الخامس: فينحلّ إلي ثلاث جهات:

الأولي: وجه الإتيان بلفظ المجهول «نُودِيَ»: هو عدم الخصوصيّة في الفاعل، فإنّ المقصود وقوع النداء في الخارج، سواء كان المنادي زيداً أم عمرواً أم بكراً، كما تقول لمنتظر الزوال: إذا أذن فاستعد للصّلاة، حيث لا تريد أذان مؤذن مخصوص، وليست الآية بسببه من المتشابهات كما زعمه بعض- وقال: أتي بالفعل المجهول ولم يذكر المنادي لئلّا يؤخذ بإطلاقه، بل أشار بالإجمال والإهمال وأنّه ليس بصدد البيان، بل أوكل بيانه إلي أولي العلم، قال تعالي «مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ

في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ» «1»

إلي آخر ما ذكره من نحو هذه الكلمات- لأنّ الفعل المجهول ظاهر في التعميم وعدم الخصوصيّة، فإنّ الإتيان به لتعليق الحكم بالواقع في الخارج من غير نظر إلي شخص معيّن، خصوصاً إذا كان المتكلّم بصدد البيان.

لا تفيد الأمر بايقاع صلاة الجمعة ووجوب النّداء لها، بل تدلّ علي الأمر بالسعي علي تقدير النّداء، فيكون السّعي إليها واجباً مشروطاً بالنّداء، أمّا

__________________________________________________

(1) سورة آل عمران، الآية: 7.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 120

وجوب تحصيل الشرط، فلا تدلّ الآية عليه.

وبالجملة: فإنّ «نُودِيَ» له معنيً ظاهر، وهو الإسناد إلي المفعول له، لدخالته في الحكم، ولم يسند إلي الفاعل، لعدم مدخلية ذلك في الحكم، ضرورة أنّه لم يكن في الشرع للمنادي خصوصيّة يختلف باختلافه الحكم، مثلًا لو لم يكن ينادي بلال [1] يوماً هل كان [1] بلال بالكسر بن رياح الحبشي، كان من السّابقين في الإسلام، شهد بدراً وأحداً وخندق والمشاهد كلّها مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، وكان ممّن يعذّب في اللَّه عزّ وجل فيصبر علي العذاب، وكان أبو جهل يبطحه علي وجهه في الشمس ويضع الرّحي عليه حتّي تصهره الشمس، ويقول: أكفر بربّ محمّد صلّي اللَّه عليه وآله فيقول: أحداً أحداً، هانت عليه نفسه في اللَّه عزّ وجلّ، وهان علي قومه فأخذوه، فكتفوه، ثمّ جعلوا في عنقه حبلًا من ليف، فدفعوه إلي صبيانهم فجعلوا يلعبون به بين اخشبي مكّة فإذا ملوا تركوه، وقيل: إشتراه أبو بكر، وهو مدفون بالحجارة ضربته جماثه ضربة ألقي علي الأرض، فرآه سلمان وصهيب ملقي علي وجه الأرض ميتاً والدم يجري من تحته، فأخبر النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله بذلك فصلّي النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله ركعتين ودعا بدعوات وأخذ كفاً من

الماء فرشّه علي بلال فوثب قائماً وجعل يقبّل قدم النّبي صلّي اللَّه عليه وآله، قال الصّادق عليه السّلام: «رحم اللَّه سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 121

بلالًا فإنّه كان يحبّنا أهل البيت، لعن اللَّه صهيباً فإنّه كان يعادينا» «1».

وعن جابر، قال: «كان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله في قبّة من ادم (خيمة اسمر) وقد رأيت بلالًا الحبشي وقد خرج من عنده ومعه فضل وضوء رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله فابتدره الناس، فمن أصاب منه شيئاً تمسح به وجهه، ومن لم يصب منه شيئاً أخذ من يدي صاحبه فمسح به وجهه، وكذلك فعل بفضل وضوء أمير المؤمنين عليه السّلام» «2»، وبلال أوّل من أذن في الإسلام وكان مؤذّن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله في حياته سفراً وحضراً، وكان مسجد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله بلا منارة وكان بلال يؤذّن علي الأرض.

وعن أبي عبداللَّه عليه السّلام قال: «كان طول حائط مسجد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله قامة، فكان يقول صلّي اللَّه عليه وآله لبلال إذا أذن: أعل فوق الجدار وارفع صوتك بالأذان» «3»، وأذن بلال علي ظهر الكعبة في عمرة القضاء (السنة السابعة من الهجرة) وفي فتح مكّة دخل __________________________________________________

(1) الاختصاص: 73.

(2) بحار الأنوار 17/ 33، باب العشرة معه وتفخيمه، الرّقم 15.

(3) بحار الأنوار 81/ 148.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 122

رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله مكّة وكان وقت صلاة الظهر، فأمر رسول اللَّه صلي اللَّه عليه وآله بلالًا فصعد علي ظهر الكعبة فأذن، فما بقي صنم بمكّة إلّاسقط علي وجهه» «1».

فلمّا توفّي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله إمتنع بلال من الأذان، وقال: لا أؤذّن لأحد بعد رسول اللَّه، وغضب عليه عمر

بن الخطاب لإبائه البيعة مع أبي بكر، فقال له عمر: لا أبالك لا تقم معنا، فارتحل بلال إلي الشّام، ولمّا دخل الشّام لم تر باكياً أكثر من ذلك اليوم، ورأي النّبي صلّي اللَّه عليه وآله في منامه، وهو يقول: ما هذه الجفوة يا بلال، ما آن لك أن تزورنا؟ فانتبه حزيناً فركب إلي المدينة، فأتي قبر النّبي صلّي اللَّه عليه وآله وجعل يبكي عنده ويتمرغ عليه، فأقبل الحسن والحسين عليهما السّلام فجعل يقبّلهما ويضمّهما، فقالا له نشتهي أن تؤذن في السحر، وفي رواية: إنّ فاطمة عليها السّلام قالت ذات يوم إنّي أشتهي أن أسمع صوت مؤذّن أبي بالأذان، فبلغ بلالًا ذلك، فعلا بلال سطح المسجد، فأخذ في الأذان، فلمّا قال: اللَّه أكبر اللَّه أكبر، ارتجت المدينة

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار 21/ 119.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 123

النّبي صلّي اللَّه عليه وآله يترك الجمعة؟ والحاصل: إنّ المعني المطابقي لكلمة «نُودِيَ» واضح، وقد ذكر في مقام البيان، ولو فرض الشك في كونه في هذا المقام لحكمنا بمقتضي أصالة البيان أنّه في مقامه، فنأخذ بمفاده، فلا داعي إذاً لحمل هذه الآية علي المتشابهات بدعوي كونها مجملة أو مهملة [1].

وإنّ فاطمة ذكرت أباها وأيّامه، فلم تتمالك من البكاء، فلمّا قال: أشهد أن لا إله إلّااللَّه، زادت رجتها، فلمّا قال: أشهد أنّ محمّداً رسول اللَّه خرج النساء من خدورهنّ وشهقت فاطمة وسقطت لوجهها، وغشي عليها، فقال الناس لبلال: إمسك يا بلال، فقد فارقت إبنة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله الدنيا وظنّوا أنّها قد ماتت، فقطع أذانه ولم يتمه، فما رؤي يوم أكثر باكياً وباكية من ذلك اليوم، فأفاقت فاطمة، وسألته أن يتمّ الأذان، فلم يفعل، وقال لها يا سيدة النساء إنّي

أخشي عليك ممّا تنزلينه بنفسك إذا سمعتي صوتي بالأذان فأعفته من ذلك. رجع بلال إلي دمشق وتوفّي رحمه اللَّه بدمشق ودفن بباب الصغير سنة عشرين وهو ابن بضع وستين سنة «1».

[1] المجمل والمبيّن؛ المبيّن: ما كان ظاهراً في معناه يدلّ علي مقصود قائله أو فاعله علي وجه الظن أو اليقين، فالمعيّن يشمل الظاهر

__________________________________________________

(1) أسد الغابة 1/ 208، وتنقيح المقال 1/ 182، وسفينة البحار 1/ 16 و 104.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 124

الثانية: سبب عدم جعل المفعول به نائباً عن الفاعل: أي لم يقل (نوديتم)، هو إفادة العموم وعدم إرادة الخصوصيّة، فإنّه لو قال:

والنّص معاً.

المجمل: ما جهل فيه مراد المتكلم ومقصوده إذا كان لفظاً، وما جهل فيه مراد الفاعل ومقصوده إذا كان فعلًا، ومرجع ذلك إلي أنّ المجمل هو اللفظ أو الفعل الذي لا ظاهر له، قد ينشأ من كون الشارع في مقام التشريع دون النظر إلي مرحلة الإمتثال، وقد ينشأ من كونه في صدد بيان آخر، مثل قوله تعالي بالنسبة إلي الكلاب المعلّمة «فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ» «1»

في صدد بيان حلّيّة أكل الصّيد ولذلك فهي مجمل من ناحية نجاسة موضع الإمساك وعدمها، وتارةً يكون إجماله لكونه مجازاً أو لعدم معرفة عود الضمير فيه الذي هو من نوع مغالطة المماراة، مثل قول القاتل لما سئل عن فضل أصحاب النبي صلّي اللَّه عليه وآله فقال «من بنته في بيته» وكقول عقيل «أمرني معاوية أن أسب عليّاً، ألا فالعنوه» «2» «3».

__________________________________________________

(1)

سورة المائدة، الآية: 4.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 613 وقد نقل عن سلطان المحققين في حاشية المعالم في البحث عن المجمل.

(3) أصول الفقه للعلّامة المظفر 2/ 195.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 125

نوديتم، لتوهّم اختصاص الحكم بهم، وقد ذكر أهل البيان إنّ

الحذف قد يكون للتعميم كقولك: قد كان منك ما يؤلم، تريد كلّ واحد، وهذا التعميم وإن أمكن أن يستفاد من ذكر المفعول بصيغة العموم، لكنّه يفوت الإختصار حينئذ، والمراد أنّ كلّ من يمكن نداؤه من أولي العقل، كقوله: ولو تري، علي ما قيل من أنّه خطاب لكلّ من يتمكن من الرؤية، مضافاً إلي أنّ الدخيل في الحكم هو الإسناد إلي المفعول له، وحصر نائب الفاعل فيه أوفق بالدلالة علي ذلك.

وأمّا خروج مثل الصبي والمجنون والمرأة وغيرهم مع إمكان ندائهم، فبما سنذكره بعد إنْ شاء اللَّه تعالي ممّا يستفاد من نفس الآية، مع قطع النظر من الأخبار الدالة علي خروجهم.

الثالثة: أمّا علّة التعبير بالنداء دون الأذان، فهو اشتماله علي الحيعلات، فإنّها نداء وأمر بالصّلاة والأذان، وإن كان هو أمراً بالصّلاة، إلّاأنّه في غير صلاة الجمعة فقط للإعلام.

وأمّا البحث السادس، أي سبب إدخال «من» في قوله «مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ»: فقيل إنّه بمعني «في» أي في يوم الجمعة، وقيل: إنّه للبيان، وقدر مضاف أي من صلاة يوم الجمعة، وقيل: إنّها بيان «لإذا».

والأصحّ: إنّها بمعني التبعيض، أي بعض يوم الجمعة، فإنّ النداء الواجب إجابته مختص بالنداء لصلاة الجمعة لا لصبحها

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 126

وعصرها، وليس بتلك المعاني المذكورة، لما في الأوّل من خلاف الظاهر، فإنّ الظاهر إنّ (من) استعملت في معناها لا في معني «في».

وفي الثاني من التكلّف، فإنّ الأصل عدم التقدير. وفي الثالث فوات النكتة التي ذكرناها، وهو لا يختص به بل آت في الأوّلين أيضاً.

وأمّا البحث السابع، معني الجمعة، وسبب وضعها واللغات فيها: فالجمعة علي ما في القاموس بمعني المجموعة، «1» وفيها لغات، ضمّ الميم، وعليه القراءة المشهورة، وهي لغة أهل الحجاز.

وفتحها، وهي لغة بني تميم، وسكونها وهي

لغة عقيل.

واختلف في وجه وضعها، ففي الصافي عن الكافي عن الباقر عليه السّلام: «إنّ اللَّه جمع فيها خلقه لولاية محمّد صلّي اللَّه عليه وآله ووصيّه في الميثاق فسمّاه يوم الجمعة، لجمعه فيه خلقه» «2» وكذا في مجمع البحرين [1] إلّاأنّه زاد في أوّله سميت الجمعة جمعة، لأنّ اللَّه … ونقص من آخره: لجمعه فيه خلقه «3».

[1] «وكان يسمّي (الجمعة) أوّلًا يوم العروبة، ثمّ غلب عليه اسم __________________________________________________

(1) القاموس 3/ 14.

(2) الكافي 3/ 415، الرّقم 7، باب فضل يوم الجمعة، تفسير الصّافي 7/ 190.

(3) مجمع البحرين 1/ 395.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 127

وفي مجمع البيان إنّما سمّي جمعة، لأنّه تعالي فرغ فيه من خلق الأشياء، فاجتمعت فيه المخلوقات «1»، وفي البيضاوي: إنّما سمّي جمعة لاجتماع النّاس فيه للصّلاة «2»، وقيل: لأنّه لا تجمع فيه الجمعة» «3»، وقيل: «لإجتماع الناس فيه للصلوة» «4» وقيل: «أوّل جمعة صلّي فيها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله بعد ما قدم مهاجراً إلي المدينة في بني سالم بن عوف في بطن وادٍ لهم، إتّخذ في ذلك الموضع مسجداً فخطب في هذه الجمعة وهي أوّل خطبة خطبها، وصلّي الجمعة في الإسلام» «5» وقيل: «وقد ورد في فضل الجمعة روايات كثيرة وعن سلمان رضي اللَّه عنه عن النّبي صلّي اللَّه عليه وآله أنّه قال: «واللَّه يا عليّ إنّ شيعتك ليؤذن لهم في الدخول عليكم في كلّ جمعة، وإنّهم لينظرون إليكم من منازلهم يوم الجمعة كما ينظر أهل الدنيا إلي النجم في السّماء، وإنّكم لفي أعلي علّيين في غرفةٍ ليس فوقها درجة أحد من خلقه «6» «7».

__________________________________________________

(1)

مجمع البيان 10/ 9.

(2) تفسير البيضاوي: 736.

(3) مجمع البحرين 4/ 313.

(4) الميزان 19/ 314.

(5) تفسير الجواهر 24/ 171.

(6)

بحار الأنوار 8/ 174.

(7) مجمع البيان 5/ 286.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 128

الجماعات «1». وفي تفسير الرازي عن سلمان رضي اللَّه عنه قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: «سمّيت الجمعة جمعة، لأنّ آدم جمع فيها خلقه» «2» وقيل: أوّل من سمّاه كعب بن لؤي جدّ النّبي صلّي اللَّه عليه وآله وكانت العرب تسميه العروبة «3». وقيل: الأنصار. وقيل غير ذلك ممّا لا يسعه المقام، فليرجع إلي محلّه «4».

وأمّا البحث الثامن، أي سبب قوله «فَاسْعَوْا» دون فامضوا أو إسرعوا: الأمر بالسرعة إليها بالأقدام والقصد في المشي، والكفّ عن العمل، والسرعة بالقلب، كما تقول لزيد: إسع إلي الأمر الفلاني، تريد السرعة بالقلب. وليس جميع ما ذكرناه معني مطابقيّاً له، وفي الصافي عن الباقر عليه السّلام: «أسعوا أي امضوا» «5» وعن العلل عن الصّادق عليه السّلام: معني «فاسعوا هو الإنكفاء» «6» وعن الكافي عن الباقر

__________________________________________________

(1) الظاهر أنّ المراد عدم اجتماع الناس في المساجد لصلاة الظهر، في يوم الجمعة، ولكن لم نجده بهذا اللفظ، وفي مجمع البيان: لأنّه تجتمع فيه الجماعات.

(2) تفسير الفخر الرازي 30/ 8.

(3) تفسير الكشاف 4/ 104.

(4) تفسير صدر الدين الشيرازي: 576.

(5) تفسير الصّافي 7/ 191 عن القمي 2/ 367.

(6) علل الشرائع 2/ 357.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 129

عليه السّلام فاسعوا إلي ذكر اللَّه قال: «إعملوا وعجّلوا، فإنّه يوم مضيق علي المسلمين [فيه ، وثواب أعمال المسلمين فيه علي قدر ما ضيق عليهم، والحسنة والسيئة تضاعف فيه، قال: واللَّه لقد بلغني أنّ أصحاب النّبي كانوا يتجهّزون للجمعة يوم الخميس، لأنّه يوم مضيّق علي المسلمين «1» انتهي.

واعلم: أنّ تفسير السعي بالعمل بالتعجيل، توطئة لقوله عليه السّلام: فإنّه يوم مضيق، وأمّا كونه يوم مضيق، فلعدم كونه كسائر الأيّام لكثرة

الأعمال فيه، فلا يمكن البطء في العمل مع الإتيان بتمام الأعمال. ولعلّ المراد بقوله: وثواب أعمال المسلمين فيه علي قدر ما ضيق عليهم إنّ الذي يضيق عليه اليوم أكثر من الآخر، كمن بعد بيته عن محلّ إقامة الجمعة مثلًا الموجب لكثرة تعبه، يكون ثوابه أكثر، فإنّ أفضل الأعمال أحمزها.

وفي المقام أقوال أخر ضربنا عنها صفحاً حذراً عن التطويل [1].

[1] عن سعيد بن جبير قال: ما خلق اللَّه رجلًا بعد النّبيّ صلّي اللَّه عليه وآله أفضل من عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، قول اللَّه عزّ وجلّ «فَاسْعَوْا إِلي ذِكْرِ اللَّهِ»: ولاية علي بن أبي طالب عليه السّلام، ورواه ابن عباس «2».

__________________________________________________

(1) الكافي 3/ 415، باب فضل يوم الجمعة، الرّقم 10 وتفسير البرهان 4/ 334.

(2) تفسير فرات الكوفي: 185.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 130

وأمّا البحث التّاسع، أي وجه قوله «إِلي ذِكْرِ اللَّهِ» دون إليها، مع أنّه أخصر: فهو الإشارة إلي الصّلاة بمالها من الخطبتين، ليفيد وجوب الحضور إلي سماع الخطبتين أيضاً، لا مجرّد الحضور إلي الصّلاة ولو بعدهما، وبيان عظمة صلاة الجمعة من كونها ذكر اللَّه، وهو أمر عظيم، فهو مثل العلّة، فيكون للترغيب، كما يقال: إذا نودي للحضور لدي الأمير يوم العيد فبادروا إلي شمول عناياته، ولا يقال: بادر إلي الحضور، أو إذا صاح الدلال للبضاعة فبادر إلي الإسترباح، ولا يقال إلي شراءها، والتقدير الحضور الموجب لشمول عناياته. وهكذا الإسترباح، ومن الواضح إنّ ما كان كذلك ينبغي البدار اليه [1].

[1] إختلف الأصوليون في دلالة صيغة الأمر علي الفور والتراخي علي أقوال:

1. أنّها موضوعة للفور.

2. أنّها موضوعة للتراخي.

3. أنّها موضوعة لهما علي نحو الإشتراك اللفظي.

4. أنّها غير موضوعة لا للفور ولا للتراخي ولا للأعمّ منهما، بل لا

دلالة لها علي أحدهما بوجه من الوجوه، وإنّما يستفاد أحدهما من القرائن الخارجية التي تختلف باختلاف المقامات، والحقّ هو الأخير،

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 131

والدليل عليه: عرفت من أنّ صيغة إفعل، إنّما تدلّ علي النسبة الطلبية، كما أنّ المادة لم توضع إلّالنفس الحدث غير الملحوظة معه شي ء من خصوصياته الوجودية، وعليه فلا دلالة لها، لا بهيئتها ولا بمادتها علي الفور والتراخي، بل لابدّ من دالّ آخر علي شي ء منهما، فإن تجردت علي الدال الآخر، فإنّ ذلك يقتضي جواز الإتيان بالمأمور به علي الفور أو التراخي، هذا بالنظر إلي نفس الصيغة، أمّا بالنظر إلي الدليل الخارجي المنفصل، فقد قيل بوجود الدليل علي الفور في جميع الواجبات علي نحو العموم إلّاما دلّ عليه دليل خاصّ ينصّ علي جواز التراخي فيه بالخصوص، وقد ذكروا لذلك آيتين:

(الأولي): قوله تعالي «وَسارِعُوا إِلي مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ» «1»

وتقريب الإستدلال بها: إنّ المسارعة إلي المغفرة لا تكون إلّابالمسارعة إلي سببها، وهو الإتيان بالمأمور به، لأنّ المغفرة فعل اللَّه تعالي، فلا معني لمسارعة إليها، وعليه فيكون الإسراع إلي فعل المأمور به واجباً لما مرّ من ظهور صيغة إفعل في الوجوب.

__________________________________________________

(1)

سورة آل عمران، الآية: 127.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 132

(الثانية) قوله تعالي «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ» «1»

فإنّ الإستباق بالخيرات عبارة أخري عن الإتيان بها فوراً.

(والجواب) عن الإستدلال بكلتا الآيتين، إنّ الخيرات وسبب المغفرة كما تصدق علي الواجبات تصدق علي المستحبات أيضاً، فتكون المسارعة والمسابقة شاملتين لما هما في المستحبات أيضاً، ومن البديهي عدم وجوب المسارعة فيها، كيف وهي يجوز تركها رأساً، وإذا كانتا شاملتين للمستحبات بعمومهما، كان ذلك قرينة علي أنّ طلب المسارعة ليس علي نحو الإلزام، فلا تبقي لهما دلالة علي الفورية في عموم الواجبات، بل

لو سلمنا باختصاصهما في الواجبات لوجب صرف ظهور صيغة إفعل فيها في الوجوب وحملها علي الإستحباب، نظراً إلي إنّا نعلم عدم وجوب الفورية في أكثر الواجبات، فيلزم تخصيص الأكثر بإخراج أكثر الواجبات عن عمومهما، ولا شكّ أنّ الإتيان بالكلام عامّاً مع تخصيص الأكثر وإخراجه من العموم بعد ذلك قبيح في المحاورات العرفية ويعدّ الكلام عند العرف مستهجناً، فهل __________________________________________________

(1) سورة البقرة، الآية: 143، وسورة المائدة، الآية: 53.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 133

ثمّ إنّ النقطة المركزية، هو ذكر اللَّه ويلازمه السياسة الدينية والمدنية. وبعبارةٍ أخري: الملازمة بين ذكر اللَّه بالكيفيّة المخصوصة وقسمي العقل العمليّ والنّظري، فإنّ الإنسان بسبب الذكر يصير كتاباً تكوينياً آفاقياً، وعالماً عقلياً مضاهياً للعالم العيني.

وتفسير ذلك: إنّ القوي الجسمانية بسبب الإنهماك في الشهوات الحيوانية مانعة عن رقّي الروح وموجبة لاشتغالها بها وغفلتها عن مبدأها، ولهذا تنحط غاية الإنحطاط، فلابدّ من الرياضة الروحية، وترك المشتهيات الطبعية، والإنتقال من الغفلة إلي الذكر، فإن فيه حياة القلب وغذاء الروح، وأيضاً: إنّ العالم السفلي- أعني النشأة الأولي- مشتركة بين ذوي العقول وغيرهم من أصناف الحيوانات، وامتياز الإنسان بروحه أي بالعقل وهو ما عبد به الرّحمن تري يصحّ لعارف بأساليب الكلام أن يقول مثلًا (بعت أموالي) ثمّ يستثني واحداً فواحداً حتي لا يبقي تحت العام إلّاالقليل؟ لا شكّ في أنّ هذا الكلام يعدّ مستهجناً لا يصدر عن حكيم عارف، إذن، لا يبقي مناص من حمل الآيتين علي الإستحباب «1».

__________________________________________________

(1) أصول الفقه 1/ 77.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 134

واكتسب به الجنان، فلو تشاغل بهذه النشأة فيكون كالأنعام بل أضلّ، وقهراً تستولي عليه الظلمة ويبعد عن حضرة الرّب جلّ وعلا، وبالذكر يتشاغل بعالم اللاهوت، فيتنور ويقترب من مبدئه ويكون أعلي من

الملائكة، حتّي ورد في الحديث القدسي «أنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَني» «1».

فائدة: إستدلّ بعض محرّمي صلاة الجمعة في زمان الغيبة بقوله تعالي: «فَاسْعَوْا إِلي ذِكْرِ اللَّهِ» ببيان أنّ المراد بذكره رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، لوجوه:

الأوّل: إنّه لو كان المراد من الذكر هو الصلاة لقال: «فاسعوا» فإنّه أصرح وأوجز وآكد.

الثاني: قوله تعالي «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاتَعْلَمُونَ* بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ» «2»

وبالضرورة لا يعلم البيّنات والزّبر إلّاأهل البيت عليهم السّلام، والذّكر هو النّبي صلّي اللَّه عليه وآله، وأهله أهل الذكر لا غير، فيجب الرّجوع والسئوال عنهم في هذا الحكم وسائر الأحكام دون غيرهم.

__________________________________________________

(1) الكافي 2/ 496، باب ما يجب من ذكر اللَّه، الرقم 4، والتوحيد: 182، الرّقم 17، ووسائل الشيعة 1/ 311 باب عدم ذكر اللَّه وتحميده، الرقم 4.

(2) سورة النحل، الآية: 43 و 44.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 135

الثالث: قوله تعالي «قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا* رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ» «1».

الرابع: قوله تعالي: «رِجالٌ لاتُلْهيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ» «2».

وحيث ثبت أنّ ذكر اللَّه هو النّبي صلّي اللَّه عليه وآله، فيكون مفاد آية الجمعة هو وجوب السعي إلي النّبي والإمام لا إلي غيرهم إلّا بإذنهم وتعيينهم، فيكون في الحقيقة سعياً إليهم.

وفي الأدلّة- مع قطع النظر عن الأدلّة الدّالة علي وجوب صلاة الجمعة في زمان الغيبة- نظر.

أمّا في الأوّل، فقد ظهر ممّا سبق أن التصريح للإشارة إلي حضور الخطبتين وكأنّه مثل العلّة، فيكون للترغيب ولبيان العظمة.

وأمّا في الثاني فنقول: إنّ التعبير بالذكر عن النّبي صلّي اللَّه عليه وآله في مكان لا يوجب إرادته منه حيثما استعمل، فهو مجاز لا يصار إليه إلّابدليل، فاستعماله في القرآن وما في الروايات من تسمية

اللَّه النّبي صلّي اللَّه عليه وآله ذكراً، غير دالّ علي الوضع، حتّي يكون حقيقة، وعلي فرض التسليم بوضعه له، فهو مشترك، ولا يصار إلي __________________________________________________

(1) سورة الطّلاق، الآية: 10- 11.

(2) سورة النور، الآية: 37.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 136

أحد معانيه إلّابالقرينة، والسياق في الآية دالّ علي إرادة الصّلاة من الذكر.

ولا يخفي عليك إنّ ما ذكرناه، دليل علي عدم إرادة النّبي صلّي اللَّه عليه وآله من الذكر في هذه الآية.

وأمّا ما استدلّ به القائل فهو واضح البطلان، لأنّ قوله تعالي «بِالْبَيِّناتِ» ليس متعلّقاً بقوله «فَسْئَلُوا» حتّي يستدلّ بأنّه لا يعلم البيّنات والزّبر إلّاأهل البيت عليهم السّلام، بل هو متعلق بقوله «أَرْسَلْنا»، كما فسّره المفسرون، فإنّ السئوال لا يتعدي بالباء بل يتعدي إلي المفعولين بنفسه إذا لم يكن بمعني الإستخبار ومعه يتعدي إلي المفعول الثاني ب «عن»، بخلاف الإرسال، فإنّه يتعدي بالباء كما نص عليهما اللغويون.

وأمّا في الثالث، فمثل ما ذكر في الثاني، من أنّ إطلاق الذكر عليه صلّي اللَّه عليه واله حقيقةً أو مجازاً في بعض الموارد، لا يوجب إرادته صلّي اللَّه عليه وآله متي أطلق، بل يحتاج إلي قرينة صارفة أو معيّنة، ولم يكن في الآية قرينة علي إرادته صلّي اللَّه عليه وآله من الذكر فلا يحمل عليه، بل سياق الآية يقتضي لعدم إرادته من الذكر، كما تقدّم.

واعلم أنّ الآية ليست كما ذكرها المستدل، بل ما في سورة

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 137

الطلاق هكذا «قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا* رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ» «1».

وأمّا في الرابع: فلا نعلم وجه الإستدلال به أصلًا، وإن أراد كون المراد به الرّسول صلّي اللَّه عليه وآله، لإطلاقه عليه في غير هذه الآية، فمضافاً إلي أنّه لا يكون دليلًا

علي المدّعي، فعدُّه من الأدلّة غير صحيح، ويرد عليه ما ذكر في الثاني والثالث، ولم أرَ من فسّر ذكر اللَّه بالنّبي صلّي اللَّه عليه وآله في هذه الآية، فأين وجه الدلالة؟

وأمّا البحث العاشر، أي سبب التصريح بقوله «وَذَرُوا الْبَيْعَ» مع استفادته من قوله «فَاسْعَوْا» للمنافاة بينهما، فهو تأكيد الكلام، والحثّ علي التعجيل، فإنّه تعالي لم يكتف بالدلالة الإلتزامية التي تكون بين السّعي إلي ذكر اللَّه وترك البيع، فإنّ التصريح بالمطابقة آكد، وفي الصافي عن الفقيه روي أنّه كان بالمدينة إذا أذّن المؤذّن يوم الجمعة نادي منادٍ حرم البيع حرم البيع «2».

واعلم: أنّ الآية دالّة علي حرمة البيع وإن لم يناف السعي، ولفظ «وَذَرُوا» أشدّ تأكيداً من «أتركوا»، ولهذا إختاره سبحانه وتعالي.

وأمّا البحث الحادي عشر، أعني وجه إختصاص البيع بالذكر

__________________________________________________

(1) سورة الطّلاق، الآية: 10- 11.

(2) تفسير الصّافي 7/ 191 عن الفقيه 1/ 299، باب علّة تشريع الأذان، الرّقم 913.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 138

دون غيره، فهو كونه من أهمّ ما يشتغل به المرء في النهار، وأنّه المصداق الجليّ بين الأفعال، والفرد الأكثر ابتلاء، وإلّا فليس المراد خصوص البيع بل كلّ معاملة. وقد يستظهر من الآية عدم حرمة غير البيع، كالهبة والصلح والإجارة ونحوها إذا لم يناف السعي، كأن يهب مثلا في الطريق، بخلاف البيع فإنّه يحرم ولو لم يناف السعي، كما ذكر [1].

[1] قال الشيخ أحمد الجزائري: «دلّ قوله «وَذَرُوا الْبَيْعَ» بصريحه علي تحريم البيع بعد النداء، كما دلّ عليه الأمر بالسعي بالإلتزام، قال في التذكرة: وعليه إجماع العلماء كافّة «1». وقال ابن بابويه في كتابه: كان بالمدينة إذا أذّن المؤذّن يوم الجمعة نادي مناد حرم البيع لقوله تعالي «إِذا نُودِيَ» الآية «2».

فروع:

الأوّل: البيع الواقع في أثناء

السعي هل يحرم أم لا؟ ظاهر إطلاق الآية وكلام الأصحاب التحريم، ويحتمل العدم، بل هو غير بعيد لعدم منافاته للسعي إليها وللأصل.

الثاني: هل يحرم غير البيع من العقود والمعاملات؟ قال __________________________________________________

(1) التذكرة 4/ 33، المسألة 392.

(2) تقدّم عن الفقيه فراجع.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 139

الأكثر: بالعدم «1».

وفي المعتبر: «إنّ ذلك هو الأشبه بالمذهب» «2» لأنّ تعديته إلي غيره قياس ممنوع، من مخالفته للأصل، ولعموم ما دلّ علي الإباحة، وقيل بالتعدية نظراً إلي العلّة المومي إليها بقوله «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ» فيكون من قبيل منصوص العلّة، وإمكان حمل البيع في الآية علي المعاوضة المطلقة التي هي معناه الأصلي، ولأنّ الأمر بالسعي يستلزم النهي عن كلّ ما ينافيه، ويكون تخصيص البيع بالذكر جرياً علي الغالب لا لكونه هو المقصود بالتحريم لا غير، وفيه نظر، لأنّه علي تقدير تسليم حجيّة منصوص العلّة نقول: إنّ العلّة هنا غير ظاهرة، وحمل البيع علي المعاوضة المطلقة خلاف المعني الشرعي والعرفي، والأمر لا يستلزم النهي عن الإضداد الخاصة، كما حقّق في الاصول، ولو سلّم فإنّما يقتضي تحريم المنافي خاصةً لا مطلق المعاوضات.

الثالث: لو باع أثمّ، وكان البيع صحيحاً، لأنّ العقد صدر عن أهله __________________________________________________

(1) كما في التذكرة 4/ 110، والمنتهي 1/ 331، والحدائق الناضرة 10/ 175.

(2) المعتبر 2/ 297 قال: الأشبه بالمذهب، خلافاً لطائفة من الجمهور. لنا اختصاص النهي بالبيع فلا يتعدّي إلي غيره.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 140

وأمّا البحث الثاني عشر، أي وجه الخيرية فهو: إنّ السعي معجّلًا إلي صلاة الجمعة موجب لاستماع الخطبة ممّا هو مستجمع للجهات النوعية والشخصية، الدنيوية والأخروية، ويتقوّم به النظام المدنيّ والسياسي، لأنّهم يتعلّمون المسالك إلي اللَّه تعالي وكيفيّة المعاشرة مع الأهل والأولاد وسائر الناس، ويفيدهم للمعاد والمعاش والأخلاق

والمعارف، وكذا بسبب اجتماعهم لصلاة الجمعة يعلم كلّ حال أخيه من سائر المسلمين ويتعظمون في أعين الناس من مخالفهيم، لأنّهم يرون اتّحادهم الموجب لتقويتهم [1].

فيجب الوفاء به، ولعموم ما دلّ علي صحة البيع ولزومه، والآية إنّما دلّت علي التحريم لا نفي الصّحة، لأنّ النّهي في المعاملات لا يستلزم الفساد، وقال بعض أصحابنا وبعض أهل الخلاف بعدم الصحة، بناءً علي القول بأنّ النّهي في المعاملة كان موجباً للفساد.

الرابع: لو كان أحد المتعاقدين ممّن لا تجب عليه الجمعة، قيل اختص الآخر بالتحريم، ولا يبعد شمول التحريم له للمعاونة علي الإثم» «1».

[1] قال الشيخ أحمد الجزائري: «قوله: «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ» أي ذكر

__________________________________________________

(1) قلائد الدرر 1/ 220.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 141

واعلم: أنّه لا يستفاد من قوله «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ» الإستحباب، كما زعمه بعض المحرّمين في عصر الغيبة حيث قال: الوجه الخامس:

قوله تعالي «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» كأنّه صريح في الإستحباب، فإنّه لا يناسب في مقام الأمر بأهمّ الواجبات التعبير بأنّ فعله خيرٌ من تركه.

فإنّ الخير المستعمل في كلام اللَّه تعالي ليس دالّاً علي الإستحباب، بل المراد به كونه خيراً من ناحيته سبحانه، ألا تري قوله تعالي في آخر السّورة «قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ» وقوله «وَلِباسُ التَّقْوي ذلِكَ خَيْرٌ» «1»

وغيرهما من ساير الآيات.

هذا، مضافاً إلي أنّه يلزم هذا القائل، القول باستحباب صلاة الجمعة في زمن النّبي صلّي اللَّه عليه وآله، وهو خلاف الإجماع،

اللَّه أو السعي وترك البيع، لأنّ الآخرة خيرٌ وأبقي «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» أي من أهل العلم والعرفان، أو بما يترتب علي ذلك وما عنداللَّه من الخير» «2».

__________________________________________________

(1) سورة الأعراف، الآية: 26.

(2) قلائد الدرر 1/ 222.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 142

فإنّها نزلت

في زمن وجوبها العيني في عصر النّبي صلّي اللَّه عليه وآله، فمن أين يتوهم الإستحباب؟

هذا، ولا يخفي أنّ الوجه الذي ذكره القائل- علي فرض صحّته- دليل الإستحباب، لا التحريم الذي ادّعاه المستدل واستدلّ به علي الحرمة.

وأمّا البحث الثالث عشر، أعني سبب الإتيان بلفظ الشرط «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» مع أنّهم سواء علموا أم لم يعلموا، كان ذلك خيراً، فقيل: ليس بشرط وإن كان ظاهره ذلك، بل معناه (اعلموا). لكنّ الأصح أنّ الجواب ليس «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ» بل شي ء محذوف، تقديره (لفعلتم) أو (لصدقتم) أو نحوهما ممّا يجري مجراهما، وهذا كما تقول لابنك: إذهب إلي المحلّ الفلاني، فإنّه خير لك إن كنت تعلم، تريد: إن كنت تعلم وجه الخيرية لذهبت أو لصدّقت، وهذا إشارة إلي جهلهم، كما أنّ الشرط كذلك في المثال.

الرابع عشر: وجه قوله تعالي «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» دون (تفقهون) أو نحو ذلك [1]. هو إنه إذا كانت الجملة (إن كنتم تفقهون) أي إن [1] قال صدر المتألّهين «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» أي ما أمرتم به من حضور الجمعة واستماع الذكر وأداء الفريضة وترك البيع سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 143

كنتم تفهمون، كانت كتعريض لهم، وهذا لا يناسب المقام، لأنّه صلي اللَّه عليه وآله بصدد دعوتهم.

«فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي اْلأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِمًا قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقينَ».

إعلم أنّه يقع البحث في هاتين الآيتين من وجوه:

الأوّل: وجه التعبير ب «قضيت» دون تمت وغيرها.

الثاني: وجه قوله «فَانْتَشِرُوا» وما يتعلّق به.

الثالث: وجه قوله في الأرض وما أريد التصريح به.

الرابع: ما يستفاد من قوله «وَابْتَغُوا مِنْ

فَضْلِ اللَّهِ».

أنفع لكم عاقبة إن كنتم عالمين بمنافع الأمور ومضارّها، ومصالح أنفسكم وأرواحكم ومفاسدها.

وفيه دليل علي أنّ ملاك الأمر في العبادات علي العلم الصحيح والنيات الخاصة، وقيل: معناه «إعلموا» «1».

__________________________________________________

(1) تفسير صدر الدين الشيرازي: 7/ 255.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 144

الخامس: وجه الإتيان بلفظة «فَضْلِ» دون وابتغوا من اللَّه.

السادس: سبب الأمر بالذكر.

السابع: وجه قوله «كَثيرًا».

الثامن: معني «لعلّ» وما يستفاد منه.

التاسع: بيان ما يمكن أن يستفاد من الآية ممّا يتعلّق بصلاة الجمعة.

العاشر: وجه الرّبط بين الآية الثانية والأولي.

الحادي عشر: وجه نزول الآية الثانية.

الثاني عشر: سبب قوله «رَأَوْا».

الثالث عشر: وجه الإتيان بكلمة «لَهْوًا».

الرابع عشر: معني «انْفَضُّوا» ووجه التعبير به.

الخامس عشر: وجه قوله «إِلَيْها» دون إليهما.

السادس عشر: سبب تقدّم «اللَّهْوِ» علي التّجارة في الثاني وتأخّره في الأوّل.

السابع عشر: وجه تكرار «من».

الثامن عشر: وجه قوله «وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقينَ».

أمّا الوجه الأوّل: فالتعبير ب «قضيت» [1] لفائدتين:

[1] قال الفاضل المقداد السيوري: «المراد هنا بقضاء الصّلاة

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 145

الأولي: إنّ وقت صلاة الجمعة محدود إلي وقت تمامها لا يمكن تأخيرها عن وقتها المعين الذي هو بعد الخطبتين المعقبتين للنداء إلي مقدار زمان يمكن أداؤها فيه، كما هو مذهب جماعة من الفقهاء «1»، وإنّما يستفاد منها هذه لأنّ هذا المعني أحد معاني القضاء لغةً، كما في مجمع البحرين حيث صرَّح به في تعداد معاني القضاء «2».

أداؤها، فإنّ القضاء يقال علي معان ثلاثة:

الأوّل: بمعني الفعل والإتيان بالشي ء، وهو المراد هنا.

الثاني: فعل العبادة ذات الوقت المحدود المعيّن بالشخص خارجاً عنه.

الثالث: فعل العبادة إستدراكاً لما وقع مخالفاً لبعض الأوضاع المعتبرة فيها، وقد يسمّي هذا إعادة، والمراد بالإنتشار في الأرض التفرّق في جهاتها، والإبتغاء الطلب.

وهنا فوائد:

(1) اللام في الصلاة للعهد، أي الصلاة التي تقدّم ذكرها، وهي

التي __________________________________________________

(1) كما في مجمع الفائدة والبرهان 2/ 369، ومستند الشيعة 6/ 120.

(2) مجمع البحرين 1/ 343.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 146

وجب السّعي إليها.

(2) إختلف الأصوليون في الأمر الوارد عقيب النهي، هل هو للوجوب أو للإباحة الرافعة للحظر؟ واحتج أصحاب القول الثاني بهذه الآية وهي «فَانْتَشِرُوا فِي اْلأَرْضِ»، فإنّه أطلق لهم ما حرمه من المعاملة، والإنتشار ليس بواجب إتّفاقا، وكذا قوله «فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ» «1».

(3) في الأمر بالإنتشار، إشارة إلي كون الساعي الذي وجبت عليه الجمعة ممّن له القدرة علي التصرف في المعاش والإضطراب في طلب الرزق، وكذا إذا فسّرنا السعي بالإسراع في المشي، ولما لم يكن الهم، أي الشيخ الكبير والأعرج والمريض والأعمي كذلك، دلّ علي عدم الوجوب عليهم وكونهم غير مخاطبين بها.

(4) الإبتغاء من فضل اللَّه هو طلب الرزق، وعن الصّادق والباقر عليهما السّلام «الصّلاة يوم الجمعة، والإنتشار يوم السّبت» «2».

__________________________________________________

(1) سورة البقرة، الآية: 222.

(2) الخصال: 393، ومن لا يحضره الفقيه 1/ 424 باب كراهة السفر بعد طلوع الفجر يوم الجمعة، الرّقم 1253.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 147

الثانية: لزوم الإهتمام بها واستحكامها، يقال: قضي الشي ء، أي صنع بإحكام، كما في المنجد «1».

أمّا الوجه الثاني: أي وجه التعبير بقوله «فَانْتَشِرُوا» دون «سيروا»، فهو إفادة لزوم التفرق وذهاب كلٍّ إلي عمله حتّي يتقوّم النظام، بخلاف ما لو قال «فسيروا»، فإنّه مع قطع النظر من ظهوره في السفر، يلائم الإجتماع وبه يختل النظام [1]، وبخلاف ما لو قال وقيل: المراد طلب العلم، عن سعيد بن جبير والحسن، وروي أنس عن النّبي صلّي اللَّه عليه وآله: «ليس هو بطلب دنيا ولكن عيادة مريض، وحضور جنازة وزيارة أخ في اللَّه» «2». «3»

[1] قال الشيخ أحمد

الجزائري: «الأمر هنا بالإنتشار للإباحة إجماعاً، كما في قوله «وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا» «4»

وقوله «فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ» «5»

وبذلك استدلّ من قال بأنّ الأمر الوارد عقب النهي للإباحة الرافعة للحظر، ومن قال بأنّه للوجوب، استدلّ بكونه الأصل في كلّ أمر

__________________________________________________

(1) المنجد، كلمة «قضي».

(2) مجمع البيان 10/ 14، وقد نقل عنه عوالي اللئالي 2/ 56.

(3) كنز العرفان 1/ 170.

(4) سورة المائدة، الآية: 2.

(5) سورة البقرة، الآية: 222.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 148

«فتفرقوا»، فإنّ ظاهره مفارقة كلّ عن صاحبه فقط، والإنتشار المفارقة مع ذهاب كلّ إلي عمله، مع ما فيه من الإشارة إلي الترخيص لمن أتي من الخارج للصّلاة بالرجوع إلي محلّه، يقال: إنتشر الرجل أي ابتدأ سفره.

والظاهر من الآية الإنتشار بعد الصّلاة ببطء لمكان الفاء، وهو المروي عن أبي عبداللَّه عليه السّلام فإنّه قال: «الصّلاة يوم الجمعة والإنتشار يوم السبت» «1».

واعلم أنّه تعالي أتي بالأفعال مبنية للمعلوم، إلّاقوله «قُضِيَتِ» فأتي للمفعول إشارة إلي تعظيم الصّلاة، وعدم الإعتناء بشأن الفاعلين قبالها، كما يقال: قتل زيد، إذا اريد تعظيمه وعدم الإعتناء بشأن القائلين له.

إلّا ما خرج بدليل، كالإجماع بالنسبة إلي الآية المذكورة، وفي الآية دلالة علي أنّ من وجبت عليه الجمعة، هو من كان قابلًا لتوجّه الخطاب إليه وفيه قدرة علي الإنتشار. فيخرج المريض والأعمي والشيخ الهمّ والمجنون والصغير «2».

__________________________________________________

(1) الخصال: 393، ومن لا يحضره الفقيه 1/ 424 باب كراهة السفر بعد طلوع الفجر يوم الجمعة، الرّقم 1253.

(2) قلائد الدرر 1/ 224.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 149

وأمّا الوجه الثالث، أعني وجه التصريح بقوله «فِي اْلأَرْضِ» مع أنّه لازم الإنتشار فهو: تأكيد للكلام بالمطابقة بعد الإلتزام، وإنّ الغرض ليس تفرّق بعضهم عن بعض، كما في قوله تعالي «فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا» «1»

فإنّ الغرض

في هذا المقام تفرّق بعضهم عن بعض بالخروج من عند النّبي صلّي اللَّه عليه وآله، بل الغرض فيما نحن فيه إكتساب المعيشة. ولما كان الأمر للوجوب أفاد وجوب الإنتشار بظاهره، ويعلم كونه كفائياً من الخارج وليس للترخيص، كما ذكره بعض المفسّرين، فتدبّر [1].

[1] وفي ذلك إشارة إلي أنّ الطالب لا ينبغي أن يعتمد علي سعيه وكدّه، بل علي فضل اللَّه ورحمته وتوفيقه وتيسيره، طالباً ذلك من اللَّه، وروي عن أبي عبداللَّه عليه السّلام أنّه قال: «الصّلاة يوم الجمعة والإنتشار يوم السبت». وروي عمر بن يزيد عن أبي عبداللَّه عليه السّلام: «إنّي لأركب في الحاجة التي كفاها اللَّه، ما أركب فيها إلّاالتماس أن يراني اللَّه أضحي في طلب الحلال، أما تسمع قول اللَّه عز وجل «فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي اْلأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ»؟ «2»

__________________________________________________

(1) سوره الاحزاب الاية 53.

(2) آيات الاحكام اللاسترآبادي 260

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 150

وأمّا الوجه الرابع، أي ما يستفاد من قوله «وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ»: فهو عدم صحّة الإعتماد علي الإكتساب والأسباب الظاهرية، بل لا بدّ من التوجه إلي عالم الغيب، فإنّه تعالي المؤثر الوحيد في الكون.

وهيهنا نكتة لطيفة: وهي، إنّه لما كانت هذه النشأة دار الأسباب وأبي اللَّه أن يجري الأمور إلّابأسبابها فلابدّ من الإقدام في كلّ شي ء بماله من الأسباب، وحيث إنّ الاتكال علي تأثير هذا الأسباب شرك، فلا بدّ من التوحيد والاعتماد علي المؤثر الحقيقي، فعلي العاقل، الجمع بين الأمرين الظاهري والحقيقي، فيشتغل بالعلم أو الكسب من جهة، ويتّكل علي ربّه ويبتغي من فضله من جهة أخري، أو يحضر جنازة مؤمن أو يعود مريضاً أو يزور أخاً للَّه تعالي الموجب لترشح فضله تعالي، وهذا طريق الجمع بين الفريقين من

الأخبار الدّال بعضها علي أنّ الابتغاء من فضله ليس بطلب الدنيا، وبعضها علي أنّه طلب الرزق والكسب.

وأمّا الوجه الخامس، أعني وجه الإتيان بلفظة (فضل)، فهو:

إفادة عدم استحقاقهم شيئاً، بل طلبهم علي وجه الإستعطاء كالفقراء، لا كالمطالب، فإنّ الأنام وإن عبدوه حقّ عبادته لا يستحقون شيئاً، لأنّهم عبيد والعبد لا يستحق شيئاً، بل هو وماله لمولاه، كيف؟ وإنّهم لا يتمكنون من شكر نعمة واحدة فقط وإن كانوا يفعلون الواجبات سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 151

والمندوبات ويجتنبون عن المحرمات والمكروهات، فإنّ لكلّ شكر شكراً، كما قال الشاعر:

شكراً وأنّي لي بلوغ ما وجب من الشكر والشكر للشكر سبب وأمّا الوجه السادس أعني سبب الأمر بالذكر، فهو: إفادة عدم تخصيص الذكر بوقت الصلاة، بل هو لازم في كلّ حال، فإنّه لا ينافي الإكتساب، كما قال تعالي «رِجالٌ لاتُلْهيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ» «1»

وأيضاً ذكر اللَّه سبب ذكره لهم، كما قال «فَاذْكُرُوني أَذْكُرْكُمْ» «2»

ومن كان اللَّه ذاكراً له لم يخسر، كما هو ظاهر.

والظاهر: أنّ المراد اذكروا اللَّه، لساناً وقلباً، وبه يجمع بين تفسيره بالتفكر وباللسان، وفي المجمع عن النّبي صلّي اللَّه عليه وآله إنّه قال: من ذكر اللَّه في السّوق مخلصاً عن غفلة الناس، وشغلهم بما فيه، كتب له ألف حسنة، ويغفر اللَّه له يوم القيامة مغفرة لم تخطر علي قلب بشر «3» [1].

[1] قال الفاضل المقداد السيوري: «وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثيرًا» علي __________________________________________________

(1) سورة النور، الآية: 37.

(2) سورة البقرة، الآية: 152.

(3) مجمع البيان 10/ 14.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 152

وأمّا الوجه السابع، أعني وجه قوله «كثيراً» فهو: إفادة أنّ الذكر في بعض الأوقات غير مجد، لأنّه ربما استولي عليه الغفلة حين لم يذكر، كما نشاهد في غالب الكسبة

والتجار، فإنّهم في أوّل ما يريدون الجلوس في محلّهم أو فتح حانوتهم يذكرون اللَّه، ثمّ يغفلون عنه تعالي، ويستغرقون في أمر الدنيا، فتوسوس إليهم الشياطين.

إحسانه إليكم بالتوفيق، وقيل المراد بالذكر: الفكر، كما قال النّبي صلّي اللَّه عليه وآله «فكرة ساعة خير من عبادة سنة» «1» وقيل: أذكروا اللَّه في تجارتكم، وليس بعيداً من الصواب أن يكون المراد وابتغوا من فضل اللَّه: واذكروا أوامر اللَّه ونواهيه في طلب الرزق، فلا تأخذوا إلّاما حلّ لكم أخذه لا ما حرم لكم، أو يكون المراد: الذكر حال العقد، فإنّه يستحب التكبير عنده والشهادتان «2»، واللَّه أعلم.

وقال الشيخ أحمد الجزائري: «وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثيرًا» أي علي إحسانه إليكم بالتوفيق والألطاف، أو المعني اذكروه في تجارتكم وأسواقكم، أو اذكروا أوامره ونواهيه عند طلب الرزق. فلا تأخذوا إلّاما حلّ «3».

__________________________________________________

(1)

بحار الأنوار 68/ 326.

(2) كنز العرفان 1/ 171.

(3) قلائد الدرر 1/ 224.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 153

وأمّا الوجه الثامن، أعني معني «لعلّ»، فاعلم: أن لعلّ معناه لغة الإرتقاب، ويدخل فيه الطمع والإشفاق، فالطمع إرتقاب شي ء محبوب، نحو لعلّ زيداً يقوم، والإشفاق إرتقاب شي ء مكروه، نحو لعلّ زيداً يموت الساعة. ولا تدخل لعلّ علي متحقق الوقوع، فلا يقال: لعلّ الشمس تغرب، ولا علي متحقق العدم، فلا يقال: لعلّ الشباب يعود لنا.

وأمّا (لعلّ) الواقع في كلامه تعالي، فقد اختلف الكلام فيه، لأنّه تعالي إمّا عالم بوجود مدخوله بعد، أو عالم بعدمه، لاستحالة جهله بشي ء جلّ عن ذلك، وكلاهما ينافي «لعلّ» لما ذكر. وتفصّي كلّ بوجهٍ:

فذهب أبو علي وقطرب: إلي أنّ معناها التعليل، فمعني «افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»، لترحموا. لكن لا يصح هذا بالنسبة إلي قوله تعالي «وَما يُدْريكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَريبًا» «1»

إذ لا معني للتعليل فيه.

وقال

بعضهم: هي لتحقيق مضمون الجملة التي بعدها.

ولا يستقيم ذلك بالنسبة إليها في قوله تعالي في قصة فرعون «لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشي «2»

، إذ لم يتذكّر ولم يخش.

وأورد عليه: بأنّه آمن بعد ذلك، فكأن التّذكر حصل منه، إذ قال __________________________________________________

(1) سورة الشوري، الآية: 17.

(2) سورة طه، الآية: 44.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 154

«آمَنْتُ أَنَّهُ لاإِلهَ إِلَّا الَّذي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائيلَ» «1»

، وأجيب: بأنّ إيمانه وتوبته عن يأسٍ لا معني تحققها، ولو كان تذكراً حقيقياً لقبل منه.

وعندي فيه نظر إذ لم يظهر لي وجه عدم الحقيقيّة. وأمّا عدم قبول توبته فليس لعدم الحقيقة، بل لأنّ التوبة كانت وقت مشاهدة الموت وهي لا تنفع، كما قال اللَّه تعالي «فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكينَ* فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمانُهُمْ» «2».

والحقّ في الجواب أن يقال: إنّ الظاهر من قوله تعالي «لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشي «3»

التذكر والخشية بسببك، لا مطلق التذكر والخشية.

هذا، والحق فيها ما قاله سيبويه من تعلّق الرجاء والإشفاق بالمخاطبين، لأنّ الأصل عدم خروج الكلمة عن معناها الأوّلي، وبعبارة أخري: إنّ كلمة (لعلّ) لبيان أنّ مدخولها معرض للحصول والوقوع.

فيكون المعني في الآية إنّ ما ذكر من الأمور مقتضي الفلاح، لكن ليس علّةً تامّةً له بقول مطلق، بل لا بدّ من اجتماع سائر الشرائط المجتمعة في قوله «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ …» «4»

وقوله «إِنَّمَا

__________________________________________________

(1) سورة يونس، الآية: 90.

(2) سورة غافر، الآية: 84- 85.

(3) سورة طه، الآية: 44.

(4) سورة المؤمنون، الآية 1.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 155

الْمُؤْمِنُونَ» «1»

…، فيكون ما ذكر جزء السبب لا يفلح بدونه.

ويستفاد من قوله «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» إحتياجهم إلي الفلاح وأنّهم ليسوا بمفلحين قبل ذلك [1].

[1] «لعلّ» من الحروف المشبهة

بالفعل، تنصب الإسم وترفع الخبر، وفيها ثمانية وعشرون لغةً، وتختص بالممكن الذي لا وثوق بحصوله، ولها معانٍ 1- للتوقع وترجي المحبوب «وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «2»

2- للإشفاق من مكروهٍ أو مخوفٍ، كقول فرعون «لَعَلّي أَبْلُغُ اْلأَسْبابَ» «3»

3- للتعليل «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشي «4»

4- للإستفهام «وَما يُدْريكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّي» «5»

5- للطمع، «لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ» طمع قوم فرعون. 6- للظن: «فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحي إِلَيْكَ» «6»

أي يظن بك الناس ذلك. 7- بمعني (كي): «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» «7»

. 8- للشك واللام في أوّلها زائدة بمعني عل «وَإِنْ أَدْري لَعَلَّهُ __________________________________________________

(1) سورة الأنفال، الآية: 2.

(2) سورة الأنفال، الآية 45، وسورة الجمعة، الآية: 10.

(3) سورة غافر، الآية: 36.

(4) سورة طه، الآية: 44.

(5) سورة عبس، الآية: 3.

(6) سورة هود، الآية: 12.

(7) سورة البقرة، الآية: 21 و 63 و.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 156

وأمّا الوجه التاسع: أعني ما يمكن أن يستفاد من الآية ممّا يتعلق بصلاة الجمعة وهو أمور:

الأوّل: الخطبة إجمالًا، لقوله تعالي «فَاسْعَوْا إِلي ذِكْرِ اللَّهِ» وقد سبق مفصّلًا.

الثاني: إسماع الخطبة.

الثالث: قيام الخطيب.

الرابع: الجماعة.

الخامس: العدد وهو خمسة، أحدهم المؤذّن أعني المنادي،

فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلي حينٍ» «1» «وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ في رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها» «2»

؛ ولعلّ من اللَّه تحقيق: «لَعَلَّ السَّاعَةَ قَريبٌ» «3» «4»

وفي حديث حاطب قال صلّي اللَّه عليه وآله: وما يدريك يا عمر لعلّ اللَّه اطلع علي أهل بدر، فقال لهم: إعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» «5».

__________________________________________________

(1) سورة الانبياء الاية 111

(2) سورة يوسف الاية 62

(3) سوري الاية 17

(4) راجع مختار الصحاح المفردات المعني القاموس تاج العروس النهاية مصباح اللغه مجمع البحرين المنجد

(5) البحار 21/ 94- 95 و سنن أبي داود 2/ 45 كتاب

الجهاد باب في حكم الجاسوس إذكامسلمأ.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 157

والثاني الإمام، وثلاثة اخر لقوله «فاسعوا» فإنّ أقلّ الجمع ثلاثة.

السادس: الوقت، أعني كونه محدوداً بين الزوال إلي أن تتمّ الأفعال متعقّباً لما ذكر في «قضيت».

السابع: وحدة المكان.

الثامن: وضعها عن الصبي والمجنون، لعدم إمكان توجّه الخطاب إليهما لعدم التكليف.

التاسع: وضعها عن المريض والشيخ والأعرج والأعمي، لعدم إمكان السّعي بأنفسهم، بل يحتاجون إلي شخص آخر، فالأمر بالسّعي لا يشملهم.

العاشر: وضعها عمّن هو علي فرسخين أو أكثر، لمشقّة السفر منضمّاً إلي قوله تعالي «يُريدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُريدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» «1».

وأمّا وجوب السّعي علي من كان أقرب، فللسنّة.

الحادي عشر: وضعها عن العبد، لأنّه لا يملك البيع، والأمر للبائعين لأنّه كالآلة للبيع.

الثاني عشر: وضعها عن المرأة، لأنّها لا تتمكن من الإنتشار ولا تكليف بها بالصّلاة، والمأمورون بالإنتشار هم المأمورون بالسعي.

الثالث عشر: وضعها عن المسافر، لعدم الأمر بالإنتشار به.

ولا يخفي أنّ ما ذكر من وجوبها علي البائع أعمّ من البائع __________________________________________________

(1) سورة البقرة، الآية: 185.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 158

بالفعل أو بالقوة، أعني الذي يمكنه البيع حالًا وإن لم يكن متلبّسا به، فيجب السّعي علي من لا يشتغل أصلًا مع إجتماع سائر الشروط فيه.

وأمّا الوجه العاشر، أعني وجه الربط بين قوله تعالي «وَإِذا رَأَوْا» والآية السابقة فهو: إنّه لما أمر بالسعي إلي ذكر اللَّه أراد أن يبين عدم كفاية الذهاب إليه فقط، بل يجب البقاء إلي آخر الأعمال، ويحرم الخروج في أثناء صلاة الجمعة [1].

[1] عن قتادة: بينما رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم يخطب الناس يوم الجمعة، فجعلوا يتسلّلون ويقومون حتّي بقيت منهم عصابة، فقال: كم أنتم؟ فعدّوا أنفسهم فإذا إثنا عشر رجلًا وامرأة، ثمّ قام في

الجمعة الثانية فجعل يخطبهم، قال سفيان: ولا أعلم إلّاأنّ في حديثه ويعظهم ويذكرهم، فجعلوا يتسلّلون ويقومون حتّي بقيت عصابة فقال كم أنتم؟ فعدّوا أنفسهم، فإذا إثنا عشر رجلًا وامرأة، ثمّ قام في الجمعة الثالثة فجعلوا يتسلّلون ويقومون حتّي بقيت منهم عصابة، فقال كم أنتم؟ فعدّوا أنفسهم فإذا إثنا عشر رجلًا وامرأة فقال (والذي نفسي بيده لو اتبع آخركم أوّلكم لالتهب عليكم الوادي ناراً، وأنزل اللَّه عزّ وجل «وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِمًا» «1».

__________________________________________________

(1) تفسير الطبري 28/ 104.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 159

وأمّا الوجه الحادي عشر، أي وجه نزول هذه الآية، ففي الصافي عن القمي قال: «كان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله يصلّي بالناس يوم الجمعة، ودخلت ميرةٌ وبين يديها قومٌ يضربون بالدفوف والملاهي، فترك الناس الصّلاة ومروا ينظرون إليهم، فأنزل اللَّه الآية».

وفيه عن المجمع عن جابر بن عبداللَّه قال: «أقبلت عيرٌ ونحن نصلّي مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله الجمعة، فانفضّ الناس إليها، فما بقي غير إثني عشر رجلًا أنا فيهم، فنزلت الآية «وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْوًا» «1» «2»

وقيل: كان الرسول صلّي اللَّه عليه وآله خطيباً» [1].

[1] قال صدر المتألهين (تركوه قائماً ايثاراً لهذا الخسيس الدني علي الشريف العلّي، نظير ذلك ما وقع لهم في ترك النجوي مع الرّسول صلّي اللَّه عليه وآله حين أوجبت عليهم الآية صدقة يسيرة حبة أو شعيرة، ففوّتوا ذلك الأمر العظيم بإمساك هذا التراب الرميم، لما روي أنّهم أكثروا مناجاة الرّسول صلّي اللَّه عليه وآله بما يريدون، حتّي الموت وأبرموه، فنزلت «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ

__________________________________________________

(1) الصافي

5/ 176.

(2) مجمع البيان 10/ 11.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 160

رَحيمٌ* ءَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ …» «1».

وأمروا بأنّ من أراد أن يناجيه صلّي اللَّه عليه وآله قدّم قبل مناجاته صدقة.

وعن أمير المؤمنين عليه السّلام: «لمّا نزلت، دعاني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله فقال: ما تقول في دينار؟ قلت لا يطيقونه، قال: كم؟

قلت: حبة أو شعيرة، قال: إنّك لزهيد، فلمّا رأوا ذلك اشتد عليهم فارتدعوا وكفّوا عن النّجوي حتي نسخت عنه صلّي اللَّه عليه وآله» «2».

وعنه عليه السّلام: «إنّ في كتاب اللَّه لآية ما عمل بها أحدٌ قبلي، ولا يعمل بها أحدٌ بعدي، كان لي دينار فصرفته بعشر دراهم، فكنت إذا ناجيته تصدّقت بدرهم، فانظر في هذه الحكاية بنظر التأمل حتّي تعلم أنّ أهل المودة الأخروية في غاية القلّة والندورة بالنسبة إلي أهل المودّة الدنيوية، وإنّ عدد طالب الحقّ بالنسبة إلي طالب الهوي كعدد الشعرة البيضاء في جلد البقرة السوداء» «3» «4».

__________________________________________________

(1) سورة المجادلة، الآية: 12- 13.

(2) الدر المنثور 6/ 185.

(3) تفسير القمي: 670.

(4) تفسير صدر الدين الشيرازي 7/ 283- 284.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 161

وأمّا الوجه الثاني عشر، أي سبب قوله «رأوا»، فيمكن أن يكون بمعني أبصروا أي بأعينهم، لأنّه كان جدار المسجد كما نقل مقدار قامة يمكن النظر إلي خارج المسجد، أو كان المسجد في محلّ منخفض والتّجار في محلٍّ مرتفع يمكن النظر، لكن علي هذا يكون استعمال اللّهو والتّجارة في أسبابها مجازاً، لإستعمال المسبّب مكان السّبب. ويمكن أن يكون بمعني (علموا) فلا يحتاج إلي ما ذكر من فرض جدار المسجد مقدار قامة أو فرضه منخفضاً، فتدبّر.

وأمّا الوجه الثالث عشر أعني وجه الإتيان بكلمة (لهواً)،

فهو:

خروج بعضهم للتجارة وبعضهم للهو، كما عن بعض، أو إفادة خسّة طبعهم، فكأنّه إضراب، ويكون قوله «أو لهواً» إظهار رذالة نفسهم بأنّهم في هذه المرتبة من الخسة، وهو تركهم الصّلاة للهو [1].

وأمّا الوجه الرابع عشر، وهو معني «انفضوا» [2]، فالظاهر أنّه [1] قال الفاضل المقداد السيوري: (اللهو) هو الطبل، وفي الأصل اللهو كلّ ما ألهي عن ذكر اللَّه «1».

[2] عن أبي عبداللَّه عليه السّلام في معني «انْفَضُّوا إِلَيْها»

__________________________________________________

(1) كنز العرفان 1/ 172.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 162

بمعني «هجموا» كالجراد، لا الميل كما فسّره بعض. وهذا المعني لا يستفاد من نحو خرجوا أو تفرّقوا ونحوهما، ولذا أتي به للدلالة علي حالهم حين الخروج لشدّة حرصهم علي التّجارة واللّهو وعدم اعتنائهم بالصلاة والذّكر، وقد ورد عن النّبي صلّي اللَّه عليه وآله:

«لولا هؤلاء- أي الحاضرين، وهم اثنا عشر أو أحد عشر- لسومت عليهم الحجارة من السماء» «1»، وهو يدلّ علي غضب اللَّه عليهم.

وأمّا الوجه الخامس عشر، أي وجه إفراد الضمير في «إليها» [1]

إنصرفوا إليها «2». «وَتَرَكُوكَ قائِمًا» تخطب علي المنبر «3».

[1] وقيل: الضمير للتجارة من غير تقدير آخر، لأنّ المراد إذا رأوها تجارة وعلموها أو لهواً دالّاً عليها فظنوها إنفضّوا إليها وقدم التّجارة أوّلًا للتّرقي باللّهو، إذ لا فائدة لهم فيه بخلافها، فالذمّ علي الإنصراف أولي وأقوي، وآخرها ثانياً للترقي بها، فإنّ كون ما عند اللَّه من الثواب علي سماع الخطبة وحضور الموعظة والصّلاة والثبات مع النّبي صلّي اللَّه عليه وآله أو من خير الدنيا والآخرة خيراً من التجارة، أبلغ من كونه خيراً من اللّهو الذي لا فائدة فيه إلّاوهماً، ولعلّ التفضيل أيضاً بناءً

__________________________________________________

(1) تفسير مجمع البيان 10/ 11.

(2) تفسير البرهان 4/ 336.

(3) مجمع البيان 10/ 15.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3،

ص: 163

مع ذكر شيئين: التجارة واللّهو، فهو: خروجهم لأجل التجارة [1] وهذا يؤيّد ما ذكرناه في سبب الإتيان بكلمة (لهواً).

وقيل: في الكلام حذف، تقديره وإذا رأوا تجارة إنفضّوا إليها،

علي وهمهم ليناً ومماشاة وتخلّقاً معهم، «وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقينَ» فيرزقكم إن لم تتركوا الخطبة والجمعة خيراً ممّا يرزقكم مع الترك، أو خيراً ممّا ترجون من التّجارة ونحوها، وقيل: أي يرزقكم وإن لم تتركوا الخطبة والجمعة، و (خير الرازقين) من قبيل (أحكم الحاكمين) و (أحسن الخالقين) أي إن أمكن وجود الرازقين فهو خيرهم، وقيل:

الإطلاق علي غيره بطريق المجاز، ولا ريب أنّ الرازق بطريق الحقيقة خير من الرازقين بطريق المجاز «1».

[1] قال صدر المتألّهين: إعلم أنّ دعوي كون ما عنداللَّه خيراً من اللّهو الذي هو لذّة القوّة الحسّية وشهوة النفس البهيميّة، ومن التجارة التي هي لذّة القوّة الخياليّة والنفس السبعيّة، إذ بها يحصل الجاه والحشمة، ممّا يشكل إثباته علي أكثر الناس، لغلبة التجسّم عليهم وكثافة الحجاب فيهم، فإنّ كون معرفة اللَّه وصفاته ومعرفة ملكوت سماواته وأسرار ملكه أعظم من لذّة الرياسة وساير المرغوبات ممّا يختص دركه __________________________________________________

(1) آيات الأحكام للإسترآبادي: 262.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 164

وإذا رأوا لهواً إنفضوا إليه. وقيل: الضمير علي سبيل البدل كقوله في قصّة عزير، «فَانْظُرْ إِلي طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ» «1»

. وليس بشي ء، لإمكان إرجاع الضمير في القصّة إلي كلّ واحدٍ منهما بخلافه في «انْفَضُّوا إِلَيْها» فلا يصلح الضمير لرجوعه إلي اللّهو.

وأمّا الوجه السادس عشر، أي سبب تقديم التّجارة في الأوّل وتأخيرها في الثاني، فهو الدّلالة علي خسّة طبعهم في الأوّل، كما تقول: زيد يكذب بدينار، بل بدرهم، فكأنّه إضراب كما تقدّم، وعلي حسن ما عنداللَّه في الثاني، كما تقول: هذا أحسن من الدّرهم ومن الدّينار، إذا

أردت بيان رذالته في الأوّل وحسنه في الثاني.

وأمّا الوجه السابع عشر، أعني وجه تكرار «من»، فهو: إفادة الإضراب الذي ذكر، بخلاف ما إذا لم يتكرّر، فلا يفهم منه بل كان يفهم إستواؤهما، كقولك: هذا أفضل من زيد وعمرو، وهذا أمر ذوقي مرجعه الوجدان، فلا يحتاج إلي بيان.

بمن نال رتبة المعرفة، وذاق مشرب الحكمة، ولا يمكن إثباته علي من لا قلب له، لأنّ القلب معدن هذه القوّة … «2».

__________________________________________________

(1)

سورة البقرة، الآية: 359.

(2) تفسير صدر الدين الشيرازي: 7/ 290.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 165

وأما الوجه الثامن عشر: أعني سبب قوله «وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقينَ»، فهو: تنبيههم إلي أنّ الرّزق بيد اللَّه يؤتي كلّ أحدٍ نصيبه، فلا يحتاج إلي التجشم والتعب، وأنّه لا يفوت أحداً رزقه بسبب الذكر [1] وله الحمد أوّلًا وآخراً.

[1] وقوله: «قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقينَ» أمرٌ للنّبيّ أن ينبّههم علي خطأهم فيما فعلوا- وما أفظعه- والمراد بما عنداللَّه، الثواب الذي يستعقبه سماع الخطبة والموعظة.

والمعني قل لهم: ما عنداللَّه من الثواب خيرٌ من اللّهو ومن التّجارة، لأنّ ثوابه تعالي خيرٌ حقيقي دائم غير منقطع، وما في اللّهو والتّجارة من الخير أمرٌ خيالي زائل باطل، وربما استتبع سخطه تعالي كما في اللّهو.

وقيل: خير مستعمل في الآية مجرّداً عن معني التفضيل، كما في قوله تعالي «ءَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» «1»

، وهو شائع في الإستعمال، وفي الآية أعني قوله: «وَإِذا رَأَوْا» إلتفات من الخطاب إلي الغيبة، والنكتة فيه تأكيد ما يفيده السياق من العتاب واستهجان الفعل بالإعراض عن تشريفهم بالخطاب، وتركهم في مقام الغيبة لا يواجههم __________________________________________________

(1) سورة يوسف، الآية: 39.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 166

ربّهم بوجهه الكريم.

ويلوّح

إلي هذا الإعراض قوله: «قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ» حيث لم يشر إلي من يقول له، ولم يقل: قل لهم كما ذكرهم بضميرهم أوّلًا من غير سبق مرجعه فقال: «وَإِذا رَأَوْا» واكتفي بدلالة السياق.

و «خَيْرُ الرَّازِقينَ» من أسمائه تعالي الحسني كالرازق «1».

خلاصة موضوعات السورة

1. وصفه تعالي نفسه بصفات الكمال.

2. صفات النّبي الأمّي الذي بعثه اللَّه رحمةً للعالمين.

3. النعي علي اليهود لتركهم العمل بأحكام التوراة.

4. طلب مباهلة اليهود.

5. الحث علي السّعي للصّلاة يوم الجمعة حين النداء والإمام علي المنبر.

6. الأمر بالسعي علي الأرزاق بعد انقضاء الصّلاة.

7. عتاب المؤمنين علي تركهم النّبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وهو يخطب قائماً، وتفرّقهم لرؤية التّجارة أو اللّهو «2».

__________________________________________________

(1) الميزان في تفسير القرآن 19/ 318.

(2) تفسير المراغي 28/ 104.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 169

تفسير سورة التغابن … ص: 169

«سورة التّغابن … ص: 169

[1]»

[1] سورة التغابن، مدنيّة نزلت بعد الجمعة في مصحف الإمام الصادق عليه السّلام وهي آخر المسبّحات «1».

ضوابط المدنيّ ومميّزاته الموضوعيّة

1- كلّ سورة فيها فريضة أوحد، فهي مدنيّة.

2- كلّ سورة فيها ذكر المنافقين، فهي مدنيّة سوي العنكبوت فإنّها مكيّة.

3- كلّ سورة فيها مجادلة أهل الكتاب، فهي مدنيّة.

هذا من ناحية الضوابط، أمّا من ناحية المميّزات الموضوعيّة وخصائص الأسلوب، فيمكن إجمالها فيما يأتي:

1- بيان العبادات، والمعاملات، والحدود، ونظام الأسرة، والمواريث، وفضيلة الجهاد، والصّلات الإجتماعية، والعلاقات الدوليّة

__________________________________________________

(1) تاريخ القرآن للزنجاني: 57، الإتقان 1/ 44، وتفسير ابن كثير 4/ 399.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 170

في السّلم والحرب، وقواعد الحكم، ومسائل التشريع.

2- مخاطبة أهل الكتاب من اليهود والنصاري ودعوتهم إلي الإسلام وبيان تحريفهم لكتب اللَّه، وتجنيهم علي الحقّ، وإختلافهم من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم.

3- الكشف عن سلوك المنافقين، وتحليل نفسيتهم، وإزاحة الستار عن خباياهم، وبيان خطرهم علي الدّين.

4- طول المقاطع

والآيات في أسلوب يقرر الشريعة ويوضع أهدافها ومراميها «1».

قال مجد الدّين الفيروزآبادي: معظم مقصود السورة بيان تسبيح المخلوقات، والحكمة في تخليق الخلق، والشكاية من القرون الماضية، وإنكار الكفّار البعث والقيامة، وبيان الثواب والعقاب، والإخبار عن عداوة الأهل والأولاد، والأمر بالتقوي حسب الإستطاعة، وتضعيف ثواب المتقين، والخبر عن إطّلاع الحقّ علي علم الغيب في قوله «عالِمُ الْغَيْبِ» الآية «2».

__________________________________________________

(1) مباحث في علوم القرآن: 59.

(2) راجع بصائر ذوي التمييز 1/ 467.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 171

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ [1]»

[1] قال العلّامة الشيخ محمّد جواد البلاغي: الظاهر أنّ البسملة في جميع السور متعلقة بكلمة (أبدأ) للمتكلّم من قول اللَّه جلّ اسمه تنويهاً بجلال اسمه الكريم وبركاته وتعظيماً له لجلال المسمّي وعظمته جلّ شأنه، وله الأسماء الحسني، كما أمر في القرآن بذكر اسمه وتسبيحه، كما في سورة المائدة والحج والمزمّل والدّهر والأعلي، فيتنظم المقدر في جميع السور وجميع الأحوال بنظام واحد علي نسق واحد، ولا يعتري ما استظهرناه غرابة ولا إشكال، وكيف يعتريه ذلك، وقد نسب اللَّه الإبتداء لذاته المقدّسية في خلقه، كما في قوله جلّ اسمه «وَبَدَأَ خَلْقَ اْلإِنْسانِ مِنْ طينٍ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ» «1»

وقد أقسم جلّ اسمه بمخلوقاته كالشمس والقمر والنفس وغيرها تعظيماً، لأنّها مظاهر قدرته وآيات حكمته «2».

__________________________________________________

(1) سورة السجدة الاية 7 و سورة الانبياء الاية 4

(2) آلاء الرحمن في تفسير القرآن 1/ 52.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 172

«يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي اْلأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلي كُلِّ شَيْ ءٍ قَديرٌ* هُوَ الَّذي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصيرٌ* خَلَقَ السَّماواتِ وَاْلأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصيرُ* يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما

تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ».

ينبغي التحقيق في هذه الآيات حول ستّة أمور:

الأوّل: إنّ المستفاد منها أنّها في مقام دعوة الخلق إلي الإيمان والتوحيد، وتوبيخهم علي الكفر، ووعظهم حتّي يؤمنوا، ثمّ إنّ التسبيح المسند إلي الموجودات برمتها في السّموات والأرض، هو التسبيح التكويني، فإنّ كلّ موجود بهويّة ذاته وبلسان تكوّنه، يقدّس اللَّه جلّ وعلا، وينزّهه عن الشريك، وعن الشبه، وعن الجهل، وعن العجز، وعن سائر الجهات الإمكانية [1] لما برهن في محلّه- وقد ذكرنا نبذة منه في سورة الجمعة- إنّه لو كان الإله اثنين لما وجد موجود قطّ، ولو كان جاهلًا أو عاجزاً لما صدر منه صادر، كما هو واضح، إلي غير ذلك ممّا يصدقه الوجدان، ويشهد عليه البرهان.

والحمد للَّه الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا اللَّه.

[1] قال عزّ اسمه تارةً: سبّح للَّه، وتارة: يسبّح للَّه، هي إشارة إلي سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 173

ثمّ إنّ اللّام في «للَّه» للإختصاص ويفهم منه الخلوص، بمعني أنّ التسبيح كائن للَّه وخالص له، بلا عجب ولا رياء ولا سمعة، إذ التسبيح التكويني لا يعقل فيه غير الخلوص.

الثاني: إنّ قوله تعالي «لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ» فيه ثلاث احتمالات:

الأوّل: إنّه بيان تسبيح ما في السّموات وما في الأرض [1] بمعني أنّهم يسبّحون بتلك الآية، وهو «لَهُ الْمُلْكُ …». فما ذكر هو بعينه كلامهم بلسان تكوينهم.

دوام تنزيهه بتسبيح المكلّفين بالقول، وتسبيح الجمادات بالدّلالة، وإنّ وجود ما في السّموات والأرض دالّ علي تنزيه اللَّه وكماله، وإنّ هذه المخلوقات مسخّرة ومنقادة له «1».

[1] قال الفخر الرازي: قال اللَّه تعالي في موضع «سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي اْلأَرْضِ» وفي موضع آخر «سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَاْلأَرْضِ» فما الحكمة فيه؟

قلنا: الحكمة لا بدّ منها، ولا نعلمها كما هي، لكن نقول ما يخطر بالبال، وهو: إنّ مجموع السّموات والأرض شي ء واحد، وهو عالم مؤلّف من الأجسام الفلكيّة

__________________________________________________

(1) راجع جوامع الجامع: 493، ومجمع البيان 5/ 297 كلاهما للطبرسي، وتفسير المراغي 28/ 118.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 174

والعنصريّة، ثمّ الأرض من هذا المجموع شي ء والباقي منه شي ء آخر، فقوله تعالي «يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي اْلأَرْضِ» بالنسبة إلي هذا الجزء من المجموع وبالنسبة إلي ذلك الجزء منه كذلك، وإذا كان كذلك فلا يبعد أن يقال قال تعالي في بعض السور كذا، وفي البعض هذا، ليعلم أنّ هذا العالم الجسماني من وجه شي ء واحد، ومن وجه شيئان، بل أشياء كثيرة والخلق في المجموع غير ما في هذا الجزء، وغير ما في ذلك أيضاً، ولا يلزم من وجود الشي ء في المجموع أن يوجد في كلّ جزء من أجزائه إلّابدليل منفصل، فقوله تعالي «سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي اْلأَرْضِ» علي سبيل المبالغة من جملة ذلك الدليل لما أنّه يدلّ علي تسبيح ما في السّموات وعلي تسبيح ما في الأرض، كذلك بخلاف قوله تعالي «سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَاْلأَرْضِ» «1».

وقال الشيخ الطّوسي قدّس سرّه: «إنّ المراد بها ما في خلق السّموات والأرض وما فيهما من الأدلة الدّالة علي توحيده وصفاته التي باين بها خلقه، وإنّه لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شي ء، وإنّه منزّه عن القبايح __________________________________________________

(1) التفسير الكبير 30/ 20.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 175

الثاني: كون الآية وجهاً لاختصاص الملك والحمد له، وقدرته علي أنّ كلّ ما يشاءه يفعل [1].

الثالث من الإحتمالات في الآية: تزكية النفس منه سبحانه وتعالي لنفسه المقدّسة، وهو جلّ وعلا أحقّ بذلك،

بمعني أنّه يحمد ويثني علي نفسه بهذه الصّفات الكماليّة.

وصفات النقص، فعبّر عن ذلك بالتسبيح من حيث كان معني التسبيح التنزيه للَّه عمّا لا يليق به» «1».

[1] قال الآلوسي: «تقديم (له الملك) لأنّه كدليل لما بعده» «2»، وقال الطّبرسي قده: (له الملك) منفرداً دون غيره والألف واللّام لإستغراق الجنس، والمعني أنّه المالك لجميع ذلك، والمتصرف فيه كيف يشاء (وله الحمد) علي جميع ذلك، لأنّ خلق ذلك أجمع الغرض فيه للخلق الإحسان إلي خلقه والنفع لهم به، فاستحقّ بذلك الحمد والشكر «وَهُوَ عَلي كُلِّ شَيْ ءٍ قَديرٌ» يوجد المعدوم ويفني الموجود، ويغيّر الأحوال كما يشاء «3».

__________________________________________________

(1) تفسير التبيان 1/ 680.

(2) روح المعاني 28/ 105.

(3) مجمع البيان 5/ 297.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 176

الثالث: ذكر بعض مقدوراته تعالي، فقال: «هُوَ الَّذي خَلَقَكُمْ» يفيد الحصر، ويستفاد من قوله تعالي «فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» التعريض والتوبيخ علي الناس بمعني أنّ الإله الذي يسبّح له ما في السّموات والأرض وقد خلقكم فكيف تكفرون أنتم؟ وكان حقّ ذلك ومقتضي وحدة الخالق أن يكون الناس جميعهم مؤمنين باللَّه، فلماذا صاروا فرقتين؟ مؤمن وكافر؟ [1] وتقديم الكفر علي الإيمان هو المناسب لمقام التوبيخ، والفاء في قوله تعالي: «فَمِنْكُمْ» يفيد

[1] قال الطّبرسي قده: ولا يجوز حمله علي أنّه سبحانه خلقهم مؤمنين وكافرين، لأنّه لم يقل كذلك، بل أضاف الكفر والإيمان إليهم وإلي فعلهم، ولدلالة العقول علي أنّ ذلك يقع علي حسب قصورهم وأفعالهم، ولذلك يصحّ الأمر والنهي، والثواب والعقاب وبعثة الأنبياء «1».

عن حسين بن نعيم عن صحاف قال: سألت الصّادق عليه السّلام عن قوله تعالي «فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» قال عليه الصّلاة والسّلام:

«عرف اللَّه عزّ وجل إيمانهم بولايتنا وكفرهم بتركها يوم أخذ عليهم الميثاق في صلب

آدم عليه السّلام» «2».

__________________________________________________

(1) مجمع البيان 10/ 28.

(2) تفسير البرهان 4/ 431.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 177

تأخر الايمان والكفر عن الخلق، لا أنّهما أمران ذاتيان كسائر اللوازم الذاتية التي يطرأ عليها الوجود والخلق [1].

[1] قال النسفي: أي فمنكم آت بالكفر وفاعل له، ومنكم آت بالإيمان وفاعل له. ويدلّ عليه «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصيرٌ» أي عالم وبصير بكفركم وإيمانكم اللذين هما من عملكم، والمعني: هو الّذي تفضّل عليكم بأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد من العدم، وكان يجب أن تكونوا بأجمعكم شاكرين، فما بالكم تفرقتم أمماً فمنكم كافر ومنكم مؤمن، وقدّم الكفر لأنّه الأغلب عليهم، والأكثر فيهم، وهو ردّ لقول من يقول بالمنزلة بين المنزلتين، وقيل: هو الّذي خلقكم فمنكم كافر بالخلق وهم الدهرية ومنكم مؤمن به «1».

وقال الفخر الرازي، قال أبو إسحاق: خلقكم في بطون أمّهاتكم كفّاراً ومؤمنين، وجاء في بعض التفاسير أن يحيي خلق في بطن أمّه مؤمناً، وفرعون خلق في بطن أمّه كافراً، دلّ عليه قوله تعالي «أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيي مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ» «2» «3».

__________________________________________________

(1) تفسير النسفي 4/ 260.

(2) سورة آل عمران، الآية: 39.

(3) التفسير الكبير 30/ 21.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 178

أقول: 1- قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: «كلّ مولود يولد علي الفطرة إلّاأبواه يهوّدانه وينصّرانه» «1». قال سيدي الوالد قدّس سرّه: أي يولد علي الفطرة اقتضاء.

2- عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «يعني علي المعرفة بأنّ اللَّه خالقه، وذلك قوله «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَاْلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» «2»» «3».

3- وعن الصّادق عليه السّلام: «إنّ اللَّه خلق المؤمن من طينة الجنة، وخلق الكافر من طينة النار الحديث».

قال الشيخ الحرّ العاملي قدّس سرّه:

والأحاديث في ذلك كثيرة جدّاً قد تجاوزت حدّ التواتر، ولا منافاة فيها للعدل، لأنّ خلق الإنسان من طينة طيّبة أو خبيثة من جملة أسباب الطّاعة والمعصية، ولا ينتهي إلي حدّ الإلجاء، فلا يلزم الجبر، وخلق الطينتين يوجب إمكان صدور

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار 3/ 281، باب الدين الحنيف والفطرة، الرّقم 22، وفيه: كلمة «حتّي» بدل «إلّا».

(2) سورة لقمان، الآية: 25.

(3) الفصول المهمّة 1/ 424.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 179

وقوله تعالي «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصيرٌ» حيث أتي بالإسم الظاهر، والصفة المشبهة دون أن يقول: وهو بما تعملون بصير، أو نحوه، يفيد أنّ مبدأ البصيرة ذاتي له، فإنّه لو قال (مبصر) لم يكن له صراحة سبق البصيرة لعدم منافاته بضمير الغيبة مع حصوله بعد الخلق، والصفة المشبهة تدلّ علي أنّ المبدأ ذاتي، بخلاف إسم الفاعل، فإنّه يدلّ علي تلبّس الذات بمبدأ المشتق وإن لم يكن ذاتيّاً ولا ملكة، مضافاً إلي أنّ الإتيان بلفظ الجلالة بمثابة البرهان علي كونه بصيراً، فإنّ معناه هو المستجمع لجميع الكمالات، فلا بدّ وأن يكون بصيراً بالذات، وإن كان يعدّ هو وأمثاله من صفات الفعل [1]، إذ معناه أنّ المبدأ ذاتي وإن وقع علي الفعل بعد وجوده، كما هو المذكور في الحديث. ولعلّ مناسبة ذكر هذه الجملة هو، أنّه لما كان الإيمان والكفر مصدرين لأعمال تناسبهما، فذكر أنّ الأعمال يطّلع عليها الخالق، يوجب النشاط للمؤمن والخوف للكافر. ويحتمل وجود مناسبة أخري. واللَّه العالم.

الأثرين، وإن كان سبب أحدهما أقوي فلا مفسدة … «1».

[1] قال الشيخ المفيد قدّس سرّه: صفات اللَّه تعالي علي ضربين:

__________________________________________________

(1) الفصول المهمّة 1/ 419- 420.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 180

أحدهما: منسوب إلي الذّات، فيقال صفات الذّات. وثانيهما:

منسوب إلي الأفعال فيقال: صفات الأفعال، والمعني

في قولنا صفات الذات: أنّ الذّات مستحقّة لمعناها إستحقاقاً لازماً لا لمعني سواها، ومعني صفات الأفعال: هو أنّها تجب بوجود الفعل ولا تجب قبل وجوده، فصفات الذّات للَّه تعالي هي الوصف له بأنّه حيّ، قادر، عالم، ألا تري أنّه لم يزل مستحقّاً لهذه الصّفات ولا يزال. ووصفنا له تعالي بصفات الأفعال كقولنا خالق، رازق، محي، مميت، مبدي ء، معيد، ألا تري أنّه قبل خلقه الخلق لا يصحّ وصفه بأنّه خالق، وقبل إحيائه الأموات لا يقال: إنّه محي، وكذلك القول فيما عدّدناه.

والفرق بين صفات الأفعال وصفات الذّات: إنّ صفات الذّات لا يصحّ لصاحبها الوصف بأضدادها ولا خلوّه منها، وأوصاف الأفعال يصحّ الوصف لمستحقّها بأضدادها وخروجه عنها، ألا تري أنّه لا يصحّ وصف اللَّه تعالي بأنّه يموت ولا بأنّه يعجز ولا بأنّه يجهل، ولا يصحّ الوصف له بالخروج عن كونه حيّاً، عالماً، قادراً، ويصحّ الوصف بأنّه غير خالق اليوم، ولا رازق لزيد، ولا محي لميّت بعينه، ولا مبدي ء لشي ء في هذه الحال، ولا معيد له، ويصحّ الوصف له- جلّ وعزّ- بأنّه يرزق ويمنع ويحيي ويميت ويبدي ء ويعيد ويوجد ويعدم، فثبتت العبرة في سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 181

الرابع: قوله تعالي عزّ شأنه «خَلَقَ السَّماواتِ وَاْلأَرْضَ بِالْحَقِّ» إنّه يستفاد من مجموع الآية المبدأ والمعاد، بمعني أنّ كلّ شي ء بين السّموات والأرض، من الإنسان وغيره، خلقهنّ اللَّه وإليه يعود كلّ ذلك، فجملة «خَلَقَ السَّماواتِ وَاْلأَرْضَ» قرينة للمبدأ، وقوله تعالي «وَإِلَيْهِ الْمَصيرُ» قرينة للمعاد، وإليه المرجع يوم القيامة.

الخامس: يناسب هذه الجملة أعني «خَلَقَ السَّماواتِ وَاْلأَرْضَ …

الآية» لما تقدّم، بأنّه امتنان عليهم بأحسن الصّور، فينبغي أن يشكروه، وأنّ المعاد والمصير إليه، فينبغي أن لا يكفروا، وذكر إبتداءً مادّة جميع المخلوقات وهو السّموات

والأرض وخلقها، ثمّ حينما أعطي لكلّ شي ء شكلًا وصورة يمتاز به عن غيره، ومنّ عليهم بأحسن الصّور [1] وهي النفس الناطقة الإنسانية، فإنّها هي صورة

أوصاف الذّات وأوصاف الأفعال، والفرق بينهما ما ذكرناه «1».

[1] قال الآلوسي: «برأكم وزينكم بصفوة صفات مصنوعاته، وخصّكم بخلاصة خصائص مبدعاته، وجعلكم أنموذج جميع مخلوقاته في هذه النشأة» «2».

__________________________________________________

(1) تصحيح الإعتقاد من مصنّفات الشيخ المفيد: 5/ 41.

(2) روح المعاني 28/ 106.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 182

الإنسان لغةً وإصطلاحاً.

وبهذا تعرف أن لا موقع للإستشكال- بأنّ بعض الإنسان قبيح المنظر، مشوه الخلقة، وفي غيره من الحيوان ما هو أجمل شكلًا، كما ذكر الإشكال، ووقعوا في حيص وبيص عن جوابه- إذ ليست الصورة هي الشكل العرضي، بل الذاتي المائز له عن غيره أعني النفس الناطقة التي هي أحسن الصور المائزة بين الأنواع، ولا يفرق في ذلك كونه أجمل شكلًا أو اسوأه.

ثمّ إنّ كلمة «بِالْحَقِّ» في قبال أن يكون باطلًا، علي حذو قوله سبحانه حكاية عن المتفكرين حيث يقولون «رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا» ثمّ ذكر سبحانه «وَإِلَيْهِ الْمَصيرُ» فإنّه بالخوف من التبعة في المعاد، يتصدي الإنسان إلي تحصيل الإيمان والخضوع للخالق، فإنّه من التفت إلي أنّ هناك معاداً ودار جزاء وحساب، يدعوه لزوم دفع الضرر بجبلة عقله إلي التحرز والإحتياط، فيتصدي إلي الفحص والنظر في الآيات والدلائل ويهتدي إلي الإيمان [1].

[1] قال العلّامة الطباطبائي: «بهذه الآية تتمّ المقدّمات المنتجة للزوم البعث ورجوع الخلق إليه تعالي، فإنّه تعالي لما كان ملكاً قادراً علي الإطلاق له أن يحكم بما شاء، ويتصرف كيف أراد، وهو منزّه عن كلّ نقص وشين، محمود في أفعاله وكان الناس مختلفين بالكفر

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 183

السادس: قوله تعالي «يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ»

يستفاد من هذه الآية أنّ المعلومات علي ثلاثة أقسام، معلوم أعياني، ومعلوم أفعالي، ومعلوم نفسيّ اخطاري.

أمّا المعلوم الأعياني، فهو الموجودات التي تكون بين السماء والأرض.

وأمّا المعلوم الأفعالي: فهو أفعال البشر من سرّ وعلن.

وأمّا المعلوم النفسي: فهو التخيلات والخواطر التي تكون في النفس والصدر.

فبناءً علي هذا أشار بقوله تعالي «يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَاْلأَرْضِ» إلي المعني الأوّل وهو الأعياني، أي كلّ شي ء يكون بين السّماء والأرض، فاللَّه تعالي عالم به [1]. «وَيَعْلَمُ ما

والإيمان، وهو بصير بأعمالهم، وكانت الخلقة لغاية من غير لغو وجزاف، كان من الواجب أن يبعثوا بعد نشأتهم الدنيا لنشأة أخري دائمة خالدة، فيعيشوا فيها عيشة باقية علي ما يقتضيه إختلافهم بالكفر والإيمان، وهو الجزاء الذي يسعد به مؤمنهم ويشقي به كافرهم «1».

[1] دفع شبهة لمنكري المعاد مبنية علي الاستبعاد، وهي: أنّه كيف يمكن إعادة الموجودات وهي فانية بائدة وحوادث العالم لا تحصي؟

__________________________________________________

(1) الميزان في تفسير القرآن 19/ 434.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 184

تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ» بمعني الأفعالي، أي عالم بكلّ ما تفعلون «وَاللَّهُ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» بمعني الإخطار النفسي، أي عالم بكلّ الخواطر والأفكار التي تكون في الصّدور.

وبالجملة، روابط هذه الآيات كما يستفاد منها أنّها في مقام دعوة الخلق إلي الإيمان ومعرفته تعالي والتوحيد، وتوبيخهم علي الكفر ووعظهم وإرشادهم وإنذارهم حتّي يؤمنوا، فذكر مقدّمة الثّناء للَّه تعالي بتسبيح ما في السّموات …، والتسبيح تكويني ليس إلّاله، وذكر «لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ» علي ما ذكرنا من الأوجه الثلاثة.

ثم شرع في التوحيد بقوله: «هُوَ الَّذي خَلَقَكُمْ» بنحو الحصر

والأعمال والصفات لا تعدّ، منها ظاهرة علنية، ومنها باطنة سريّة، ومنها مشهودة، ومنها مغيبة، فأجيب: بأنّ اللَّه يعلم ما في السّماوات والأرض ويعلم ما تسرّون وما تعلنون «1».

وقال الزمخشري: تكرير العلم

في معني تكرير الوعيد، وكلّ ما ذكره بعد قوله تعالي «فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» كما تري في معني الوعيد علي الكفر، وإنكار أن يعصي الخالق ولا تشكر نعمته «2».

__________________________________________________

(1) الميزان في تفسير القرآن 19/ 343.

(2) تفسير الكشاف 6/ 114.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 185

ووبخهم بالتفرق بالايمان والكفر، مع أنّ وحدة الخالق تقتضي الإجتماع في الإيمان، وتقديم الكفر علي الإيمان هو المناسب لمقام التوبيخ.

ثمّ شرع في ما منّ به عليهم، وذكر أنّ المادة لجميع المخلوقات هو السّموات والأرض، وذكر أنّ المصير ليس بنحو إبتدائي، كأنّه لم يكن ما سبق منه شيئاً مذكوراً، فلا يؤاخذ عليه، ولا يطالب به ولا يجازي عليه، بل اللَّه يعلم ما في السّموات والأرض ويعلم ما تسرّون من الأعمال الخفيّة وما تعلنون ممّا يعملونه علناً ويعلم ما في الصّدور. وهذه أقسام المعلومات الثلاث كما ذكرنا.

ولعلّ النكتة في الإلتفات من الجملة الفعليّة إلي الإسميّة في قوله تعالي «وَاللَّهُ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» حيث لم يقل ويعلم ما في الصّدر، علي حذو ما قبله من قوله تعالي «يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ»: أنّ الجملة الإسميّة آكد في الدّلالة علي ثبات العلم، مضافاً إلي أنّ هذه الجملة بمثابة التعليل لما تقدّمه، فإن من هو عليم بذات الصّدور لابدّ وأن يعلم الموجودات الخارجية من الأعيان والأفعال، فيناسب أن يكون جملة إسميّة [1].

[1] قال الشيخ المفيد قدّس سرّه: «إنّ اللَّه تعالي عالم بكلّ ما يكون قبل كونه، وإنّه لا حادث إلّاوقد علمه قبل حدوثه، ولا معلوم وممكن أن سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 186

والنكتة في الإتيان بالإسم الظاهر أعني لفظ الجلالة- مع أنّ ما سبق قد أسند إلي الضمير أعني قوله تعالي «يَعْلَمُ ما فِي

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ» [1] وسياقه أن يقال هو عليم بذات الصّدور، بضمير الغيبة- لعلّها من باب إيراد القضية مع الإرشاد إلي برهان ثبوت المحمول لموضوعه، وكأنّه قيل: إنّه عليم بذات الصّدور، لأنّه مستجمع لجميع الصفات، فأبدل عن ذلك قوله تعالي «وَاللَّهُ عَليمٌ» حيث أنّ لفظ الجلالة يدلّ علي ذلك الإستجماع.

يكون معلوماً إلّاوهو عالم بحقيقته، وأنّه سبحانه لا يخفي عليه شي ء في الأرض ولا في السّماء، وبهذا قضت دلائل العقول والكتاب المسطور والأخبار المتواترة عن آل الرّسول صلّي اللَّه عليه وآله، وهو مذهب جميع الإماميّة» «1».

[1] «أي ما يسرّه بعضكم إلي بعض وما يخفيه في صدره عن غيره، والفرق بين الإسرار والإخفاء، إنّ الإخفاء أعمّ لأنّه قد يخفي شخصه ويخفي المعني في نفسه، والإسرار يكون في المعني دون الشخص «وَاللَّهُ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» أي بأسرار الصّدور وبواطنها» «2».

__________________________________________________

(1) أوائل المقالات من مصنّفات الشيخ المفيد: 4/ 54- 55.

(2) تفسير التبيان 2/ 681، ومجمع البيان 5/ 297.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 187

والنكتة في التعبير بالصّفة المشبّهة- حيث قال تعالي عليم، دون عالم- لعلّها من أجل أنّ الصّفة المشبّهة تدلّ علي كون المبدأ ثابتاً مستقرّاً، وهو الأنسب لمقام ذاتية العلم، ولا يفيد ذلك إسم الفاعل، فإنّه يدلّ علي التلبّس بالمبدأ وإن لم يكن ذاتياً ولا ملكة. وقد قدّمنا نظيره.

ثمّ بعد ذلك وعظهم بالإعتبار من نبأ الماضين في كفرهم حتّي يجتنبوا ويأتوا إلي طريق الهدي [1].

«أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَليمٌ* ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَي اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَميدٌ».

لابدّ من التحقيق في هاتين الآيتين عن أربعة أمور:

الأوّل: قوله تعالي «أَ لَمْ يَأْتِكُمْ».

وجه المناسبة لما قبلها أنّها في مقام الوعظ للعباد، فكما أنّ قوله عزّ شأنه «هُوَ الَّذي خَلَقَكُمْ» …

كان في مقام التوبيخ والتعريض، فكذلك هذه الآية، بمعني: أما آتاكم [1] قال الطنطاوي: فتح باب للإعتبار بالتاريخ، لا فرق بين قوم نوح وقوم من أمم الإسلام، كأهل الأندلس الذين أذاقتهم أوروبا كأس الذل، وأخرجتهم من ديارهم «1».

__________________________________________________

(1) تفسير الجواهر 24/ 181.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 188

خبر الذين من قبلكم [1] فكيف كفرتم باللَّه؟ ولقد كان الكفر شيئاً ذا مفسدة عظيمة، بدليل ذوق الوبال وهو كما في مجمع البحرين: عاقبة الأمر، والعذاب الأليم الذي يلحقهم في الآخرة.

[1] قال المراغي: بعد أن بسط سبحانه الأدلّة علي عظيم قدرته وواسع علمه، وأنّه خلق السّموات والأرض، وأنّه صوّرهم فأحسن صورهم، وأنّه يعلم السّرّ والنّجوي، وحذر المشركين من كفّار مكّة علي تماديهم في الكفر، والجحود بآياته وإنكار رسالة نبيّه محمّد صلّي اللَّه عليه وآله، وبيّن لهم عاقبة ما يحلّ بهم من العذاب في الدنيا والآخرة، وضرب لهم الأمثال بالأمم المكذّبة من قبلهم. فقد كذبوا رسلهم، وتمادوا في عنادهم، وقالوا: أيرسل اللَّه من البشر رسلًا فحلّت بهم نقمة ربّهم، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فأصبحت ديارهم خراباً يباباً، كأن لم يغنوا بالأمس، فهلا يكون ذلك عبرة لهم، فيثوبوا إلي رشدهم، ويرجعوا إلي ربّهم لو كانوا من أرباب النهي … كقوم نوح و هود وصالح وغيرهم من الأمم التي أصرت علي الكفر والعناد، كيف حلّ بهم عقاب ربّهم، وعظيم نقمته، وأرسل عليهم ألواناً من العذاب لا قبل لهم بها، فمن صاعقة من السماء تجتاحهم، إلي رجفة في الأرض تهلكم، إلي صيحة تصم الآذان تبيدهم وتجعلهم كأمس الدابر، وتمحوهم من صفحة

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 189

الثاني:

إذا سأل سائل عن قوله تعالي «فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ» بأنّ «ذاقُوا» فعل ماض وقوله تعالي «وَلَهُمْ عَذابٌ أَليمٌ» شي ء يأتي ولم يقع بعد، فلا يجوز عطف الشي ء الآتي علي الماضي، لأنّ ذوق الوبال شي ء قد مضي، فلا يحسن العطف هيهنا.

قلنا: ليست هذه الواو واو العاطفة، بل واو الإستيناف بمعني أنّه أخبرناهم بذوقهم وبال أمرهم، ثمّ استأنف وابتدأ بمعني: ليس جزاءهم الوبال فقط، بل ولهم أيضاً عذاب أليم، أي معذّبون في الوجود، إلي طوفان يعمّ الأرض ويبتلعهم، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، وسيكون لهم عظيم النكال والوبال يوم تجزي كلّ نفس بما كسبت إنّ اللَّه سريع الحساب «1».

قال عليّ عليه السّلام: «وإنّ لكم في القرون السالفة لعبرة، أين العمالقة وأبناء العمالقة؟ أين الفراعنة وأبناء الفراعنة؟ أين أصحاب مدائن الرّس الذين قتلوا النبيين، وأطفؤوا سنن المرسلين، وأحيوا سنن الجبّارين؟ أين الذين ساروا بالجيوش وهزموا بالألوف، وعسكروا العساكر، ومدنوا المدائن؟ «2»

__________________________________________________

(1) تفسير المراغي 28/ 121.

(2) نهج البلاغه، الخطبة 182.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 190

الآخرة، وقد استفدنا أيضاً من كلمة «فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ» أنّ لها من البلاغة والإستعارة ما لا يخفي، فكأنّ الوبال من المطعومات فأسند إليه ما يناسبه، أعني الذوق مثل قوله تعالي «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزيزُ الْكَريمُ» «1».

الثالث: قوله تعالي «ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتيهِمْ رُسُلُهُمْ …» بيان علّة الوبال والعذاب، بمعني أنّ هؤلاء كفروا بسبب قولهم «أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا» فقولهم: أبشر يهدوننا سبب كفرهم، فيريد هؤلاء أنّ الهادي لابدّ وأن يكون من غيرهم، أعني من غير جنس البشر، وضمير الجمع في (يهدون) راجع إلي البشر، فإنّه يطلق علي الواحد والجمع، والمراد به هو الرّسل، وأفادت الآية أيضاً أنّ المواخذة تكون بعد البيّنة التي يقيمها الرّسل، حيث قال

تعالي «كانَتْ تَأْتيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» [1] وأفاد أيضاً منشأ كفرهم أنّهم لم يتبعوا نور العقل [1] عن عليّ بن سويد السائي، قال: سألت العبد الصالح- موسي بن جعفر عليهما السّلام- عن قول اللَّه عز وجل «ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» قال: «البينات هم الأئمّة عليهم السّلام» «2».

__________________________________________________

(1) سورة الدخان، الآية: 49.

(2) تفسير البرهان 4/ 341.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 191

والعلم، الدّال بأنّ من يأتي بالبينات لابدّ وإن يكون حقّاً، وإلّا لم يكن يصدر خارق العادة من شخص عادي، وباطل في دعواه، واقتفوا أثر الجهل والسفاهة، وسبب نزول العذاب إستغناء اللَّه عزّ وجل [1].

الرابع: إنّ قوله تعالي «وَاسْتَغْنَي اللَّهُ» أنّ الإستغناء لغة: بمعني طلب الغني، وطلب الغني من الشخص الذي يحتاج إلي غيره، وهذا المعني من ذات الباري تعالي محال، لعدم احتياجه إلي الناس.

فنقول: الإستغناء بمعني ترتيب أثر تحصيل الغني، بمعني عدم الإعتناء وعدم النظر إليهم بدليل «وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَميدٌ» فأمثال هذا كثير في القرآن من نحو «وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا» «1»

بمعني ترتيب أثر المجي ء، لأنّ الباري تعالي ليس له جسم، إلي غير ذلك من الآيات.

[1] قال الشيخ الطوسي قدّس سرّه: إنّ اللَّه لم يدعهم إلي عبادته لحاجته إليهم، لأنّ اللَّه تعالي غنيّ عنهم وعن غيرهم، وإنّما دعاهم لما يعود عليهم بالنفع حسب ما يقتضيه حكمه في تدبيرهم واللَّه غنيّ عن جميع خلقه، حميد علي جميع أفعاله لإنّها كلّها إحسان «2».

__________________________________________________

(1) سورة الفجر الاية 22

(2) التبيان في تفسير القرآن 2/ 681.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 192

واستفدنا من الإتيان بلفظ الجلالة والصفة المشبهة: إنّ الوصفين ثابتان له تعالي في الأزل، فإنّ له الغني المطلق أزلًا وأبداً من دون شائبة فقر واحتياج، وله الصفات المحمودة الأزلية

والأبدية، كما أنّ ذلك كلّه يرشد إليه لفظ الجلالة، ومعناه هو الذّات المستجمع لجميع الصّفات الكماليّة والجماليّة [1] تبارك وتعالي شأنه، وقد تقدّم نظير ذلك [2].

«زَعَمَ الَّذينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلي وَرَبّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَي اللَّهِ يَسيرٌ* فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبيرٌ».

هيهنا تحقيقات: [3]

الأوّل: إنّ قوله «زَعَمَ» بمعني الإعتقاد، ولفظ زَعَمَ مشترك بين الإعتقاد الذي هو مطابق للواقع، والإعتقاد الذي لا يكون مطابقاً

[1] صفات الجلال هي الصفات السلبية، مثل: لم يكن جسماً ولا ظالماً، وصفات الجمال هي الصفات الثبوتية «1».

[2] في سورة الجمعة، فراجع.

[3] قال ابن كثير: هذه هي الآية الثالثة التي أمر اللَّه رسول صلّي اللَّه عليه وآله أن يقسم بربّه عزّ وجلّ علي وقوع المعاد ووجوده، فالأولي __________________________________________________

(1) لغتنامه دهخدا الجزء 10، القسم الأوّل «جلال».

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 193

للواقع، وهنا عبّر به إشعاراً بأنّه ليس مطابقاً للواقع [1]. وقوله تعالي «الَّذينَ كَفَرُوا» ظاهره أنّه بيان كلّي، ويرتبط بما قبله لأنّه من صغرياته، ويستفاد منه إنّ عمدة منشأ التّولي والإعراض عن الرّسل، هو زعمهم عدم البعث واعتقادهم بعدم الجزاء بعد الممات، وإلّا فلو كانوا يحتملون ذلك لدعاهم دفع الضرر المحتمل إلي الخضوع للرسل والنظر، فيقول اللَّه عزّ وجلّ: «قُلْ بَلي وَرَبّي لَتُبْعَثُنَّ» جي ء بلام القسم ونون التأكيد، لتأكيد الكلام في هذا المقام في سورة يونس «وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إي وَرَبّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزينَ» «1»

، والثانية في سورة سبأ «وَقالَ الَّذينَ كَفَرُوا لاتَأْتينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلي وَرَبّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ» «2»

الآية، والثالثة هي هذه «زَعَمَ الَّذينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلي وَرَبّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَي اللَّهِ يَسيرٌ»

«3» «4».

[1] قال الرّاغب: الزعم حكاية قول يكون مظنة للكذب، ولهذا جاء في القرآن في كلّ موضع ذمّ القائلون به نحو: زعم الذين كفروا- بل __________________________________________________

(1) سورة يونس، الآية: 53.

(2) سورة سبأ، الآية: 3.

(3) سورة التغابن، الآية: 7.

(4) تفسير القرآن الكريم 4/ 374.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 194

ردّاً لهم، بمعني: لا بدّ وأن تبعثوا [1].

والثاني: قوله تعالي «ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ» إشارة إلي أنّه لا يكون لكم البعثة فقط، بل لتنبئونّ بما عملتم وتجزون به [2].

والثالث: قوله تعالي «وَذلِكَ عَلَي اللَّهِ يَسيرٌ» أي سهل، بمعني أنّ اللَّه خلق الأشياء التي لم تكن موجودة، فكيف لا يقدر علي إعادتها؟ أي إعادة الشي ء الذي كان موجوداً وبعد ذلك صار معدوماً، بمثل قوله «وَهُوَ الَّذي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» «1»

. فاللَّه الذي خلق الأشياء من العدم أيسر له أن يخلق المعدوم الذي كان،

زعمتم- كنتم تزعمون- زعمتم من دونه «2».

[1] إن سئلنا: كيف يفيد القسم في إخباره عن البعث، وهم قد أنكروا رسالته صلّي اللَّه عليه وآله، قلنا: وإن أنكروا رسالته، لكنّهم كانوا يعتقدون بأنّه صادق أمين، وإن الرائد لا يكذب أهله.

[2] قال العلّامة الطباطبائي: وثمّ في «ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ» للتراخي بحسب رتبة الكلام، وفي الجملة إشارة إلي غاية البعث وهو الحساب «3».

__________________________________________________

(1)

سورة الرّوم، الآية: 27.

(2) المفردات: 213.

(3) الميزان في تفسير القرآن 19/ 247.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 195

وهذه الكلمة برهان علي ردّ ما زعموه.

ومنها يستفاد أيضاً منشأ زعمهم ذلك، حيث إنّهم يزعمون عدم إمكان البعث، لأنّه قد صارت العظام رميماً، فكيف تحيي وتعود؟

فيجاب عنهم بأنّ اللَّه المستجمع لجميع الصفات. ومنها القدرة الكاملة التامة، يسير لديه ذلك، فكان البعث ممكناً بالنظر إلي قدرة اللَّه تعالي، وهذا المقدار من الإمكان الوقوعي كافٍ

في الإرتداع من التولّي والكفر، وفي الإنقياد للرّسل والنظر في البيّنات، فإنّ بالإلتفات إلي إمكانه، ينقدح احتمال الضرر ويوجب الخوف.

مضافاً إلي أنّ العاقل إن التفت إلي مفاد كلمة (اللَّه)، أعني الإستجماع لجميع الصفات الكماليّة الّتي منها الحكمة، يري أنّه لا بدّ من البعث حتّي يعطي لكلّ ذي حقّ حقّه من النعيم، والإحسان للمحسن، والإنتصار للمظلوم، ومن العذاب والمجازاة للمسي ء والظالم بعد أن ينبأ بما عمل حتّي لا يبقي له حجّة، وغير ذلك [1].

[1] قال العلّامة الطباطبائي: إنّ التصريح باسم الجلالة في الجملة أعني قوله: «وَذلِكَ عَلَي اللَّهِ يَسيرٌ» للايماء إلي التعليل، والمفاد أنّ ذلك يسير عليه تعالي لأنّه اللَّه، والكلام حجّة برهانيّة لا دعوي مجردة «1».

__________________________________________________

(1) الميزان في تفسير القرآن 19/ 347.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 196

والرابع: قوله تعالي «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذي أَنْزَلْنا» فآمنوا، أمر للناس بالإيمان تفريعاً لما سبق [1]. فكأنّ المعني: أنّه لما رأيتم حال الكفّار، ووبال أمرهم، وحصل لكم الإلتفات إلي البعث، فآمنوا باللَّه ورسوله والنور الذي أنزلنا [2].

فإن قلت: ما معني النور هنا؟

[1] قال المراغي: بعد أن أبان لهم أدلّة التّوحيد والنّبوة بما لا مجال معه للإنكار، طالبهم بالإيمان بهما، فقال: «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذي أَنْزَلْنا» أي فصدقوا باللَّه ورسوله وكتابه الهادي لكم إلي سواء السبيل إذا تراكمت ظلمات الشبهات، والمنقذ لكم من الضلالة إذا أحاطت بكم الخطيئات «1».

[2] إلتفات من الغيبة إلي التكلم مع الغير، ولعلّ النكتة فيه تتميم الحجّة بالسلوك من طريق الشهادة، وهي أقطع للعذر، فكم فرق بين قولنا: والنور الذي أنزل وهو إخبار، وقوله: (والنور الذي أنزلنا) ففيه شهادة منه تعالي علي أنّ القرآن كتاب سماوي، نازل من عنده تعالي، والشهادة آكد من الأخبار

المجردة «2».

__________________________________________________

(1) تفسير المراغي 28/ 124.

(2) الميزان في تفسير القرآن 19/ 347.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 197

قلنا: قد ذكر المفسّرون أن النّور بمعني القرآن [1]. وقد ورد في الرواية أنّ النّور هنا أريد به عليّ بن أبي طالب عليه السّلام والأئمة من ولده، ولا منافاة بينهما لأنّ القرآن إمام صامت، والأئمّة عليهم السّلام قرآن ناطق. «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصيرٌ» [2]

[1] روي السيوطي، إنّ اللَّه سمّي القرآن بخمسة وخمسين إسماً، سمّاه كتاباً ومبيناً في قوله «حم* وَالْكِتابِ الْمُبينِ» «1»

وقرآناً وكريماً في قوله «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَريمٌ» «2»

وكلاماً «حَتَّي يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ» «3»

ونوراً «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبينًا» «4»

. وقال: وأمّا النور، فلأنّه يدرك به الغوامض من الحلال والحرام «5».

[2] تارة قال عز من قائل (واللَّه بما تعملون بصير) وتارة قال (واللَّه بما تعملون خبير)، والمعني في الأوّل إن اللَّه تبارك وتعالي بصير بمن هو قابل ومستعدّ للهداية والإيمان من الكفّار، وفي الثاني أنّه تعالي __________________________________________________

(1) سورة الدخان، الآية: 1.

(2) سورة الواقعة، الآية: 77.

(3) سورة التوبة، الآية: 6.

(4) سورة النساء، الآية: 174.

(5) الإتقان 1/ 141- 145.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 198

خبير وعليم بالبواطن، هل آمنوا بألسنتهم فقط ليحقنوا به دماءهم أو قوله تعالي: «يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا اْلأَنْهارُ خالِدينَ فيها أَبَدًا ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظيمُ* وَالَّذينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدينَ فيها وَبِئْسَ الْمَصيرُ».

فهنا تحقيقاتٌ:

الأوّل: إنّ الظاهر تعلّق ظرف الزمان «يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ» بالجملة المتّصلة به وهي قوله «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبيرٌ» كما يقال: إنّ الحاكم مطّلع علي ما ارتكبوه من الجرائم يوم يدعوهم إلي المجازاة، أو إنّ المعلّم مطّلع علي ما صنعه

الأطفال في الجمعة يوم يأتون إليه في سبتهم، أو إنّ ربّ البيت بصيرٌ وخبير بحال الضيوف يوم يأتون للضيافة، إلي غير ذلك [1]، فيكون المعني: واللَّه بما تعملون ذا خبرة وإطّلاع يوم يجمعكم … وما ذكر أولي من تعلّقه بما سبق من قوله آمنوا بألسنتهم وقلوبهم؟

[1] قال الطّبرسي قدّس سرّه: البعث والجزاء يكونان في يوم يجمع فيه خلق الأوّلين والآخرين «1». وقال الحوفي: (يوم) ظرف لخبير، وهو عند غير واحد من الأجلّة بمعني مجازيكم، فيتضمّن __________________________________________________

(1) مجمع البيان 10/ 31.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 199

تعالي «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظيمٌ»، فإنّه مع بعده بفواصل، لا يناسبه تمام المناسبة ما يتلوه من قوله «وَالَّذينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا …» فإنّه قد فهم من قوله «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظيمٌ». وأمّا لو تعلّق بجملة «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبيرٌ» فيكون المعني: أنّ اللَّه بما تعملون ذا خبرة وإطّلاع، فيكفّر سيئات من آمن وعمل صالحاً ويدخله الجنّات، ومن كفر وكذّب بالآيات فهو من أصحاب النّار.

وما ذكرناه وإن كان علي خلاف ما نقل في التفاسير، لكنّه أظهر وأبين.

الثاني: تغيير السياق بين الآيتين، فإنّ في الأولي أوتي بالجملة الفعليّة فقال: «وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ»، وفي الوعد والعيد «1».

وقال العلّامة الطباطبائي: (يوم) ظرف لقوله السابق «لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ» … والمراد بيوم الجمع يوم القيامة الذي يجمع فيه الناس لفصل القضاء بينهم، قال تعالي «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعًا» «2»

، وقد تكرّر في القرآن الكريم حديث الجمع ليوم القيامة «3».

__________________________________________________

(1) روح المعاني/ تفسير الآلوسي 28/ 123.

(2) سورة الكهف، الآية: 99.

(3) الميزان في تفسير القرآن 19/ 349.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 200

الثانية أوتي بالجملة الاسميّة فقال: «وَالَّذينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ».

ولعلّ النكتة في

ذلك، إنّ الخير مطلقاً ينسب إليه تعالي، والشرّ مطلقاً ينسب إلي المخلوق، كما هو مفاد قوله تعالي «ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ» «1»

، وكما في الحديث القدسي «أنا أولي بحسناتك منك، وأنت أولي بسيئاتك منّي» «2»، فكما أنّ هذا الإسناد بالنسبة إلي الأعمال الحسنة والسيّئة، كذلك يكون بالنسبة إلي الجزاء.

الثالث: إنّ قوله تعالي «يَوْمُ التَّغابُنِ» [1] أي اليوم الّذي يتغابن فيه النّاس، بمعني يعطي الكفّار سهم أهل الجنة من النّار، ويعطي المؤمنون سهم أهل النّار من الجنّة، كأنّهم يتوارثون. بدليل الكتاب والسنّة، أمّا الكتاب، فقوله تعالي «الَّذينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فيها خالِدُونَ» «3».

__________________________________________________

(1)

سورة النساء، الآية: 79.

(2) التوحيد: 338، وتفسير الصافي 1/ 473.

(3) سورة المؤمنون، الآية: 11.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 201

[1] قال محمّد عزّة: التّغابن من الغبن، وهو بيع شي ء بأعلي من قيمته بالتغيّر، والقصد من الكلمة هو أنّ يوم القيامة هو اليوم الذي يظهر فيه المغبون في الدنيا، الذين اشتروا الضلالة بالهدي والعذاب بالمغفرة فما ربحت تجارتهم «1».

وقال الراغب: يوم التّغابن، يوم القيامة، لظهور الغبن في المبايعة، والمشار إليها بقوله «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ» «2»

وبقوله «إِنَّ اللَّهَ اشْتَري مِنَ الْمُؤْمِنينَ» «3»

الآية وبقوله «الَّذينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَنًا قَليلًا» «4»

فعلموا أنّهم غبنوا فيما تركوا من المبايعة وفيما تعاطوه من ذلك جميعاً «5».

وعن حفص بن غياث عن أبي عبداللَّه (الصّادق) عليه السّلام قال:

«يوم التّلاق» يوم تلتقي أهل السماء والأرض، و «يوم التناد، يوم ينادي أهل النار أهل الجنة «أَفيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ»، ويوم __________________________________________________

(1) التفسير الحديث 9/ 159.

(2) سورة البقرة، الآية: 207.

(3) سورة التوبة، الآية: 111.

(4) سورة آل عمران، الآية: 77.

(5)

المفردات في غريب القرآن: 257.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 202

وأمّا السنّة، فما رواه علي بن إبراهيم القمي عن الصّادق عليه السّلام قال: «ما خلق اللَّه خلقاً إلّاجعل له في الجنّة منزلًا وفي النّار منزلًا، فإذا دخل أهل الجنّة الجنّة، وأهل النّار النّار، نادي منادٍ: يا أهل الجنّة أشرفوا فيشرفون علي أهل النار وترفع لهم منازلهم فيها، ثمّ يقال لهم: هذه منازلكم التي لو عصيتم اللَّه لدخلتموها، يعني النّار، قال: فلو أنّ أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنّة في ذلك اليوم فرحاً لما صرف عنهم من العذاب، ثمّ ينادي منادٍ، يا أهل النّار: إرفعوا رأسكم فيرفعون رؤوسهم، فينظرون منازلهم في الجنّة وما فيها من النعيم، فيقال لهم: هذه منازلكم التي لو أطعتم ربّكم لدخلتموها، قال: فلو أنّ أحداً مات حزناً لمات أهل النّار حزناً، فيورث هؤلاء منازل هؤلاء ويورث هؤلاء منازل هؤلاء، وذلك قول اللَّه عزّ وجلّ «أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ* الَّذينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فيها خالِدُونَ»» «1».

وفي (المجمع) عن النّبي صلّي اللَّه عليه وآله قال: «ما منكم من التغابن، يوم يغبن أهل الجنّة أهل النّار، ويوم الحشر، يوم يؤتي بالموت فيذبح «2».

__________________________________________________

(1) تفسير القمي 2/ 89.

(2) تفسير البرهان 4/ 342.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 203

أحدٍ إلّاله منزلان، منزلٌ في الجنّة ومنزل في النّار، فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنّة منزله» «1» [1] إنتهي.

هذا وجه تسمية يوم التغابن، ويفسّره ما بعده وهو قوله تعالي:

«وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ …» والآية «وَالَّذينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا» … [2].

[1] عن النّبي صلّي اللَّه عليه وآله: «ما من عبدٍ يدخل الجنة إلّاأري مقعده من النار لو أساء، ليزداد شكراً، وما من عبدٍ يدخل النار إلّاأري مقعده من الجنة ليزداد حسرة» وهو معني قوله

«ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ» «2».

[2] قال الفخر الرازي: في الآية مباحث:

الأوّل: قال «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» بطريق الإضافة، ولم يقل ونوره الذي أنزلنا بطريق الإضافة، مع أنّ النور ههنا هو القرآن، والقرآن في كلامه مضاف إليه؟

نقول: الألف واللام في النور بمعني الإضافة، كأنّه قال ورسوله ونوره الذي أنزلناه.

الثاني: بِمَ انتصب الظرف؟

نقول: قال الزجّاج بقوله (لتبعثن)، وفي الكشاف بقوله: (لتنبئون)،

__________________________________________________

(1) مجمع البيان 7/ 178.

(2) مجمع البحرين كلمة «غَبَنَ» 3/ 292.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 204

قوله تعالي: «ما أَصابَ مِنْ مُصيبَةٍ إِلّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَليمٌ* وَأَطيعُوا اللَّهَ وَأَطيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلي رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبينُ* اللَّهُ لاإِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَي اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» [1].

أو بخبير لما فيه من معني الوعيد، كأنّه قيل: واللَّه معاقبكم يوم يجمعكم، أو بإضمار أذكر.

الثالث: قال تعالي في الإيمان (ومن يؤمن باللَّه) بلفظ المستقبل، وفي الكفر وقال (والذين كفروا) بلفظ الماضي، فنقول: تقدير الكلام:

ومن يؤمن باللَّه من الذين كفروا وكذّبوا بآياتنا يدخله جنّات، ومن لم يؤمن منهم أولئك أصحاب النّار.

الرابع: قال تعالي (ومن يؤمن) بلفظ الواحد و (خالدين فيها) بلفظ الجمع.

نقول: ذلك بحسب اللفظ وهذا بحسب المعني.

الخامس: ما الحكمة في قوله (وبئس المصير) بعد قوله (خالدين فيها) وذلك بئس المصير، فنقول: ذلك وإن كان في معناه فلا يدلّ عليه بطريق التصريح، فالتصريح ممّا يؤكده «1».

[1] قال العلّامة الطباطبائي: شروع في ما هو الغرض من السورة

__________________________________________________

(1) التفسير الكبير 30/ 25.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 205

فهنا مباحث:

الأوّل: ربط هذه الآية بما قبلها. والظاهر أنه من حيث أنّه لما ذكر حال الكفّار وسوء حالهم في الآيات السّابقة، في قوله تعالي «فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَليمٌ»، والآية «وَالَّذينَ كَفَرُوا»،

ذكر هذه الآية «ما أَصابَ مِنْ مُصيبَةٍ» [1] أي: فذوقوا الوبال والعذاب الأليم والخلود في النّار، كلّ ذلك فرد من أفراد المصيبة، وبعد ذلك ذكر سبحانه بأنّ الإيمان يهدي الإنسان ويحفظه، والإيمان حائل بين الإنسان وبين المصيبة.

بعد ما مرّ من التمهيد والتوطئة، وهو الندب إلي الإنفاق في سبيل اللَّه والصّبر علي ما يصيبهم من المصائب في خلال المجاهدة في اللَّه سبحانه، وقدم ذكر المصيبة والإشارة إلي الصّبر إليها، ليصفو المقام لما سيندب إليه من الإنفاق وينقطع العذر «1».

[1] قال المراغي: ما أصاب أحداً من خيرات الدنيا ولذّاتها، أو رزاياها وشرورها، فهو بقضاء اللَّه وقدره بحسب ما وضع من السنن في نظم الكون، فعلي المرء أن يعمل ويجد ويسعي لجلب الخير ودفع الضرّ عن نفسه أو عن غيره ما استطاع إلي ذلك سبيلا».

__________________________________________________

(1) الميزان في تفسير القرآن 19/ 351.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 206

الثاني: قوله تعالي «إِلّا بِإِذْنِ اللَّهِ» بمعني أنّ كلّ شي ء يصيب الإنسان هو بإذن اللَّه [1]، والإذن هنا بالمعني التكويني لا التشريعي، فإنّ الإذن علي قسمين: تكويني وتشريعي.

ثمّ هو لا يحزن ولا يغتم لما يصيبه بعد ذلك، لأنّه قد فعل ما هو في طاقته وما هو داخل في مقدوره، وما بعد ذلك فليس له من أمره شي ء.

والخلاصة: إنّ علي المؤمن واجبين: (1) السعي وبذل الجهد في جلب الخير ودفع الضرّ ما استطاع إلي ذلك سبيلًا.

(2) التّوكل علي اللَّه بعد ذلك، إعتقاداً منه إنّ كلّ شي ءٍ يحدث، فإنّما هو بقضائه وقدره، فلا يغتم ولا يحزن لدي حلول الشر، ولا يتمادي في السرور عند مجيي ء الخير «1».

[1] قال محمّد عزّة: قد انطوي في الإيذان معني الإنذار، كما هو المتبادر أيضاً «2».

وقال الشيخ الطّوسي قدّس سرّه:

ويجوز أن يكون المراد بالإذن هاهنا العلم، فكأنّه قال: لا يصيبكم مصيبة إلّاواللَّه عالم بها «3».

__________________________________________________

(1) تفسير المراغي 28/ 126.

(2) التفسير الحديث 9/ 161.

(3) التبيان في تفسير القرآن 2/ 682.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 207

وقال العلّامة الطباطبائي: الإذن، الإعلام بالرّخصة وعدم المانع ويلازم علم الآذن بما أذن فيه، وليس هو العلم كما قيل، فظهر بما تقدّم:

أوّلًا: أنّ إذنه تعالي في عمل سبب من الأسباب هو التخلية بينه وبين مسببّه برفع الموانع التي تتخلّل بينه وبين مسببّه، فلا تدعه يفعل فيه ما يقتضيه بسببيّته، كالنّار تقتضي إحراق القطن مثلًا لولا الفصل بينهما والرطوبة، فرفع الفصل بينهما والرطوبة من القطن مع العلم بذلك إذن في عمل النار في القطن بما تقتضيه ذاتها أعني الإحراق.

وقد كان إستعمال الإذن في العرف العامّ مختصّاً بما إذا كان المأذون له من العقلاء لمكان أخذ معني الأعلام في مفهمومه فيقال:

أذنت لفلان أن يفعل كذا ولا يقال: أذنت للنار أن تحرق، ولا أذنت للفرس أن يعدّ، ولكن القران الكريم يستعمله فيما يعمّ العقلاء وغيرهم بالتحليل كقوله: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ» «1»

وقوله:

«وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ» «2»

، ولا يبعد أن يكون هذا

__________________________________________________

(1) سورة النساء، الآية: 44.

(2) سورة الأعراف، الآية: 58.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 208

التعميم مبنيّاً علي ما يفيده القرآن من سريان العلم والإدراك في الموجودات كما قدّمناه في تفسير قوله «قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ» «1».

وكيف كان، فلا يتمّ عمل من عامل ولا تأثير من مؤثّر إلّاباذن من اللَّه سبحانه، فما كان من الأسباب غير تامّ له موانع لو تحققت منعت من تأثيره، فإذنه تعالي له في أن يؤثّر رفعه الموانع، وما كان منها تامّاً لا

مانع له يمنعه، فإذنه له عدم جعله له شيئاً من الموانع، فتأثيره يصاحب الإذن من غير انفكاك.

وثانياً: إنّ المصائب، وهي الحوادث التي تصيب الإنسان فتؤثر فيه آثاراً سيئة مكروهة، إنّما تقع بإذن من اللَّه سبحانه، كما أنّ الحسنات كذلك، لإستيعاب إذنه تعالي صدور كلّ أثر من كلّ مؤثّر.

وثالثاً: إنّ هذا الإذن، إذن تكويني غير الإذن التشريعي الذي هو رفع الحظر عن الفعل، فإصابة المصيبة تصاحب إذناً من اللَّه في وقوعها وإن كانت من الظلم الممنوع، فإنّ كون الظلم ممنوعاً غير مأذون فيه إنّما هو من جهة التشريع دون التكوين، ولذا كانت بعض المصائب غير

__________________________________________________

(1) سورة حم السجدة، الآية: 21.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 209

فالإذن التشريعي: هو أن يأذن بشي ء كأن تقول مثلًا: قد أذنت لك أن تفعل هذا الشي ء.

والإذن التكويني: هو إيجاد أسباب الفعل وعدم منعها عن مقتضياتها، مع العلم بها وبأحوالها، فمن أرسل دابته مثلًا مع علمه بأنّها تذهب إلي الزرع وتأكله ولم يمنعها ولم يقيدها، بل جعلها مرسلة، ولم يمسك بلجامها، مع تمكنه من ذلك كلّه وعلمه بما يفعل، فكأنّه أذن لها في أكل الزرع إذناً عملياً.

والإذن في المقام من قبيل الثاني، أي قضاء اللَّه وقدره [1].

جائزة الصبر عليها، ولا مأذوناً في تحمّلها، ويجب علي الإنسان أن يقاومها ما استطاع، كالمظالم المتعلقة بالأعراض والنفوس.

ومن هنا يظهر، أنّ المصائب التي ندب إلي الصبر عندها هي التي لم يؤمر المصاب عندها بالذب والإمتناع عن تحملها، كالمصائب العامة الكونية من موت ومرض ممّا لا شأن لإختيار الإنسان فيها. وأمّا ما للإختيار فيها دخل، كالمظالم المتعلقة نوع تعلق بالإختيار، من المظالم المتوجهة إلي الأعراض، فللإنسان أن يتوقاها ما استطاع «1».

[1] الإذن التكويني، هو الإرادة التكوينية، والإذن التشريعي من

__________________________________________________

(1) الميزان في تفسير القرآن 19/ 352.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 210

الثالث: قوله «وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ» يستفاد منه [1] أنّ بالإيمان يهتدي القلب بهدايته سبحانه وينجو من المصائب، ولا تتوجّه إليه تبعات الضلالة التي هي أعظم المصائب. وهذه الجملة بمنزلة الأمر كأنّه قال: وآمنوا باللَّه حتي يهديكم اللَّه.

سنخ الإرادة التشريعية التي إذا تعلقت بشي ء كان محتماً أن يوجد، لا تتعلق بأفعالنا الإختيارية وإن كانت جميع أفعالنا خاضعة لإرادته التشريعية من حيث ترتّب المسئوليّة عليها، إذن. للَّه إرادتان: الإرادة التكوينية: وهي تلك المشيئة التي إذا تعلقت بواقعة كان من المستحيل تخلفها عنها. والإرادة التشريعية: وهذه تصلنا عن طريق الأنبياء عليهم السّلام الذين هم سفراء اللَّه إلينا، إنّهم يوصلون إرادة اللَّه التشريعية بصورة الأوامر والنواهي، والإرادة التشريعية لا توجد إجباراً في متعلّقها مطلقاً «1».

[1] قال عليّ بن إبراهيم القمي: أي يصدق اللَّه في قلبه، فإذا بين اللَّه له إختار الهدي ويزيده اللَّه، كما قال «وَالَّذينَ اهْتَدَوْا

__________________________________________________

(1) أنظر في ذلك شرح أصول الكافي للعلّامة الطباطبائي باب المشيئة والإرادة، حديث 4، وشرح أصول الكافي للشيخ صالح المازندراني مع حواشي الشعراني 4/ 361.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 211

زادَهُمْ هُدًي» «1» «2».

وقال الطّبرسي: من يؤمن باللَّه عند النعمة، فيعلم أنّها فضل من اللَّه يهد قلبه للشكر، ومن يؤمن باللَّه عند البلاء، فيعلم أنّه عدل من اللَّه يهد قلبه للصبر، ومن يؤمن باللَّه عند نزول القضاء يهد قلبه للإستسلام والرضا «3».

وقال الطنطاوي: من الحكماء وأرباب البصائر من يعرفون سرّ هذا الإختلاف، وإنّ وجود الحنظل والبطيخ، والبقة والفيل، والحرّ والبرد، والمرّ والحلو، مشابهات تمام المشابهة لما في العقول من كفر وإيمان، وخير وشرّ، وجهل وعلم، وإنّ النظام في الحالين واحد، ولكنّهم لا

يريدون أن يذكروا الحقائق التي عرفوها، لأنّ جمهور النوع الإنساني غير كفوء لفهم هذه الحقائق، فلذلك يكتمونها «4».

وقال المراغي: «يَهْدِ قَلْبَهُ» أي يشرح صدره، لازدياد الخير

__________________________________________________

(1) سورة محمّد، الآية: 17.

(2) تفسير القمي 2/ 372.

(3) مجمع البيان 10/ 33.

(4) تفسير الجواهر 24/

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 212

«وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَليمٌ» أي عالم بما في القلوب، بمعني يعلم أيّ شخص آمن باللَّه حقيقةً، أو لم يؤمن حقيقةً، وعالم بمقتضيات المصائب وبموانعها ودوافعها [1].

والمضي قدماً في طاعة اللَّه، وأيّ نعمة أعظم من هذه النعمة؟ جدّ في عمل الخير، واستراحة لدي الغم والحزن، وإطمئنان للنفس، ووثوق بفضل اللَّه «1».

وقال العلّامة الطباطبائي: فالإذعان بكونه تعالي هو اللَّه، يستعقب إهتداء النفس إلي هذه الحقائق وإطمئنان القلب وسكونه وعدم اضطرابه وقلقه من جهة تعلقه بالإسباب الظاهرية، وإسناده المصائب والنوائب المرة إليها دون اللَّه سبحانه، وهذا معني قوله تعالي «وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ» «2».

[1] قال ابن عباس «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ» يصيبكم من المصيبة وغيرها «عَليمٌ» «3».

وقال الطّبري: واللَّه بكلّ شي ء ذو علم بما كان ويكون وما هو كائن __________________________________________________

(1) تفسير المراغي 28/ 127.

(2) الميزان في تفسير القرآن 19/ 304.

(3) تنوير المقباس من تفسير ابن عبّاس، الفيروزآبادي: 474.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 213

الرابع: «وَأَطيعُوا اللَّهَ وَأَطيعُوا الرَّسُولَ» هو بمثابة العطف علي الأمر بالإيمان المستفاد من سابقه، فإنّه قال: آمنوا باللَّه وأطيعوا، وقد ذكرنا أنّ جملة «وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ» يستفاد منها: إنّها خبريّة

من قبل أن يكون «1».

وقال الفيض الكاشاني: «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَليمٌ» حتّي القلوب وأحوالها «2».

وقال المراغي: واللَّه عليم بالأشياء كلّها، فهو عليم بالقلوب وأحوالها ومطّلع علي سرّها ونجواها، فاحذروه وراقبوه في السرّ والعلن، كما جاء في الأثر «اعبد اللَّه كأنّك تراه فإن

لم تكن تراه فإنّه يراك» «3».

وقال العلّامة الطباطبائي: تأكيد للإستثناء المتقدّم، ويمكن أن يكون إشارة إلي ما يفيده، قوله: «ما أَصابَ مِنْ مُصيبَةٍ فِي اْلأَرْضِ وَلا في أَنْفُسِكُمْ إِلّا في كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها» «4» «5».

__________________________________________________

(1) جامع البيان 28/ 157.

(2) التفسير الصافي 7/ 210.

(3) تفسير المراغي 28/ 127.

(4) سورة الحديد، الآية: 22.

(5) الميزان في تفسير القرآن 19/ 305.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 214

مستعملة في مقام الإنشاء والحثّ والترغيب، كما يقال: من صلّي كذا فله كذا، ومن تصدّق فله كذا، إلي غير ذلك من الجمل الخبرية المتضمنة للخواص والآثار المستعملة في مقام الترغيب والحثّ علي العمل، فقوله: «وَأَطيعُوا» بمثابة العطف علي الآية السابقة، وحثّ علي الإطاعة، كما إنّ تلك الآية حثّ علي الإيمان.

ويستفاد منها: إنّ مجرد الإيمان لا يكفي، بل لا بدّ من الإطاعة للَّه وللرّسول، مضافاً إلي أنّ حقيقة الإيمان لا تثبت إلّابها [1].

[1] قال الآلوسي: كرّر الأمر «وَأَطيعُوا» للتأكيد والإيذان بالفرق بين الإطاعتين في الكيفية «1».

قال العلّامة الطباطبائي: ظاهر تكرار «وَأَطيعُوا» دون أن يقال:

أطيعوا اللَّه والرّسول، إختلاف المراد بالإطاعة فالمراد بإطاعة اللَّه تعالي، الإنقياد له فيما شرعه لهم من شرائع الدين، والمراد بإطاعة الرّسول، الإنقياد له وإمتثال ما يأمر به بحسب ولايته للأمّة علي ما جعلها اللَّه له «2».

وقال الشيخ محمود شلتوت: أمرهم بطاعة اللَّه ورسوله فيما بلّغهم الرسول عن ربّه «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَطيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ»

__________________________________________________

(1) روح المعاني 28/ 125.

(2) الميزان في تفسير القرآن 19/ 305.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 215

«فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ» أي أعرضتم عن الحقّ «فَإِنَّما عَلي رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبينُ» [1] بمعني أنّ إعراضكم لا يضرّ النّبي صلّي اللَّه عليه وآله بل ضرره علي أنفسكم، فالنّبي صلّي اللَّه عليه وآله مكلّف

بالإبلاغ.

قوله: «الْمُبينِ» بيان للبلاغ، لأنّ البلاغ علي قسمين: مبين وغير مبين، ووظيفة النّبي البلاغ المبين أي الواضح.

الخامس: قوله تعالي «لاإِلهَ إِلّا هُوَ» يستفاد منه علّة إناطة جميع المصائب بإذن اللَّه تعالي، فكأنّه جواب عن سؤال مقدّر: لماذا كان كذلك؟

والطاعة هي العنصر المحقق لفائدة التشريع، وهي العنوان الصّادق علي الإيمان الحقّ، والإيمان الذي يفقد عنوان العمل تعوزه الحجّة والبرهان، وهو بعد عرضة للضعف والزوال، ويقرب بصاحبه إلي الكفر والنفاق، ومن هنا جاء النهي عن الإعراض والتولّي مؤكّداً للأمر بالطاعة «1».

[1] قال العلّامة الطباطبائي: ولما تقدّم من رجوع طاعة الرسول إلي طاعة اللَّه، إلتفت من الغيبة إلي الخطاب في قوله: «رَسُولُنا» وفيه مع ذلك شي ء من شائبة التهديد «2».

__________________________________________________

(1) تفسير القرآن الكريم: 576.

(2) الميزان في تفسير القرآن 19/ 305- 306.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 216

والجواب: إنّ «اللَّهُ لاإِلهَ إِلّا هُوَ» …، لأنّ الألوهية منحصرة في اللَّه، وكلّ شي ء مخلوق منه، وتحت إرادته تبارك وتعالي [1] ولمّا كان الأمر كذلك، فلا مجال لأن يعتمد الإنسان علي قواه وتدابيره.

بل، «وَعَلَي اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» «1»

بمعني يفوّضون أمورهم إليه [2].

[1] قال الآلوسي: تعليل للجواب المحذوف أقيم مقامه، أي فلا بأس عليه إذ ما عليه إلّاالتبليغ المبين، وقد فعل ذلك بما لا مزيد عليه، وإظهار الرسول مضافاً إلي نون العظمة في مقام إضماره لتشريفه عليه الصّلاة والسّلام والإشعار بمدار الحكم الذي هو كون وظيفته صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم محض البلاغ، ولزيادة تشنيع التولي عنه والحصر في الكلام إضافي «2».

[2] قال الشيخ محمود شلتوت: التّوكل علي اللَّه وحده، والتّوكل أعلي مقامات التوحيد وأنّ من مقتضيات الإيمان بأنّ اللَّه هو المدبر للأمور، التّوكل عليه في كلّ ما يحتاج إليه المؤمن فيما وراء مقدوره،

__________________________________________________

(1) سورة

آل عمران، الآية 122 و 160، وسورة المائدة، الآية 11، وسورة التوبة، الآية 51.

(2) روح المعاني 28/ 125.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 217

وليس من متناول التّوكل ترك الأسباب وتنكب سنن اللَّه في الخلق،

فمن يترك الطعام والشراب باسم التّوكل علي اللَّه في حفظ حياته، فهو جاهل باللَّه، ومن يترك العمل للحصول علي الرزق وما به قوت أولاده باسم التّوكل علي اللَّه، فهو جاهل باللَّه، ومن يترك إعداد العدّة للدفاع عن الأوطان وإعلاء كلمة اللَّه باسم التّوكل علي اللَّه وباسم أنّ اللَّه يدافع عن الذين آمنوا، فهو جاهل باللَّه «1».

وقال العلّامة الطباطبائي: تأكيداً لمعني الجملة السابقة أعني قوله: «اللَّهُ لاإِلهَ إِلّا هُوَ»، توضيحه: أنّ التوكيل إقامة الإنسان غيره مقام نفسه في إرادة أموره، ولازم ذلك قيام إرادته مقام إرادة موكّله، وفعله مقام فعله فينطبق بوجه علي الإطاعة، فإنّ المطيع يجعل إرادته وعمله تبعاً لإرادة المطاع، فتقوم إرادة المطاع مقام إرادته ويعود عمله متعلّقاً لإرادة المطاع، صادراً منها إعتباراً، فترجع الإطاعة توكيلًا بوجه، كما أنّ التوكيل إطاعة بوجه، فإطاعة العبد لربّه إتباع إرادته لإرادة ربّه والإتيان بالفعل علي هذا النمط، وبعبارة أخري إيثار إرادته وما يتعلّق بها من العمل علي إرادة نفسه وما يتعلّق بها من العمل، فطاعته تعالي فيما شرّع لعباده وما يتعلّق بها نوع تعلّق من التوكّل عليه، وطاعته واجبة لمن عرفه وآمن به،

__________________________________________________

(1) تفسير القرآن الكريم: 572.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 218

قوله تعالي: «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحيمٌ* إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظيمٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ

الْمُفْلِحُونَ* إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَليمٌ* عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزيزُ الْحَكيمُ».

يستفاد من هذه الآيات أمور:

الأوّل: قوله تعالي «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا …» بيان بعض المصائب وبيان منشأ المصيبة، بمعني أنّه تعالي يذكر الإنسان بأنّ بعض الأزواج والأولاد عدوّ للإنسان، فهذا من المصائب، ولفظ (من) هنا للتبعيض، بمعني أنّهم يشغلونكم ويمنعونكم عن طاعة اللَّه عزّ وجلّ، فاحذروا منهم [1].

فعلي اللَّه فليتوكّل المؤمنون، وإيّاه فليطيعوا، وأمّا من لم يعرفه ولم يؤمن، فلا تتحقق منه طاعة، وقد بان بما تقدّم، أنّ الإيمان والعمل الصالح نوع من التّوكّل علي اللَّه تعالي «1».

[1] عن ابن عباس، قالوا لهم: صبرنا علي إسلامكم فلا صبر لنا

__________________________________________________

(1) الميزان في تفسير القرآن 19/ 355.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 219

علي فراقكم فأطاعوهم وتركوا الهجرة فقال اللَّه تعالي (فاحذروهم) أي أن تطيعوهم وتدعوا الهجرة. وعن عطاء بن يسار نزلت في عوف بن مالك الأشجعي وكان ذا أهل وولد، فإذا أراد أن يغزو بكوا عليه ورقّقوه، وقالوا إلي من تدعنا، فيرق عليهم فيقيم «1».

وعن ابن عباس: كان الرجل يسلم فإذا أراد أن يهاجر منعه أهله وولده وقالوا: ننشدك اللَّه أن تذهب فتدع أهلك وعشيرتك، وتصير إلي المدينة بلا أهل ولا مال، فمنهم من يرق لهم ويقيم ولا يهاجر، فأنزل اللَّه هذه الآية.

وعنه: وهؤلاء الذين منعهم أهلهم عن الهجرة لما هاجروا ورأوا الناس فقد فقهوا في الدين، همّوا أن يعاقبوا أهليهم الذين منعوهم، فأنزل اللَّه تعالي «وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحيمٌ».

وعن إسماعيل بن أبي خالد قال: كان الرجل يسلم فيلومه أهله وبنوه، فنزلت هذه الآية «إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ» «2».

__________________________________________________

(1) تفسير الخازن 4/ 276.

(2) أسباب

النزول للنيسابوري: 288.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 220

وذكر أنّ الآية لمّا نزلت علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله كان الناس يهاجرون إليه من البلاد، وكان بعضهم يريد أن يهاجر، يمنعهم الأهل والأولاد، ويقولون له، إلي أين تذهب؟ أسكن في بلدك وبيتك، ولا ترحل من عندنا، وهم لا يعتنون إلي منعهم، بل كانوا يهاجرون ويخلصون أنفسهم من أيديهم، لأنّهم كانوا يرون المهاجرين إلي النّبي صلّي اللَّه عليه وآله صاروا فقهاء وعلماء، وهؤلاء لا يزالون في غمرات الجهل وكان المهاجرون يغضبون علي الأهل والأولاد ويمنعونهم المعيشة، ولكنّ اللَّه تعالي يأمرهم بالعفو والصفح والغفران. «وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحيمٌ» أي إذا غفرتم وعفوتم فاللَّه أيضاً يغفر لكم ويرحمكم.

إن قلت: لماذا جيي ء هنا بثلاثة ألفاظ: العفو، والصفح، والغفران؟

قلنا: لأنّ مراتب العفو ثلاثة: فإمّا أن يكون بالظّاهر، أعني اللسان والجوارح، فهذا يسمّي عفواً.

وإمّا العفو بالظاهر والقلب، ويسمّي صفحاً.

وإمّا العفو بمعني محو الخطيئة عن نظر الإنسان مثل: التائب من الذنب كمن لا ذنب له «1»، وهذا يسمّي غفراناً.

__________________________________________________

(1) الكافي 2/ 435، باب التوبة، الرّقم 10.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 221

وبعبارة أخري: تارةً مجرّد عدم المجازاة فهو العفو، وأخري الإغماض عنه وهو الصّفح، وثالثة محو ذنبه بالكلية وهو الغفران [1].

الثاني: قوله تعالي «إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ»، ربط الآية بما قبلها: أنّه لما ذكر سبحانه الأزواج والأولاد وعداوتهم، ذكر بعد ذلك أنّ الأموال والأولاد فتنة، وقدّمت الأموال علي الأولاد، لأنّها أعظم فتنة، ويمتحن الإنسان بهم [2].

[1] قال الرّاغب: عفوت عنه، قصدت إزالة ذنبه صارفاً عنه، فالمفعول في الحقيقة متروك، والصفح ترك التثريب وهو أبلغ من العفو …

وصفحت عنه أوليته مني صفحة جميلة معرضاً عن ذنبه، أو لقيت صفحته متجافياً عنه،

أو تجاوزت الصفحة التي أثبتت فيها ذنبه من الكتاب.

والغفران والمغفرة من اللَّه: هو أن يصون العبد من أن يمسه العذاب «1».

[2] أخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه عن بريدة قال: كان النّبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم يخطب، فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثران، فنزل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم من المنبر

__________________________________________________

(1) المفردات: 338 و 283 و 363.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 222

فحملهما واحداً من ذا الشق وواحداً من ذا الشق، ثمّ صعد المنبر فقال:

صدق اللَّه «أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ»، إنّي لما نظرت إلي هذين الغلامين يمشيان ويعثران، لم أصبر أن قطعت كلامي ونزلت إليهما «1».

وفي رواية ابن مردويه عن عبداللَّه بن عمر، أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله بينما هو يخطب الناس علي المنبر، خرج حسين بن علي علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله فوطي ء في ثوب كان عليه فسقط فبكي، فنزل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم عن المنبر فلمّا رآه الناس سعوا إلي حسين يتعاطونه، ويعطيه بعضهم بعضاً حتي وقع في يد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، فقال: «قاتل اللَّه الشيطان، إنّ الولد لفتنة، والذي نفسي بيده ما دريت أني نزلت عن منبري» «2».

قال العلّامة الطباطبائي: «الرواية لا تخلو من شي ء، وأنّي تنال الفتنة من النّبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم وهو سيّد الأنبياء المخلصين، معصوم مؤيد بروح القدس» «3» والشيطان لا يمكنه إغراؤهم فكيف به؟

__________________________________________________

(1) مسند أحمد 5/ 354، وسنن الترمذي 5/ 324، وسنن النسائي 3/ 192.

(2) تفسير الآلوسي 28/ 127.

(3) الميزان في تفسير القرآن 19/ 310.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 223

فإن قلت: لماذا كانت الآية السابقة، الأزواج

والأولاد، وهنا الأموال والأولاد؟

قلنا: لعلّه لأجل أنّ غالب ابتلاء الإنسان ومصائبه من المال والولد، وأكثر علاقة الإنسان بهما، ومراقبته غالباً منهما أكثر، كقوله تعالي: «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لاتُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» «1».

ثم إنّه لما كانت علاقة الإنسان بالمال والولد توجب وقوعه في المكاره، وكانت هي فتنة، وإمتحاناً، فمن التفت إلي ذلك وراقب اللَّه سبحانه في أموره نال أجراً عظيماً «وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظيمٌ».

ويستفاد من الآية: إنّ اللَّه سبحانه أحقّ بأن يتعلّق القلب به ويحبّه، فإنّ الأجر والفائدة من حضرته سبحانه عظيم، بخلاف ما يكون من قبل المال والولد، فإنّهما حقيران فيذهبان جفاء [1].

وأنّه الخاتم لما سبق والفاتح لما استقبل من الأئمّة المعصومين عليهم السّلام.

[1] عن ابن مالك الأشعري: «إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله قال: ليس عدوّك الذي إن قتلته كان فوزاً لك، وإن قتلك دخلت الجنة،

__________________________________________________

(1) سورة المنافقون، الآية: 9.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 224

الثالث: قوله تعالي «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ …».

يحتمل أن يكون المعني: أنّه بعد أن كان المال والولد فتنة، وانحصر الأجر العظيم فيما عنداللَّه، فلا بدّ أن لا يتّقي الإنسان ولده، بل يتّقي ربّه، كما في قوله تعالي «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ …» «1»

[1].

ويسمع منه ويطيعه، وأن لا يبخل بماله، بل ينفقه إنفاقاً، هو خير لنفسه، وعلي هذا يكون (خيراً) قيداً لكلمة (وأنفقوا) كما ذكر في التفاسير، وارتباط الجملة بما تقدّم بنحو اللف والنشر المشوّش.

ويحتمل أن يكون المعني: بعد أن كان الأجر العظيم عنداللَّه،

ولكن الذي خرج من صلبك، ثمّ اعدي عدو لك مالك الذي ملكت يمينك» «2».

[1] وقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله لابن مسعود: يابن مسعود، لا تحملنك

الشفقة علي أهلك وولدك علي الدخول في المعاصي والحرام، فإنّ اللَّه تعالي يقول: «يَوْمَ لايَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ* إِلّا مَنْ أَتَي اللَّهَ بِقَلْبٍ سَليمٍ» «3» «4».

__________________________________________________

(1)

سورة آل عمران، الآية: 102.

(2) تفسير القرآن العظيم 4/ 376.

(3) سورة الشعراء، الآية: 88- 89.

(4) بحار الأنوار 74/ 108.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 225

فلا بدّ أن يتّقي الإنسان ربّه فيسمع ويطيع وينفق، وتكون هذه الأمور الثلاثة بياناً للتقوي، ويكون (خيراً لأنفسكم) قيداً للكلّ (ومن يوق شحّ نفسه) مرتبط بالإنفاق، والشّح ظاهره بمعني البخل مع الحرص، أي بخل نفسه؛ وفي مجمع البيان: قال الصادق عليه السّلام «من أدي الزكاة فقد وقي شحّ نفسه» «فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» أي الفائزون في الدّارين [1].

الرابع: قوله تعالي «إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضاعِفْهُ لَكُمْ [1] قال الشيخ الطوسي: «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ» أي من منع ووقي شحّ نفسه، والشّح منع الواجب في الشّرع. وقيل: الشّح منع النفع علي مخالفة العقل لمشقة البذل، ومثله البخل، يقال: شح يشح فهو شحيح وشحاح.

وقال ابن مسعود: من الشح أن تعمد إلي مال غيرك فتأكله.

وقوله: «فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» قال: معناه إنّ من وقي شحّ نفسه، وفعل ما أوجبه اللَّه عليه، فهو من جملة المنجحين الفائزين بثواب اللَّه «1».

وقال عليّ بن إبراهيم القمي: يوق الشّح إذا اختار النفقة في طاعة اللَّه، قال: وحدثني أبي، عن الفضل بن أبي قره قال: رأيت أبا عبداللَّه عليه السّلام يطوف من أوّل الليل إلي الصّباح وهو يقول: اللّهمّ قني شحّ نفسي، فقلت جعلت فداك ما سمعتك تدعو بغير هذا الدعاء، قال: وأيّ __________________________________________________

(1) التبيان في تفسير القرآن 2/ 683.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 226

وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَليمٌ» هنا نذكر جهات:

الأولي: التعبير عن الإنفاق بالإقراض للَّه، إستعارة لما

بينهما من الشبه، فإنّ القرض، هو إعطاء المال بضمان عوضه [1] والإنفاق له عوض قد ضمنه اللَّه تعالي.

الثانية: قد وصف القرض بالحسن، فإنّ القرض أعني الإنفاق السي ء الذي يخالطه المنّ والأذي، أو تشوبه السّمعة والرياء، أو غير ذلك ليس له هذا الأثر.

الثالثة: المضاعفة هاهنا قد أشير إليها في مكان آخر بقوله سبحانه «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها» «1»

وورد في الحديث مفصّلًا، وذكر القرض تلطف به في الإستدعاء.

شي ء أشدّ من شحّ النفس؟ إنّ اللَّه يقول: «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «2».

[1] قال النّبي صلّي اللَّه عليه وآله: «من احتاج إليه أخوه المسلم في قرض وهو يقدر عليه فلم يفعل، حرّم اللَّه عليه ريح الجنة» «3».

__________________________________________________

(1)

سورة الأنعام، الآية 160.

(2) تفسير القمي 2/ 372.

(3) بحار الأنوار 73/ 335.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 227

الرابعة: قد ذكر للقرض أعني الإنفاق خاصيتان [1] إحداهما:

المضاعفة، والأخري: المغفرة. يشهد عليهما أنّه تعالي (شكور حليم) فوصف (الشكور) للجزاء بالمضاعفة (والحليم) للمغفرة [2].

الخامس: إنّه وصف سبحانه نفسه، بأنّه عالم الغيب والشهادة، ما غاب وما شوهد، فإنّ جميع موجودات عالم الكون، ينتهي أمرها إليه سبحانه، فلا يخفي عليه شي ء، سواء كان ممّا مضي أو ممّا يأتي، وسواء كان مكشوفاً لغيره أو مستوراً عنه. ويرتبط هذا التوصيف بمقام الإنفاق، فإنّ الإنفاق تارةً يكون علناً وأخري سرّاً، فهو علي كلا قسميه يعلمه اللَّه ويجازي عليه.

السادس: إنّه وصف نفسه سبحانه، بأنّه (العزيز الحكيم) فإنّ له [1] قال العلّامة الطباطبائي: «المراد بإقراض اللَّه، الإنفاق في سبيله. سمّاه اللَّه إقراضاً للَّه وسمّي المال المنفق قرضاً حسناً حثاً وترغيباً لهم فيه» «1».

[2] قال الطّبرسي: ««حَليمٌ» لا يعاجل العباد بالعقوبة وهذا غاية الكرم» «2».

__________________________________________________

(1) الميزان في تفسير القرآن 19/ 309.

(2)

مجمع البيان 10/ 35.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 228

العزّة المطلقة التامّة حيث أنّه لا كفو له، ولا ندّ له، ولا مثيل له، وجميع الخيرات والمنافع تصدّر منه، وهو القاضي لما تحتاج إليه الممكنات في جميع حالاتها، وذلك كلّه مناط العزّة وله الحكمة البالغة الكاملة، يدبّر شؤون الكلّ ويديرها، ويضع كلّ شي ء موضعه، ويعطي لكلّ ذي حقّ حقّه، ويهيي ء الأسباب المناسبة لمسبباتها، كلّ ذلك بكمال الإتقان والنّظم الدّقيق. ويرتبط الوصفان أيضاً بمقام الإنفاق حيث إنّ ترتيب الآثار النّافعة، والخواصّ الخيرية علي الإنفاق زائداً علي الأمر به، تتميماً لدعوة الأمر، حيث إنّ غالب النّفوس البشرية إذا عرفت خاصيّة الشي ء اشتاقت إليه وعملت به، بخلاف مالو كان هناك مجرّد الأمر به، فربما لم ينبعث، وربما تواني في العمل به، ولقد ذكر الشيخ الرئيس: إنّ المثوبات الموعودة في الأوامر الشرعية، هي بمقتضي الحكمة تتميماً لدعوتهما وتكميلًا لباعثيتها في غالب النفوس البشرية [1]، هذا وآخر دعوانا، أن الحمد للَّه ربّ العالمين.

[1] قال الشيخ الرئيس ابن سينا: المثوبات الموعودة في الأوامر الشرعية تتميم لداعويتها وتكميل لباعثيتها «1».

قال المراغي: «خلاصة ما حوته السورة.

__________________________________________________

(1) الشفاء: 182.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 229

(1) صفات اللَّه الحسني.

(2) إنذار المشركين بذكر ما حلّ بمن قبلهم من الأمم مع بيان السبب فيما نالهم من ذلك.

(3) إنكار المشركين للبعث.

(4) بيان أن ما يحدث في الكون، فهو بأمر اللَّه وتقديره.

(5) تسلية الرّسول صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، بأنّه لا يضرّه إصرارهم علي الكفر.

(6) إنّ من الأزواج والأولاد أعداء للمرء.

(7) الأموال والأولاد فتنة وابتلاء.

(8) الحثّ علي التّقوي والإنفاق في سبيل اللَّه «1».

هذا آخر ما كتبناه في التعليق علي سورتي الجمعة والتغابن، في يوم ولادة سيّد الوصيين أمير المؤمنين علي بن أبي

طالب عليه أفضل الصّلاة والسّلام سنة 1401 هجرية في مكتبة سيدي الوالد رضوان اللَّه عليه وقدّس سرّه، في مشهد إمامنا الرّضا عليه آلاف التّحية والثّناء.

السيد محمّد عليّ الحسينيّ الميلاني __________________________________________________

(1) تفسير المراغي 28/ 132.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 3، ص: 230

الكتاب القادم: … ص: 230

الهداية

في كون الشهادة بالولاية في الأذان والإقامة

جزءٌ كسائر الأجزاء

من بحوث آية اللَّه العظمي الشيخ عبدالنبي العراقي تقرير

العلّامة الشيخ محمّد حسين آل طاهر الخميني

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.